يحبس العالم أنفاسه بانتظار القرار الاستراتيجي الذي ستتخذه موسكو تجاه أوكرانيا، وبما أن قرار التراجع غير مطروح، تنحصر خيارات موسكو غير الدبلوماسية بأمرين لا ثالث لهما، إما التوغل وإما الغزو، ولكل منهما شكله السياسي والعسكري، وتداعياته على أوكرانيا ومستقبلها وعلى الخريطة الجيوسياسية الأوروبية، و كيفية إدارة الصراع الجديد بين روسيا والغرب في مرحلة نهاية ما بعد نهاية الحرب الباردة.
التوغل يعني سيطرة روسيا غير الكاملة على الأراضي الأوكرانية، ومن الصعب معرفة حجمه، والذي يتطلب بعض الوقت من أجل تحديده ميدانيا وهل ستكون العاصمة كييف ضمن المناطق المسيطر عليها، أم أنها ستُقسم كما قُسمت برلين بعد هزيمة النازية، فالسؤال الذي يملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقط الإجابة عليه هو: ما هي حدود التوغل؟ وهل سيكون مثلاً مجرى نهر دنبير الحد الفاصل ما بين الأوكرانيتين واحدة شرقية وأخرى غربية؟
فِعل التقسيم في الظاهر العام، قد يبدو انتصاراً لموسكو، لكنه في العمق خسارة استراتيجية ولا يمكن مقارنته بتقسيم ألمانيا لأن الأخيرة كان تقسيمها متصلاً بانقسام كافة القارة الأوروبية إلى معسكرين شرقي وغربي، ولكن حاليا الجزء الغربي المتوقع من أوكرانيا المقسمة سيكون تحت سيطرة الناتو، ما يسمح للولايات المتحدة بالتواجد داخل الأراضي الأوكرانية وأن تنشر قوة استراتيجية على تخوم روسيا، إضافة إلى نقل العاصمة إلى مدينة آمنة على الأرجح هي لفيف القريبة جدا من الحدود البولندية، ما يعني أن المسافة الاستراتيجية ما بين موسكو وحدود الناتو أصبحت تبدأ من داخل أوكرانيا، وهذا يطيح بكافة الذرائع الأمنية التي قدمتها موسكو لتبرير الحرب على أوكرانيا، والنتيجة أن موسكو التي خاضت الحرب لمنع تواجد الناتو داخل الأراضي الأوكرانية، أصبح الناتو موجودا داخلها كرد فعل على توغلها.
أما الخيار الآخر وهو غزو كامل الأراضي الأوكرانية، و تحول أوكرانيا إلى دولة محتلة مباشرة تخضع لحكم عسكري روسي. وحتى لو نجحت موسكو في تسليم السلطة لحكومة تابعة لها على غرار حكومة فيشي في فرنسا إبان الاحتلال الألماني، فإن لهذا القرار تداعيات كبيرة،فلا أحد يضمن استسلام الشعب الأوكراني، وفكرة المقاومة المدعومة من الغرب ستكون مرهقة على غرار الحرب الأفغانية، كما أن الأعباء الاقتصادية الإضافية ستزداد على الخزينة الروسية المرهقة أصلا والتي سترزح تحت وطأة العقوبات القاسية والمجهود العسكري وأعباء أوكرانيا المالية.
الغزو الروسي الكامل للأراضي الأوكرانية سيعيد إحياء ذاكرة أوروبا النازية، ويثير هواجس الأوروبيين من تكرار تجربة الرايخ الثالث وغزو الدول الضعيفة تحت ذرائع عديدة منها حماية الناطقين بالروسية، أو أنها مناطق تقع ضمن المجال الحيوي السوفياتي، لذلك يأتي تحذير الرئيس الأميركي، جو بايدن، مما يخطط له الكرملين، ليضع قادة الغرب أمام مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية في حماية قارتهم من النزعة التوسعية الروسية، حيث قال "إذا لم نواجه التهديدات اليوم سندفع الثمن في المستقبل"، وكأن واشنطن وضعت نفسها مكان لندن عشية الحرب العالمية الثانية.
تسمح القوة العسكرية الهائلة لروسيا بالغزو أو التوغل، وتكبيد أوكرانيا خسائر كبيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاحتلال لن يكون سهلاً وسريعاً كما جرى في الساعات الأولى من غزو أفغانستان، إذ يمتلك الأوكران أسلحة فتاكة أيضا قد تتسبب بخسائر فادحة للروس، لذلك في كلتا الحالتين، الغزو أو التوغل ورطة استراتيجية لروسيا التي وضعت نفسها في موقف حرج لم تعد قادرة على الانسحاب منه، لأن التراجع له تداعيات داخلية. فالانسحاب الحقيقي من الحدود سيؤدي إلى انسحاب بعض صناع القرار من السلطة، لذلك لم يبق أمام الكرملين إلا الاحتلال، حيث لا فرق لديه ما بين الغزو أو التوغل إلا بالعديد والعتاد.