د. منية الرقيق أستاذة جامعية وباحثة في علم الاجتماع ورئيسة قسم بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس. تحدثت في هذا الحوار الشامل لـ «القدس العربي» عن جائحة كورونا وتأثيراتها من وجهة نظر سوسيولوجية، مشيرة إلى ان هذه الجائحة جعلتنا نكتشف مكانة الفرد في بعده الكوني والمحلي والذاتي. وقالت إننا اليوم أمام مجتمع تحول إلى مجموع ذوات بلا ملامح. كما تطرقت إلى أوضاع المرأة في تونس في خضم الانتقال الديمقراطي وأهم التحديات أمام تمكينها السياسي. وأكدت أن غياب الشباب والمرأة عن مواقع القرار والمسؤولية يتعدى المؤسسات الرسمية ليشمل مختلف الأحزاب والجمعيات والمنظمات مهما اختلف نشاطها وتنوع مع بعض الاستثناءات. لتبقى ال السياسية في تونس بعد الثورة رهين الرقابة الذكورية والأبوية.يشار إلى ان د. رقيق متحصلة على دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تونس الأولى والتأهيل الجامعي لتأطير الأطروحات من نفس الجامعة. وهي أيضا عضوة ناشطة في الجمعية التونسية لعلم الاجتماع ومشرفة على مجموعة بحث «الدراسات النسائية» بمخبر «فيلاب» بجامعة تونس الأولى. وكذلك عضوة في «الجمعية التونسية لنقل التكنولوجيا». مختصة في الدراسات الجندرية في مجال السياسة والشغل والمؤسسة، وانثروبولوجيا الجسد. لها عدة مساهمات في ملتقيات علمية دولية ووطنية. وصدرت لها عديد الدراسات والبحوث. وفي ما يأتي نص الحوار.○ نبدأ من جائحة كورونا بكل مآسيها وتداعياتها فلو تحدثينا من وجهة نظر علمية اجتماعية عن أهم انعكاساتها وإلى أي مدى تؤثث لمرحلة جديدة في العالم وبنية المجتمعات؟• منذ أكثر من سنة يعيش العالم على وقع جائحة كورونا التي جعلتنا نقف على ظواهر ذات أبعاد مختلفة سوسيولوجية وانثروبولوجية ونفسية وثقافية وسياسية واقتصادية، أي بعبارة أخرى جائحة كورونا جعلتنا نكتشف مكانة الفرد في بعده الكوني والمحلي والذاتي. فمن وجهة نظر سوسيولوجية من المفيد جدا أن نعيد النظر في مكانة الفرد ومفهوم المجتمع ضمن براديغمات جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما يسمى بـ «مجتمع المخاطر» وتأثير ذلك على كينونة الفرد وكينونة المجتمع والعالم بأسره.○ يعني هل يمكننا أن نتحدث عن التحرر والقدرة على تحكم الفرد في قدره في ظل المخاطر المحدقة به من كل حدب؟• من مخاطر الجائحة انها أثرّت على علاقة الفرد بجسده الذي أصبح بارتداء «الكمامة» بدون ملامح وبدون هوية واضحة تميزه عن الآخرين وفي ظل التباعد الجسدي أصبحنا لا نشعر بوجود الآخر إلا بنبرات الصوت مما يسبب في نوع من الاغتراب والمجهولية التي ستؤثر سلبا على تمثلاتنا للجسد ولعلاقاتنا الاجتماعية، فنحن أمام مجتمع تحول إلى مجموع ذوات بلا ملامح.كما لاحظنا أن الجائحة كشفت لنا الفوارق الكبيرة بين الشعوب والمجتمعات على الصعيد العالمي، فنحن لسنا متساوين أمام المخاطر. في بداية الجائحة استسلمنا لها والتزمنا بالهروب والاختفاء ولم نخض حربا حقيقية لأن خوض الحروب يكون بالمواجهة لكننا عجزنا عن ذلك. ثم في مرحلة ثانية وبعد اكتشاف أولى التلاقيح كسلاح المواجهة أصبح التفاوت واضحا ومخيفا بين الأغنياء والفقراء أو بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة جعلت بلادا مثل تونس تحتل المراتب الأولى في عدد الموتى والمرضى والمراتب الدنيا في نسبة التلقيح رغم صغر حجمها. كذلك على المستوى المحلي نلاحظ أن تمثلاتنا للمخاطر وللمرض بصفة خاصة تختلف حسب الانتماء الطبقي والثقافي وهو ما يفسر تقريبا تعاملنا مع الحجر الصحي خصوصا في الآونة الأخيرة، إذ لاحظنا أن مخاطر الفقر والحاجة والبطالة لها تأثير أكبر على نفسية الفرد ومحيطه الاجتماعي والمهني من وقع الجائحة.كما جعلتنا نعترف أنها أعادت بريق العلم والمعرفة وسيادة العقل الذي يبقى سلاحنا الوحيد ضد كل مظاهر التخلف والجهل والتعصب والخرافة. كما كشفت لنا ذلك الصراع الخفي بين السلطة العلمية والسياسية ومدى تأثيرها على سلطة القرار إذ نلاحظ أن سلطة العالم أصبحت تتقدم وتحدد القرار السياسي وبذلك نحن نعيش على وقع مرحلة جديدة في تاريخ المجتمعات المعاصرة ستحدد ملامح العلاقة بين سلطة العلم وسلطة السياسة.○ كيف ترين ملامح هذا الصراع في بلد كتونس حيث لاحظنا نوعا من الصراع بين قرارات اللجنة العلمية وسياسات الحكومة وقراراتها التي تأخذ ربما بعين الاعتبار المعطى الاقتصادي والسياسي والمالي؟• أريد أن أشير إلى أن سياسات الدولة الصحية لا تعكس حقيقة واقع المرض والموت التي تعيشه اليوم تونس. وهي نتيجة منتظرة في ظل تراجع دور اللجنة العلمية وخضوعها إلى ضغوطات رجل السياسة وهو ما يفسر حالة التذبذب المستمرة في اتخاذ القرارات الصارمة فيما يتعلق بالحجر الصحي الشامل أو في اتخاذ التدابير اللازمة في جلب التلاقيح، ومن ناحية أخرى في وضع سياسة مرنة تتكيف مع متطلبات الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي لضبط الفئات ذات الأولوية التي أعتبرها الفئات العمرية النشيطة في مختلف القطاعات، حتى نحافظ على المنظومة الاقتصادية والتربوية، أي ضرورة اتخاذ القرارات المناسبة لوضعنا الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي ولا نتبع الدول الغربية ذات الخصوصية الديموغرافية والثقافية والاقتصادية المختلفة عنا. ولعل بتدخل عالم الاجتماع والديموغرافيا والانثروبولوجيا سيؤثر حتما على طبيعة القرارات ذات الأولوية الملحة وعدم الاكتفاء بالقرارات التقنية المحضة التي تجانب الواقع الاجتماعي المعيش.○ كيف تنظرين إلى ظاهرة العنف المسلط ضد النساء في المجتمع التونسي والعنف الأسري وغيره؟• إن المفارقة الكبرى التي تعيشها المرأة التونسية تكمن في جزء كبير منها في عدم تطابق النص القانوني مع أوضاعها السوسيو اقتصادية والثقافية، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال. إذ تبين الأرقام التي قدمها التقرير حول العنف المسلط ضد المرأة (2010) الأسباب المباشرة والكامنة وراء هذه الظاهرة المتفشية في تونس، من ذلك نسبة الأمية في صفوف النساء المعنفات التي تقارب ضعف نسبة الرجال، في حين تمثل نسبة النساء في التعليم العالي 60 في المئة من مجموع الطلبة، وتتمتع 16 في المئة من مجموع العينة بعمل قار مقابل 73.1 في المئة لا عمل لهن. وتفشي ظاهرة التخلي عن العمل لأسباب عائلية 43.3 في المئة يعد مؤشرا على الوضعية اللامتكافئة القائمة على النوع الاجتماعي. كما لاحظنا أن الوضع المادي للمرأة من خلال هذا التقرير يتميز بالهشاشة وعدم الاستقرار وهو ما يشكل واقعا يتميز بالخطورة ويؤسس للعنف. نذكر مثلا أن نصيب المرأة في امتلاك الثروة وتحقيق الاستقلالية المادية لا يتجاوز 6.5 في المئة في الوسط الحضري و4 في المئة في الوسط الريفي وهي نسبة ضعيفة جدا رغم ال الفعلية للمرأة في العمل المأجور لفترة ليست بالقليلة. بالإضافة إلى وجود (9/10) من النساء التونسيات لا يملكن موردا اقتصاديا خاصا بهن نتيجة ضعف المستوى التعليمي. فهذه الوضعية الهشة التي تعيشها المرأة جعلتها تعاني ألم العنف بأشكاله المتعددة في إطار الدائرة الحميمية الزوج، الخطيب، والصديق، ليمثل الفضاء الأول لممارسة العنف المادي 47.2 في المئة والنفسي 68.5 في المئة والجنسي 78.2 في المئة والعنف الاقتصادي77.9 في المئة.○ يشكل الفضاء العائلي ثالوث العنف (الجنسي، الاقتصادي، النفسي) وهذا يطرح السؤال التالي، ما الذي يجعل من الفضاء العائلي الحميمي فضاء لممارسة العنف وصناعة الألم؟• إن هذه الأرقام مع أهميتها لا تكشف لنا كيفية اشتغال العنف بأشكاله الثلاثة وما يخفيه من أبعاد رمزية تمثل بدورها أعمق أنواع العنف وأقساها وهي التي تنسج لنا خيوط المعاناة والألم. فالعنف الرمزي، يمثل الأرضية التي تشرع باقي أنماط العنف والإقصاء والتمييز لتعيش المرأة وضعية ذات خطورة تعرضها لمعاناة العنف بشتى أنواعه في أقرب فضاء إليها وهي مؤسسة العائلة.العنف «كل مبادرة تتدخل بصورة خطيرة في حرية الآخر وتحاول أن تحرمه من حرية التفكير والرأي والتقرير وتنتهي بتحويل الآخر إلى وسيلة أو أداة في مشروع لا يعامل كفرد حر وكفؤ» إن خطورة هذا النوع من العنف تكمن في نتائجه المباشرة، لأن العنف المادي يلحق الضرر بالمرأة في مستوى الجسد أو الحقوق أو المصالح أو الأمن، في حين العنف الرمزي أشد وأعمق وقعا على نفسيتها لأنه يمسّ شعورها بذاتها وبكرامتها والاعتراف بقيمتها باعتباره مصدرا لتوازنها. إن العنف الرمزي يمارس تأثيرا أعمق وأخطر لأنه يستهدف البنية الذهنية لضحاياه، مما يؤدي بالضحية إلى الانكفاء على ذاتها قاتلا فيها طاقاتها ومقصيا عنها قدرتها على الإبداع. كما يخلق لديها صورة سلبية عن ذاتها وتقديرًا ضعيفا لها. فإظهار تفوق الذكور على الإناث كحقيقة ثابتة وتبخيس قيمة الأنوثة واقتصار قيم النبل على الرجولة تؤدي ضمنيا إلى احتقار المرأة لذاتها ولجنسها وعدم اعترافها بقيمتها، وبالتالي يترسخ لديها شعور بالنقص يكرس تبعيتها للرجل.كما يعمل العنف الرمزي على إنتاج الآليات والأدوات والمعايير التي تضمن استمرار الهيمنة الذكورية وتمارس سلطته الرمزية بطريقة منظمة ومتخفية وراء حدود العيب والحرام والعادات والتقاليد التي تشكل بدورها رأس المال الرمزي، غايته وضع المرأة في خدمة منظومة الهيمنة وضمان استمراريتها. لذلك نراه يعمل على تجريد المرأة من الثقة بالنفس ويدفعها إلى مواصلة تبني عملية تبخيس الذات. كما يلعب دورا مهما في تكريس حالة اللامساواة وتأصيل الفروقات الاجتماعية لصالح الطرف المهيمن. هذا وتتجسد خطورة هذا النوع من العنف في قدرته على تأسيس أشكال أخرى للعنف من خلال مساهمة النساء أنفسهن وعبر دورهن في التنشئة الاجتماعية بنشر وغرز وإعادة إنتاج المفاهيم والقيم الثقافية التي تبرر العنف ضد المرأة بل وتجعله قيمة رمزية أسمى من الضحية والجلاد. وبذلك تعمل المرأة على إعداد رجال مهيئين للعنف ونساء خاضعات له.لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح وعلينا البحث فيه، لماذا لا تحكي المرأة المعنفة معاناتها أو مأساتها؟ من سيفهمها؟ لماذا عليها أن تروي كل شيء؟ من الذي سيفهم ما لم تقدر هي بنفسها على فهمه؟ فالاعتراف بالألم والجراح لا يعني فقط المعاناة بل يصبح مصدرا للاعتراف بحق الضحية في اكتساب مكانة في المجتمع وهوية خاصة. لكننا نصطدم في هذه الوضعية بحالة الريبة الاجتماعية وعدم ثقة الراوية في المحيط الاجتماعي بكل مؤسساته. ونقصد قدرة المجتمع على الاعتراف الرمزي بمؤشرات المعاناة لهذه الفئة التي بقيت لا صوت لها. وذلك بالانتباه إلى الآثار المرئية وغير المرئية لهذه المعاناة. الأمر الذي جعلنا نقر بالبعد الاجتماعي العميق للمعاناة. فتاريخه لا يخرج عن تاريخ المجتمع بصفة عامة. لذا لا يمكننا فهم أسباب وآثار العنف تجاه المرأة خصوصا في الفضاء العائلي إلا عبر الاستماع لمعاناة ضحاياه. لأننا بذلك نستمع لمعاناة المجتمع بأسره مهما اختلفت أشكال العنف. وفي نهاية التحليل علينا أن نواجه العنف الذكوري من خلال مواجهة البنى السلطوية وامتيازات الذكورة وتفكيكها وإنهاء القبول الثقافي والاجتماعي لممارسة العنف. إن كان يبدأ العنف من هنا فإنّنا لا نستطيع إنهاءه دون تأييد النساء والرجال للأنثوية والإصلاحات التي تستهدف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والتحولات التي تتطلبها وذلك عبر إعادة تعريف الرجولة والأنوثة بتفكيك بنيتهما النفسية والاجتماعية الجندرية التي تجلب معها مختلف هذه المخاطر. فالتناقض الداخلي للأبوية هي ما تورثه من ألم وغضب وإحباط وعزلة وخوف لنصف النوع الذى تمنحه الامتياز والقوة. ففي تجاهلنا لكل هذا هو مصدر الخطر.○ تقدمت المرأة التونسية أشواطا في حقوقها ولكن هناك مسيرة طويلة لا تزال تنتظرها، كيف تقيمين دور النساء في العمل السياسي؟• الفكر العنصري ضد المرأة جعل تاريخ الفكر النسوي يقوم أساسا على مبدأ المساواة بين الجنسين خاصة في المجال السياسي. والتباين بين الجنسين يرجع إلى حالة انغلاق المرأة في الفضاء الخاص وانعدام الحرية ليمثل نتاجا اجتماعيا وثقافيا يكرس الهيمنة الأبوية والطبقية حرم المرأة من التمتع بحقوق المواطنة والبقاء خارج منظومة التعليم والعمل مما جعلها خارج منظومة حقوق الإنسان. السؤال المطروح اليوم ليس أن تكون ثوريا أو مصلحا أو صاحب رؤى، بل، هل بإمكانك إثبات وجودك بصفة إيجابية لتتحول إلى فاعل اجتماعي رافضا ذلك الوعي القائم على الشعور بالنقص والاغتراب والعجز؟بعد مرور ستون سنة على بناء الدولة الوطنية الحديثة بتونس وتخطي مرحلة الإسكات الديني تحت شعار التوافق والمصالحة الوطنية التي بقينا خاضعين لسلطتها منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية (1956) إلى يومنا الراهن، يطرح علينا السؤال التالي: هل تمثل المرأة وسيلة تبادل في التاريخ السياسي، لتصبح شيئا جامدا غير قابل للتحول عوض أن تكون فاعلا في التاريخ وخصوصا في تاريخها الشخصي؟ فعندما تخصص المرأة 5 ساعات و 16 دقيقة في الأعمال المنزلية بدون مقابل، و39 دقيقة فقط بالنسبة للرجل بمعنى تقضي المرأة التونسية وقتا 8 مرات أكثر من الرجل في الأعمال المنزلية، فإن مسألة المساواة بين الجنسين في الأجور تصبح مطروحة أكثر إلحاحا في ظل ما يعرف باليوم المضعف أي العمل داخل المنزل وخارجه. لأن المساواة الاقتصادية تمثل القاعدة الأساسية للمساواة بين الجنسين، تليها المساواة في المجال السياسي. فالحرص على تحقيق التوافق كرّس المنظومة الأبوية في المجتمع التونسي التي حافظت على النظام الاجتماعي التقليدي المرتبط بالعائلة كقيمة ثقافية واجتماعية خارج منظومة المساواة المطلقة بين المرأة والرجل. فالبنية الثقافية القائمة على مبدأ الولاء للهيمنة الذكورية بقيت المحرك الرئيسي لا فيما يتعلق بوضعية المرأة بل في اشتغال مؤسسات المجتمع التقليدي بصفة عامة. وهو ما يبعدنا عن النجاعة الاجتماعية وبالتالي عن النجاعة السياسية القائمة على الاعتراف الكامل بالمرأة، تمنحها دورا فاعلا لتحسين وضعها وفي نفس الوقت تحسين وضع الآخرين. وفي سياق تحركات ديسمبر (2010) جعل شباب متعلم ومهمش من كلا الجنسين سلب منه حق الوجود الحر لينتقل من الوجود الافتراضي إلى الوجود الفعلي عندما تم إقصاؤه من السلطة الرسمية ومن كل التنظيمات الحقوقية ومن كل أشكال المعارضة التقليدية. برز خطاب متعدد يحافظ على خصوصية المرأة، لكنه لا يساهم في بلورة الهوية العامة للمرأة التونسية نظرا لغياب إجماع لفئة معينة من النساء على مشروع سياسي جماعي. خطاب يشرع لتنظيم اجتماعي جديد ومختلف يعاد فيه توزيع الأدوار بين الجنسين ويؤسس لمكانة جديدة للمرأة داخل المجتمع تلعب فيه المثقفة والمتحررة دور الفاعل الاجتماعي القادر على التغيير والتأثير. ومن بين شروط تحقيق الاستقلالية على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، يحتل الشغل المرتبة الأولى في سلم هذه الشروط. لأننا أصبحنا نعيش في عالم تفاقمت فيه درجة التوتر بين الحياة المهنية في الفضاء العام والحياة العائلية في الفضاء الخاص. والتخلص من حالة التداخل بين الحرية والتبعية القائمة على رؤية الرجل للمرأة هذا الآخر الذي أوجده وساهم في تحريره ضمن دائرة سلطته حتى يتمكن من امتلاكه، فنحن إزاء حرية بصيغة الرجل تبقي على تفوقه وتؤبد تبعيتها. نحن لسنا بصدد حركة نسوية تناضل ضد هيمنة الرجل تطالب بالمساواة المطلقة بين الجنسين. فالمرأة اليوم في تونس تعبر عن عزوفها عن الانخراط في العمل السياسي أو في جمعيات نسوية تقليدية بهدف القضاء على كل أشكال التمييز ضدها. لأن العدو الرئيسي للمرأة الفصل بين الخاص والعام تبقى إشكاليات الجيل الأول والثاني ما زالت تجلب اهتمامات الجيل الثالث من النساء المتمثلة في الصراع من أجل المواقع في الفضاء العام أكثر منه صراعا بين الأجيال. لذلك يبقى نظام المحاصصة من العوامل المساعدة على اقتحام المرأة مجال السلطة السياسية للحد من الهيمنة الذكورية في الشأن العام.○ اذن انطلاقا مما ذكرته السؤال المطروح هو، في سياق الانتقال الديمقراطي كيف وضع القناع على تاريخانية هذه الهيمنة؟• في الحقيقة هذا السؤال لم يركز عليه المهتمون بوضعية المرأة منذ انطلقت في بداية القرن الماضي في تونس. فما يعاب على الاتجاه النسوي في بلادنا هو اهتمامه بالفضاء المنزلي أكثر من اهتمامه بالمدرسة أو بالدولة أي بمواقع السلطة والنفوذ إلا أخيرا وبالتحديد بعد الثورة. وحتى لا يقع من جديد استدعاء المرأة كعنصر خارجي للاستدلال النظري على التغيير الاجتماعي وينفي خصوصيتها ووظيفتها التاريخية، سواء في معركة التحرر الوطني أو في معركة التحديث أو في مسار الثورة الذي ما زلنا نعيش تحت وقعه، فإن استراتيجية المقاومة الخفية عبر إبداع الصيغة السحرية في التوفيق بين الفضاء الخاص والعام بمزيد ترسيخ المنظومة الأبوية المهيمنة، إلى استراتيجية مقاومة نمط التنظيم الاجتماعي وتمثلاته، أي مقاومة نمط اشتغال مؤسسات المجتمع الذي أفرز حالة العصاب الاجتماعي كنتيجة حتمية للوضعية اللامتكافئة تجمع كل السلطات والثروات بيد الرجل وتخلق في المقابل فئة ضعيفة وعاجزة. وبالتالي البحث عن كيفية الانتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد أو مجتمع متحرر تحكمه سلطة الأفراد .○ ما هو تقييمك للعمل المدني وهل أعطى ثماره في توعية وتطوير مفاهيم المواطنة وغيره؟• منذ 2011 تبلور ما يسمى بـ»التأسيس الاجتماعي للسياسة». وهي عبارة عن مسار لاندماج الفاعلين الاجتماعيين ضمن المؤسسات السياسية. لذلك تكونت العديد من الورشات التدريبية والتوعوية الموجهة إلى فئة الشباب والمرأة العاملة والريفية والأمية لإعدادهم لخوض التجربة الديمقراطية بشكل واع ومستقل كمواطن كامل الحقوق. ساهمت هذه الورش التدريبية في فتح المجال أمام الفئات المهمشة في خوض المعركة السياسية من موقع المواطنة المسؤولة القادرة على إثبات جدارتها في الميدان السياسي الذي ما زال حكرا على فئات محدودة. بما أننا لم نسجل حضورا متميزا للمرأة في المسؤوليات السياسية مثل سلك الولاة كما أن نسبة حضورها في المجلس التأسيسي لا يتجاوز 27 في المئة أي لم تتغير منذ انتخابات 2009 في النظام السابق. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ال السياسية للمرأة والشباب حتى بعد الثورة مرتبط أساسا بالظاهرة الحضرية وهي من الحقوق التي حرمت منها المناطق الريفية منذ عقود، وكأننا بصدد مواصلة نفس المسار بنفس العقلية وبنفس العقيدة.واللافت أن غياب الشباب والمرأة عن مواقع القرار والمسؤولية يتعدى المؤسسات الرسمية لتشمل مختلف الأحزاب والجمعيات والمنظمات مهما اختلف نشاطها وتنوع مع بعض الاستثناءات. لتبقى ال السياسية لدى الأفراد في تونس بعد الثورة رهين الرقابة الذكورية والأبوية المحكومة بسقف بلوري مضعف. وهو ما يفسر لنا ضعف نسبة الانخراط الفعلي في مؤسسات الفعل السياسي أو ما يسمى بمؤسسات التنشئة السياسية ونعني أن فئة الشباب وحتى الكهول من الجنسين ليست منخرطة في مؤسسات الفعل السياسي التقليدية. وكذلك الأمر بالنسبة للجمعيات والاتحادات المدنية تشهد نفس ظاهرة العزوف من قبل هذه الشريحة والتي لم تتجاوز17 في المئة.كما نشير إلى أن ميادين النشاط لدى مختلف شرائح المجتمع تركزت في الخيرية بنسبة النصف 50.7 في المئة مقابل 5 في المئة في الأنشطة الدينية. وهو إن دل على شيء، فإنه يدل على أن الأنشطة الخيرية تمثل بدورها الوجه الآخر للنشاط الديني الذي خرج من أسوار المساجد كفضاء تقليدي للدعوة والتأثير، ليحتل فضاءات جديدة بتوظيف الجمعيات الخيرية للتأثير والتبليغ وبالتالي استحوذت هذه الأنشطة على أعلى نسبة 55 في المئة مقابل 18 في المئة فقط منخرطون في جمعيات علمية. وإذا اعتبرنا أن ال في مختلف أنشطة المجتمع المدني تدخل في مجال تهيئة الأفراد للخوض مباشرة في الشأن السياسي مجال المنافسة على السلطة والحكم. لكن اللافت أن المرأة ما زالت منحصرة حتى في الفضاء العام في أنشطة تقليدية مثل الأنشطة الخيرية والدينية، لها ارتباط عميق بوظيفة المرأة التربوية في إطار المجتمع الأبوي المحافظ. وظيفة إعادة إنتاج القيم والمعايير المجتمعية ضمن المنظومة التنشيئية السائدة.لكن بصفة عامة لا يجعلنا ذلك نغفل عن الحضور المتميز والفعلي لمكونات المجتمع المدني الذي أصبح يمثل حصنا منيعا ضد كل تلاعب بحقوق الأفراد ونذكر من بينهم «الاتحاد العام التونسي للشغل» ورابطات حقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية والنسوية والإعلام وجمعية القضاة والمحامين الشبان والنخب الجامعية ورجال المسرح والفن ….إلخ. إذ يزداد دورها ترسخا عندما يتعلق الأمر بالنوع الاجتماعي إذ نلاحظ أن المرأة أكثر العناصر المستفيدة من الحوارات واللقاءات التي تقع في الفضاءات الخاصة والمغلقة بنسب عالية. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المجتمع التونسي ما زال تحت تأثير الأطر التقليدية في بلورة المواقف والآراء السياسية وبالتالي ما زالت مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات محدودة التأثير على الرأي العام خصوصا بالنسبة للمرأة والشباب أمام تنامي ظاهرة الانخراط في مواقع الاتصال الإلكترونية وهذا يمثل في ذاته تحديا ورهانا سياسيا وثقافيا مستقبلا.يمكننا أن نحوصل ونشير إلى أن الانخراط في المجتمع المدني في الفترة الانتقالية ساهم في صقل ملامح الثقافة السياسية لدى المواطن التونسي التي ما تزال تعيش تحت تأثير ضغوطات التنشئة السياسية التقليدية القائمة على القيم الأبوية بالنسبة للجنسين، وبالتالي ما زلنا في بداية بلورة المخبر الحقيقي للتنشئة المدنية أو المواطنية خارج المجال العائلي. كما أن الميكانيزمات الفعلية للتنشئة المدنية تتمثل في جزء كبير منها في المناخ السياسي والاجتماعي العام لا تخضع بالضرورة إلى الأطر التقليدية كالأحزاب والجمعيات. بل الأحداث السياسية الكبرى والسياقات السوسيو تاريخية من شأنها أن تكون أكبر مخبر لولادة المواطنة الفاعلة.كما تجدر الإشارة إلى أن أكبر نسبة من المنخرطين الجدد في المواطنة الفاعلة في صفوف النساء والشباب (18- 35) سنة تعبر عن تغير واضح وجلي في الخريطة الديموغرافية للمواطنة الفاعلة يحتل فيها العنصر النسائي الشاب مرتبة متقدمة، يرجع ذلك إلى حالة الخوف التي انتابت المرأة التونسية خلال الفترة الفاصلة بين انتخابات (2011) و(2014) جعلها تفقد الثقة في الحرية وأدوات المواطنة الفاعلة خصوصا بعد دخول ما يعرف بالإرهاب السياسي الذي سبقه إرهاب فكري واجتماعي موجه بالدرجة الأولى إلى المرأة الشابة. مع الحرص على ال في الشأن العام من باب الخوف من التراجع في الحقوق والحريات. بل وجدنا أنفسنا نناقش ونتفاوض مع النخبة السياسية في مسائل مبدئية حول حرية الإنسان وحقه في اختيار نمط حياته نمى لديه شعورا بأن الفرد التونسي وحده المعني في المجتمع بصياغة معنى جديد للمواطنة الفاعلة المواطنة الفردية والمستقلة عن كل أشكال الوصايا الأبوية والسياسية والدينية والأخلاقية كضمانة أساسية لولادة الديمقراطية النابعة من الإرث الإنساني العالمي القائمة على فلسفة حرية الفرد وحقوق الإنسان.