تحوّلت التوترات التي كانت قد نشأت في الفترة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، إلى حرب مفتوحة يوم الخميس الماضي، على طول الحدود بين الدولتين، بعد أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شن ما سماها "عملية عسكرية خاصة" في المناطق الشرقية للدولة المجاورة. وأكد هذا الإعلان المخاوف التي كانت قد برزت في ديسمبر (كانون الأول)، واستمرت منذ ذلك الحين، من أن بوتين الذي حشد قواته، كان عازماً على غزو أوكرانيا.
زعيم الكرملين رأى أنه يتعين على روسيا اتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة. وأشار إلى أن موسكو تخطط لـ"نزع السلاح واستصال النازية" من أوكرانيا، واعداً أيضاً بوضع حد لثمانية أعوام من الحرب التي كانت تقوم بها قوات حكومة كييف ضد الانفصاليين الموالين لروسيا.
بعد ذلك بوقت قصير، ذكرت الأنباء وقوع انفجارات على مشارف مدن خاركيف وكراماتورسك وماريوبول الأوكرانية، وكذلك العاصمة كييف، الأمر الذي دفع بعدد من المواطنين الأوكرانيين إلى الوقوف في صفوف داخل متاجر السوبر ماركت، وأمام أجهزة الصراف الآلي ومحطات الوقود، تهيؤاً لمواجهة حصار أو استعداداً للنزوح.
وأعلن وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا أن بوتين "شن للتو غزواً واسع النطاق في أوكرانيا"، واصفاً إياه بأنه "حرب عدوانية". أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فأكد أن حكومته بدأت تطبيق الأحكام العرفية في مختلف أنحاء البلاد، وحض مواطنيه على التزام منازلهم ما أمكن.
وجرى منذ ذلك الحين، إغلاق المطارات في البلاد مؤقتاً، وتم اتخاذ إجراءات لمواجهة احتمال قيام طائرات روسية بالهبوط فيها، فيما أقفلت روسيا مجالها الجوي حول الحدود أمام انتقال المدنيين، وذلك على مدى الأشهر الأربعة المقبلة.
في بداية المناوشات، أعلن الجيش الأوكراني عن تدمير أربع دبابات روسية على طريق بالقرب من مدينة خاركيف شرق البلاد، وقتل 50 جندياً بالقرب من بلدة في منطقة لوغانسك، وإسقاط طائرة روسية سادسة في شرق البلاد أيضاً.
واستناداً إلى زيلينسكي، فقد قضى 137 مدنياً وجندياً أوكرانياً في اليوم الأول من القتال، وأصيب 316 بجروح. وفيما ناشد المجتمع الدولي بذل مزيد لمساعدة بلاده، تعهد بالصمود في كييف، حيث بدأت الضربات الصاروخية الروسية تستهدف العاصمة في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة.
الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التقوا مع قوى عالمية أخرى على إدانة الهجوم الروسي الذي وصف بأنه "تعسفي وغير مبرر"، متوعدين بمحاسبته.
وكان فلاديمير بوتين قد واصل في السابق إنكار وجود أي نية لديه لغزو الدولة المجاورة، وقدم للغرب سلسلة مطالب، بما فيها إنهاء التوسع الشرقي لعضوية منظمة "حلف شمال الأطلسي" (ناتو) في الدول السوفياتية السابقة، وتقليص النشاط العسكري للولايات المتحدة والحلف على عتبات روسيا.
وتصاعدت حدة التوترات الإقليمية على نحو كبير يوم الاثنين الماضي، عندما بادر الرئيس الروسي ومجلسه الأمني إلى الاعتراف رسمياً بمنطقتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا، كانتا تخضعان لسيطرة جماعات متمردة، بأنهما دولتان مستقلتان، ما أعطى ذريعةً لبلاده لإرسال قوات عبر الحدود، في وقت بررت فيه موسكو خطوتها بالقول إنها كانت تستهدف فقط حماية حلفاء لها.
قرار روسيا الاعتراف بـ"جمهورية دونيتسك الشعبية" Donetsk People’s Republic (DPR) و"جمهورية لوغانسك الشعبية" Luhansk People’s Republic (LPR) المعلنتين ذاتياً، واللتين كانتا قد أعلنتا الاستقلال عن أوكرانيا للمرة الأولى في مايو (أيار) عام 2014 ودخلتا في صراع دموي منذ ذلك الحين، جاء بعد نداء مباشر للحصول على مساعدات عسكرية ومالية، وجهه قائداهما دينيس بوشلين وليونيد باشنيك.
وكانت موسكو قد نفت في السابق اتهامات وجهتها إليها كييف و"حلف شمال الأطلسي"، بأنها كانت تساعد على تسليح المتمردين وتمويلهم، في معركة حصدت أرواح أكثر من 14 ألف شخص.
وفيما سارع المجتمع الدولي إلى توجيه إدانة فورية للتحرك الروسي الأخير، وأعرب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن "قلقه البالغ" مما يحدث، حرص المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا على تأكيد أنه لن يكون هناك "حمام دم جديد" في شرق أوكرانيا، داعياً الغرب إلى "التفكير مرتين"، قبل التسبب في تصعيد الأمور وزيادة الطين بلّة.
وكانت المملكة المتحدة قد أعلنت عن فرض عقوبات على خمسة بنوك روسية، وثلاثة من الأثرياء الروس المتنفذين، في حين أكد المستشار الألماني أولاف شولتز، أن الموافقة التنظيمية على خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم 2" الذي اكتمل مده أخيراً ما بين روسيا وألمانيا، "ستخضع لإعادة تقييم" في ضوء الموقف المستجد.
التصعيد العسكري الحاصل دل من دون أي شك، على أن الجهود الدبلوماسية المحمومة للحلفاء الغربيين لإيجاد حل سلمي للتوترات منذ مطلع السنة الحالية، لم تفض إلى أي نتيجة.
وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن عمل على وجه الخصوص بجد لنزع فتيل الوضع المتفجر، وحض موسكو على تجنب العودة إلى الأعمال العدائية في حقبة الحرب الباردة، وذلك خلال جولات محادثات عدة أجراها مع نظرائه في روسيا ومع الرئيس زيلينسكي ومع قادة أوروبيين آخرين.
وأجرت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار شولز محاولات مماثلة مع موسكو، لكنها ظلت في ما يبدو، بلا جدوى.
قضية إبعاد أوكرانيا عن عضوية حلف الـ"ناتو"، كانت هاجساً طويل الأمد للرئيس الروسي بوتين، الذي يتذكر بمرارة تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في عهد سلفه الرئيس بوريس يلتسين في تسعينيات القرن الماضي، باعتبارها "عقداً من الإذلال"، قامت خلاله الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون "بفرض رؤيتها للنظام في أوروبا (بما في ذلك كوسوفو في عام 1999)، في وقت كان فيه الروس عاجزين عن القيام بأي شيء، سوى الوقوف موقف المتفرج والمراقب"، وذلك بحسب ما يرى جيمس غولدغاير الخبير في العلاقات الدبلوماسية.
وكان الرئيس الروسي الأسبق يلتسين قد وجه رسالةً إلى نظيره الأميركي كلينتون في سبتمبر (أيلول) عام 1993، يعرب له فيها عن مخاوف مماثلة قائلاً: "إننا نفهم طبعاً أن أي اندماج محتمل لدول أوروبا الشرقية في "حلف شمال الأطلسي"، لن يؤدي تلقائياً إلى تحول هذا الحلف بطريقة ما ضد روسيا، لكن من الأهمية بمكان أن تؤخذ في الاعتبار الطريقة التي قد يتفاعل من خلالها الرأي العام لدينا مع هذه الخطوة".
ولمعالجة المخاوف الروسية، تم التوقيع على "قانون تأسيسي"Founding Actبين حلف الـ"ناتو" وروسيا في عام 1997، وهو اتفاق سياسي نص صراحةً على أن ""حلف شمال الأطلسي" وروسيا لا يعتبر أحدهما الآخر خصماً له". وتلا ذلك تشكيل "مجلس الأطلسي وروسيا" Nato-Russia Council في عام 2002.
لكن يقال إن فلاديمير بوتين لطالما كان يراقب على مضض ما يعتبره تمدداً تدريجياً لهذا الحلف الغربي في اتجاه الشرق، بعد أن ضم إلى عضويته دولاً كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق مثل جمهوريات تشيكيا والمجر وبولندا في عام 1999، ومن ثم لاحقاً بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا في عام 2004.
ولجأ إلى تفسير حشد هذه الدول إلى عضوية منظمة "حلف الأطلسي"، على أنه نقض من جانب الولايات المتحدة لوعد زعم أن وزير خارجيتها آنذاك جيمس بيكر قدمه للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف خلال زيارة لموسكو في فبراير (شباط) عام 1990، كانت تستهدف مناقشة إعادة توحيد ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.
واستناداً إلى ما قاله مسؤولون روس، يفترض أن يكون بيكر قد تعهد لغورباتشوف بأنه "لن يكون هناك تمدد لسلطة قوات حلف الـ"ناتو" حتى ولو بوصةً واحدة إلى الشرق"، على الرغم من أن الاقتباس ظل موضع خلاف شديد، خصوصاً أن غورباتشوف نفى في مقابلة أجرتها معه صحيفة "كوميرسانت" الروسية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014، أن يكون قد تم التطرق إلى الموضوع.
لكن فلاديمير بوتين زاد من نقمته منذ ذلك الحين، وحرص بلا شك، بغض النظر عن الموضوع، على تغذية المشاعر المعادية للغرب في الداخل الروسي وتعزيز قاعدة نفوذه، وعارض بشدة انضمام جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا المجاورتين لبلاده إلى التحالف العسكري الغربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال في "مؤتمر ميونيخ للأمن" Munich Security Conference الذي انعقد في عام 2007، إن "من الواضح أن توسع حلف الـ"ناتو" ليس له أي علاقة بتحديث الحلف نفسه أو بضمان الأمن في أوروبا، بل على العكس، إنه يشكل استفزازاً صارخاً من شأنه أن يقلل من مستوى الثقة المتبادلة بيننا".
وكان الرئيس الروسي أكثر صراحةً في التعبير في شهر أبريل (نيسان) التالي، عندما حضر قمة "حلف شمال الأطلسي" في بوخارست حين قال: "لا يمكن لأي زعيم روسي أن يقف مكتوفاً في مواجهة الخطوات التي تتخذ في اتجاه قبول عضوية أوكرانيا في حلف الـ"ناتو". إن ذلك سيشكل عملاً عدائياً تجاه روسيا".
بعد أربعة أشهر غزا بوتين جورجيا، وقام بتدمير قواتها المسلحة، واحتل عسكره منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي وأذل الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، الذي كان قد سعى علانيةً إلى عضوية بلاده في حلف الأطلسي، ولقيت الإجراءات الروسية إدانةً دولية جديدة.
على الجانب الآخر، بقي الموقف الرسمي لحلف الـ"ناتو" على حاله، ويختصر بأن "أوكرانيا الدولة المستقلة والمستقرة وذات السيادة، والملتزمة بشدة مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، تعد مفتاحاً للأمن الأوروبي الأطلسي".
ويشير الحلف الغربي إلى أن ارتباطاته بأوكرانيا تعود إلى مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، معتبراً أنه كان لا بد من تكثيف التعاون في ضوء العدوان الإقليمي الروسي الذي حصل في عام 2014، عندما قامت موسكو بضم شبه جزيرة القرم، ودعم التمرد الانفصالي في "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية".
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن طريق أوكرانيا نحو عضوية حلف الأطلسي، ظلت غير واضحة المعالم. وفيما كان الوزير بلينكن قد قال لـ"لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ" في الثامن من يونيو (حزيران) عام 2021: "إننا ندعم عضوية أوكرانيا في حلف الـ"ناتو""، إلا أن نائبته ويندي شيرمان كانت أكثر حذراً عندما تطرقت إلى الموضوع الشهر الماضي مكتفيةً بالقول: "لقد أوضحت الولايات المتحدة و"منظمة حلف شمال الأطسي"، أنهما لن تتخليا عن سياسة الباب المفتوح التي تتبعها المنظمة، وهي السياسة التي لطالما كانت محوريةً بالنسبة إلى "حلف الأطلسي".
الرئيس الأميركي جو بايدن كبير "الديمقراطيين" سابقاً والرئيس اللاحق للجنة نفسها، كان يعتقد أن تحويل الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى دول حليفة لـ"ناتو"، شكل "بداية 50 سنةً أخرى من السلام"، لكنه بدل منذ ذلك الحين موقفه في اتجاه التشكيك بجدوى انخراط الولايات المتحدة في "الحروب التي لا تنتهي" في مناطق بعيدة من العالم، ومن هنا جاء قراره الانسحاب بسرعة من أفغانستان الصيف الماضي، بعد 20 عاماً من احتلال البلاد بدافع حفظ السلام.
وعرف عن مواقفه أيضاً أنه عازم على أن يتم القضاء على الفساد السياسي والقضائي في أوكرانيا، لكنه يحجم عن استفزاز الدب الروسي، بعد أن عايش طيلة أعوام حياته عصر الردع التدميري المتبادل (مبدأ تأسس على فكرة أن أي هجوم نووي من جانب قوة عظمى سيقابل بهجوم مضاد نووي ساحق بحيث يتم القضاء على كل من المهاجم والمدافع)، خصوصاً بالنظر إلى التهديد الأمني الذي تشكله الصين وهي أولوية في الوقت الراهن بالنسبة إلى إدارته لا يمكن تجاهلها.
وفي وقت لم تصبح فيه بعد أوكرانيا جزءاً من الحلف، فإن الولايات المتحدة والـ"ناتو" لا يخضعان لأي معاهدة تفرض عليهما أن يهبا لنجدتها إذا ما هاجمتها روسيا، في حين أن هذه الضمانات الأمنية تمنح مظلةً لدول البلطيق المجاورة مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا منذ توقيع انخراطها في المنظمة العسكرية عام 2004.
لكن هذه الدول الثلاث قد تصبح أهدافاً مستقبلية محتملة لمنطق الضم الروسي، إذا ما منح الوضع الراهن الرئيس الروسي شعوراً بالجرأة. ومع ذلك، فإن خطاب الرئيس بايدن الصريح والمباشر، يشير بقوة إلى أنه مستعد للتدخل بشكل ما، حتى لو لم يكن ذلك يعني إنزال قوات أميركية لتقاتل ميدانياً.
معلوم أن الولايات المتحدة قدمت في يناير (كانون الثاني) لأوكرانيا مساعدات عسكرية دفاعية بقيمة 200 مليون دولار (وكانت قد دعمتها بمليارين و500 ألف دولار منذ عام 2014)، في وقت أكدت فيه وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن لديها حتى الآن 200 جندي من "الحرس الوطني" يتمركزون في البلاد.
وبات أكيداً في ضوء إعلان بوتين رسمياً الحرب على جارته، أن عقوبات اقتصادية قاسية ستطبق على روسيا وستفرض عليها عزلة دبلوماسية.
وإذا ما قيض للولايات المتحدة أن تقدم مزيداً من التعزيزات الدفاعية المباشرة لكييف، فستكون في وضع يمكنها من تزويد أوكرانيا مجاناً بمجموعة واسعة من المساعدات، سواء على مستوى الدفاع الجوي، أو الأنظمة المضادة للدبابات والسفن والحرب الإلكترونية وأنظمة الدفاع السيبراني، وصولاً إلى إمدادات الأسلحة الصغيرة وذخائر المدفعية.
تبقى الإشارة أخيراً إلى ما جاء في تحليل للوضع الراهن أجراه سيث جونز وفيليب واسيليفسكي لـ"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" Center for Strategic and International Studies، اللذان اعتبرا "أن مفتاح إحباط طموحات روسيا يكمن في منع موسكو من تحقيق نصر سريع، وزيادة تكاليفها الاقتصادية والسياسية والعسكرية من خلال فرض عقوبات اقتصادية عليها، وضمان عزلها سياسياً عن الغرب، وزيادة احتمالات قيام تمرد طويل الأجل، من شأنه أن يضعف الجيش الروسي مع الوقت ويفقده فاعليته".