بقلم: إليزابيث إيكونومي
استمتع شي جينبينغ باللحظة. وفي حديثه أمام تجمع صيني سنوي يضم حوالى 3000 مندوب لـ"المجلس الوطني الشعبي" في بكين خلال مارس (آذار) 2021، احتفل الرئيس الصيني بمجد الانتصار بعد الوباء، معلناً أن بلاده أول من روض فيروس كورونا، وأول من استأنف العمل، وأول من استعاد النمو الاقتصادي الإيجابي. وقد اعتبر أن ذلك حدث نتيجة "للثقة بالنفس في مسيرتنا، والثقة بالنفس في نظرياتنا، والثقة بالنفس في نظامنا، والثقة بالنفس في ثقافتنا". كذلك أعرب عن اعتزازه بأن "شبابنا الآن، حينما يسافرون إلى الخارج، يمكنهم أن يقفوا شامخين وفخورين، خلافاً لما كنا عليه حينما كنا صغاراً". بالنسبة إلى شي، يعتبر نجاح الصين في السيطرة على انتشار فيروس كورونا المستجد دليلاً إضافياً على أنه يسير على الطريق الصحيح، بمعنى أن الصين باتت تستعيد مكانتها التاريخية في القيادة والمركزية على المسرح العالمي. ثم جاء كتاب التاريخ الرسمي المختصر لـ"الحزب الشيوعي الصيني" الذي نشر في الشهر التالي، ليعزز تقييمه. إذ زعم ذلك الكتاب أن شي قد جعل الصين "أقرب إلى مركز للمسرح العالمي مما كانت عليه في أي وقت مضى. علماً أن الأمة لم تكن يوماً بهذا القرب من ولادتها من جديد".
في الواقع، تحتل الصين بالفعل مكانة مركزية في النظام الدولي. إذ إنها أكبر قوة تجارية في العالم وأكبر مصدر للإقراض العالمي، وتضم أكبر عدد من السكان والجيش في العالم، وقد أصبحت مركزاً عالمياً للابتكار. وفي هذا الإطار، يتوقع معظم المحللين أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الصين سيتجاوز ذاك الذي تحققه الولايات المتحدة بحلول سنة 2030 ما سيجعلها أكبر اقتصاد في العالم. علاوة على ذلك، بحسب ما تبين من تطور الوباء، تترك استجابة الصين للتحديات العالمية أثراً عميقاً على بقية العالم.
وعلى الرغم من أن طموح شي وبروز الصين العالمي أصبحا حقيقة لا جدال فيها، يواصل عديد من المراقبين التساؤل عما إذا كانت بكين تريد تشكيل نظام دولي جديد أم أنها ستكتفي بمجرد فرض بعض التعديلات على النظام الحالي، معززةً المصالح والتفضيلات المنفردة، من دون تغيير جذري في النظام العالمي. وكذلك يجادل أولئك المراقبون بأن توجه بكين دفاعي في معظمه، ومصمم من أجل حماية نفسها فحسب من انتقاد نظامها السياسي، مع تحقيق مجموعة محدودة من المطالب السيادية. والجدير بالذكر أن ذلك الرأي يفشل في إدراك نطاق رؤية شي. إذ إن فهم الأخير لمركزية الصين يتخطى مجرد ضمان أن يكون الثقل النسبي لصوت تلك الدولة أو نفوذها داخل النظام الدولي الحالي، ممثلاً بشكل كاف. وفي الحقيقة، يشير ذلك الفهم ضمنياً إلى نظام دولي متبدل جذرياً.
في الرؤية التي يتبناها شي، ستقف الصين الموحدة التي تعاود الصعود، على قدم المساواة مع الولايات المتحدة أو ستتفوق عليها. إذ إن الصين [ووفق تلك الرؤية] هي القوة البارزة في آسيا، وقد توسع مجالها البحري ليشمل السيطرة على مناطق متنازع عليها في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي. وكذلك، تراجعت الولايات المتحدة عبر المحيط الهادئ لتحتل مكانتها الصحيحة كقوة في المحيط الأطلسي. علاوة على ذلك، بدأت الشبكة الهائلة من التحالفات الأميركية التي دعمت النظام الدولي أكثر من 70 عاماً تتلاشى لمصلحة إطار عمل اقترحته الصين في الحوار والتفاوض والتعاون. وفي سياق متصل، يشع تأثير الصين أيضاً عبر العالم من خلال البنية التحتية التي تمتد من موانئ وسكك حديدية وقواعد، إلى كابلات الألياف الضوئية وأنظمة الدفع الإلكتروني والأقمار الصناعية. وبنفس الطريقة التي قادت بها الشركات الأميركية والأوروبية واليابانية تطوير البنية التحتية للعالم في القرن العشرين، تتنافس الشركات الصينية على الريادة في القرن الحادي والعشرين. إذاً، يستخدم شي باقتدار قوة الصين الاقتصادية للحث على الامتثال لرؤيته والإجبار على ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن ذلك التغيير في المشهد الجيوستراتيجي يعبر عن تحول أكثر عمقاً ويعززه، متمثل في نهوض نظام يتمحور حول الصين بمعاييره وقيمه الخاصة. على الرغم من أن النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن كاملاً، فقد جرى تشكيله بالدرجة الأولى من قبل الديمقراطيات الليبرالية التي التزمت من حيث المبدأ حقوق الإنسان العالمية، وسيادة القانون، والأسواق الحرة، والتدخل المحدود للدولة في الحياة السياسية والاجتماعية لمواطنيها. وبطريقة موازية، صممت المؤسسات المتعددة الأطراف والقانون الدولي للدفع بتلك القيم والمعايير إلى الأمام، وكثيراً ما استخدمت التكنولوجيا في تعزيزها. في المقابل، يسعى شي إلى تغيير مفاجئ وإحلال أسبقية الدول بديلاً عن تلك القيم. والجدير بالذكر أن المؤسسات والقوانين والتكنولوجيا في ذلك النظام الجديد تقوي سيطرة الدولة، وتحد من الحريات الفردية، وتقيد الأسواق المفتوحة. وبالتالي، إنه عالم تتحكم فيه الدولة في تدفق المعلومات ورأس المال داخل حدودها الخاصة وعبر الحدود الدولية، من دون أي رقابة مستقلة على سلطتها.
واستطراداً، يبدو أن المسؤولين والعلماء الصينيين واثقون بأن بقية العالم يساند رؤية شي، ويتباهون مشيرين إلى أن "الشرق ينهض، والغرب يتراجع!" وعلى الرغم من ذلك، تبين أن عديداً من الدول أقل إعجاباً بمبادرات شي الجريئة، إذ أصبحت التكاليف السياسية والاقتصادية الكاملة لاعتماد النموذج الصيني واضحة. في "المجلس الوطني الشعبي"، أظهر شي الثقة بالنفس التي يتصف بها زعيم مقتنع بأن العالم موجود لتستفيد الصين منه. في المقابل، قد تشكل ثقته عائقاً يمنعه من الاعتراف بالمقاومة التي تغذيها بكين من خلال أفعالها في الخارج. وبالتالي، يعتمد نجاح شي على إمكانيته في التكيف مع تلك النتائج السلبية وأخذها في الحسبان. في الواقع، قد يؤدي الفشل في فعل ذلك إلى مزيد من الحسابات الخطأ التي قد تنهي إعادة تشكيل النظام العالمي، لكن ليس وفق الطريقة التي يتصورها شي.
إعادة توحيد أرض الوطن
يبدأ طريق شي إلى عالم أعيد تنظيمه، من إعادة رسم خريطة الصين. في خطاب ألقاه خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أكد أنه "ينبغي إنجاز المهمة التاريخية لإعادة التوحيد الكامل للوطن الأم، وستنجز بالطبع". وتكمن الأولوية الأولى لدى شي في تأكيد السيادة على الأراضي المتنازع عليها منذ فترة طويلة، لا سيما تلك التي تصفها بكين بأن تشكل مصالحها الأساسية، أي تايوان وهونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي.
وبالاسترجاع، لقد تعاملت بكين فعلياً مع هونغ كونغ. وفي 2020، فرضت الصين قانوناً للأمن القومي على المدينة أنهى فعلياً حكمها الذاتي المنشأ تحت ظلال نموذج "دولة واحدة ونظامان" الذي وضع في سنة 1997 حينما سلمت هونغ كونغ من لندن إلى بكين. في غضون أشهر [تلت فرض قانون الأمن القومي]، قوضت بكين التزام المدينة الطويل الأمد بحقوق الإنسان الأساسية وسيادة القانون، وحولتها إلى مجرد مدينة صينية أخرى.
في سياق مواز، أحرز شي تقدماً في تأكيد السيادة الصينية في بحر الصين الجنوبي. إذ أنشأ وعسكر سبعة معالم اصطناعية في البحر وادعى أحقيته في عشرات الجزر الأخرى، وامتدادات من الأراضي البحرية. وكذلك أخذ ينشر مزيداً من القوات البحرية الصينية القوية، وخفر السواحل المسلح حديثاً، وأسطول الصيد الضخم، بهدف ترهيب الدول الخمس الأخرى (بروناي وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام) بمطالب متداخلة، وتأكيد السيطرة في المياه المتنازع عليها. طوال فترة الوباء، استفاد شي أيضاً من تشتت الإنتباه لدى دول الأخرى كي يضغط باتجاه الحصول على مطالبات إقليمية إضافية. وطيلة أكثر من 100 يوم متعاقب، أبحرت السفن الصينية في المياه قبالة اليابان وحول عدد من الجزر المتنازع عليها في تلك المنطقة التي تسميها الصين "جزر دياويو" فيما تدعوها اليابان "جزر سينكاكو". كذلك، اصطدمت سفينة حرس السواحل الصينية بقارب صيد فيتنامي وأغرقته، ولقد حلقت طائرات عسكرية صينية فوق المياه المتنازع عليها التي تطالب بها الصين وماليزيا، ودخلت الصين والهند في أول نزاع حدودي مميت منذ أربعة عقود.
في الواقع، لن يتقبل شي أي خريطة للصين إذا لم تعكس السيطرة الصينية القارية على تايوان. وفي المؤتمر التاسع عشر للحزب، خلال أكتوبر (تشرين أول) 2017، أعلن شي أن الوحدة مع تايوان شكلت واحداً من 14 بنداً لا بد من إنجازها لتحقيق "التجديد العظيم للأمة الصينية". كذلك شدد على أهمية توحيد الصين مستخدماً صوراً فوارة، "يشكل الناس على جانبي المضيق عائلةً واحدة، بدماء مشتركة. لا أحد يستطيع قطع الأوردة التي تربطنا".
واستطراداً، يتحدث شي عن الوحدة مع تايوان بوتيرة وإلحاح متزايدين. إذ لا يزال مقتنعاً بأن الرئيسة التايوانية تساي إنغ-وين تدفع بأجندة الاستقلال إلى الأمام، ومدعياً أيضاً أن "نزعة الاستقلال الانفصالية" لدى شعب تلك الجزيرة تظل "أخطر خطر خفي على التجديد الوطني". منذ وصول تساي إلى السلطة في 2016، قطع شي الحوار الطويل الأمد عبر المضيق. وخفض أيضاً بشكل كبير عدد سائحي البر الرئيس [الصين] المسموح لهم بالسفر إلى تايوان، من 4.2 مليون في 2015 إلى 2.7 مليون في 2017، ما أسهم في انخفاض عائدات السياحة السنوية في الجزيرة من 44.5 مليار دولار إلى 24.4 مليار دولار. ويضاف إلى ذلك أنه أقنع سبع ولايات من أصل 22 ولاية متبقية تعترف رسمياً بتايوان باعتبارها "جمهورية الصين"، بالتخلي عن تايبيه من أجل بكين، ومنع تايوان من ال في جلسة تعليمات "منظمة الصحة العالمية" في الأشهر الأولى من الوباء. وخلال حملة إعادة انتخاب تساي 2020، يزعم أيضاً أن قراصنة "الحزب الشيوعي الصيني" نشروا معلومات مضللة تهدف إلى تقويض الحملة. وبطريقة موازية، أثارت التدريبات العسكرية التي تطلقها بكين بشكل متزايد على طول الساحل التايواني، أحاديث متكررة عن هجوم عسكري صيني محتمل.
في منحى مقابل، فشلت جهود شي الرامية إلى ترهيب تايوان في إقناع الجزيرة بتقبل التوحيد. وبدلاً من ذلك، أحدثت رد فعل عنيفاً داخل تايوان وخارجها. في الواقع، أصبحت نسبة التايوانيين الذين يؤيدون الاستقلال أكبر من أي وقت مضى، إذ بلغت 64 في المئة، فيما احتفظ عدد قليل من التايوانيين بالإيمان بأن إطار عمل "دولة واحدة ونظامان" يمكن أن ينجح على الإطلاق، لا سيما في أعقاب حملة القمع في هونغ كونغ. كذلك تقدم عدد متزايد من الدول لتقديم الدعم لتايوان. وفي تحول غير مسبوق في السياسة، أكدت اليابان في 2021 أن لها مصلحة مباشرة في ضمان الحفاظ على حالة تايوان كدولة ديمقراطية. كذلك، انضم عدد من الدول الأوروبية الصغيرة للدفاع الدبلوماسي عن تايوان. إذ رحبت جمهورية التشيك وليتوانيا وسلوفاكيا بزيارة وزير الخارجية التايواني لها. في المقابل، دعمت الولايات المتحدة مجموعة واسعة من التشريعات الجديدة والنشاط الدبلوماسي، المصممة لتقوية العلاقات الثنائية ودمج تايوان في المنظمات الإقليمية والدولية.
وداعاً للدور الأميركي
تنشغل الصين أيضاً في محاولة إرساء الأسس داخل بلدها بهدف أن تحل بديلاً من الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في منطقة آسيا والمحيط الهادي. وقد وصف قادة الصين منطقة آسيا والمحيط الهادي بأنها "عائلة كبيرة" وادعوا أن "المنطقة لا يمكن أن تزدهر من دون الصين" و"لا يمكن للصين أن تتطور في معزل عن المنطقة"، وصوروا منطقة آسيا والمحيط الهادي على أنها متكاملة بسلاسة من خلال التجارة والتكنولوجيا والبنية التحتية والروابط الثقافية والحضارية المشتركة التي تدعمها الصين. وفي سياق متصل، نجح شي بشكل خاص في ترسيخ مكانة الصين كقائد اقتصادي إقليمي. إذ تعد الصين أكبر شريك تجاري لجميع دول آسيا تقريباً. وفي 2021، صنف أعضاء "رابطة دول جنوب شرقي آسيا" معاً كأفضل شريك تجاري للصين. وفي نهاية عام 2020، أنجز شي المفاوضات حول "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" بقيادة الصين، التي تضم الصين وعشر دول في جنوب شرقي آسيا وأستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. وفي مناورة جريئة، دفع شي الصين أيضاً إلى العضوية في "الاتفاق الشامل والمتقدم للشراكة عبر المحيط الهادي"، التي تشكل اتفاقاً عن التجارة الحرة بقيادة اليابان. وذلك من شأنه أن يجعل الصين اللاعب الاقتصادي المهيمن في أهم اتفاقيتين تجاريتين إقليميتين في أكثر مناطق العالم ديناميكية من الناحية الاقتصادية؛ بينما ستبقى الولايات المتحدة مهمشة.
وفي مقلب مغاير، حققت الصين نجاحاً أقل في جهودها الرامية إلى وضع نفسها كجهة فاعلة أمنية بارزة في المنطقة، وهو دور أدته الولايات المتحدة منذ فترة طويلة. في 2014، اقترحت بكين نظاماً أمنياً آسيوياً جديداً تديره دول آسيوية. وتالياً، جاب وزير الدفاع الصيني منطقة آسيا والمحيط الهادي ذهاباً وإياباً برسالة مفادها أن الدول هناك "يجب أن تلتزم بمبدأ أن القضايا الإقليمية يجب أن تحلها دول المنطقة من خلال التشاور". كذلك، حاول المسؤولون الصينيون جاهدين تصوير التحالفات الأميركية على أنها آثار بالية خلفتها حقبة "الحرب الباردة" [بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، وامتدت بين نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي]، فضلاً عن كونها معادية للصين.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أدى حزم بكين العسكري في المنطقة بشكل مباشر إلى تقويض سعيها نحو القيادة. وفي ذلك السياق، وجدت دراسة استقصائية أجراها خبراء ورجال أعمال من جنوب شرقي آسيا أن أقل من 2 في المئة يعتقدون أن الصين قوة حميدة وخيرة، بينما بدا أقل من 20 في المئة واثقين أو واثقين جداً من أن الصين "ستفعل الشيء الصحيح". في المقابل، يعتقد حوالى نصف الذين شملهم الاستطلاع أن الصين "قوة رجعية" تهدف إلى تحويل المنطقة إلى مجال نفوذها. (على النقيض من ذلك، بدا أكثر من ثلثي الأشخاص المشاركين واثقين أو واثقين جداً من أن اليابان "ستفعل الشيء الصحيح" من خلال المساهمة في السلام العالمي والأمن والازدهار والحوكمة). كذلك، أعاد سلوك الصين تنشيط "الشراكة الرباعية" التي تشمل أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة، وحفز إنشاء اتفاق أمني ثلاثي جديد بين أستراليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة. وعلى نحو مماثل، دفع سلوك الصين بعدد من الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، وألمانيا، وهولندا، ومعها حلف الناتو، إلى تعميق شراكتها الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادي. حتى الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي، الذي هدد في وقت سابق بإنهاء تحالف بلاده مع الولايات المتحدة ووصف الصين بأنها "صديقة جيدة"، يعمل الآن على تحسين علاقات الفيليبين الدفاعية مع واشنطن، بينما يستعد لترك منصبه.
عضة التنين
من المستطاع تصوير طموح شي بمركزية الصين في المسرح العالمي بشكل رائع، عبر "مبادرة الحزام والطريق". إذ أطلقت تلك المبادرة في 2013، وهي لا تقدم مظهراً مادياً فحسب لمركزية الصين من خلال ثلاثة ممرات برية وثلاثة ممرات بحرية ستربط الصين بآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، بل تستحضر أيضاً ذكريات تاريخية عن "طريق الحرير" ومحورية الصين خلال الأزمنة الإمبريالية. شكلت "مبادرة الحزام والطريق" في مفهومها الأصلي، وسيلة لتطوير البنية التحتية الصلبة بقيادة الصين على طول الممرات الستة. حاضراً، تشمل فروع تلك المبادرة ما يسمى طرق الحرير الرقمية، والصحية، والقطبية، علماً أن جميع البلدان مرحب بها لل.
خلافاً للاستثمار التقليدي في البنية التحتية المدعوم من مؤسسات النظام العالمي المتعدد الأطراف كـ"البنك الدولي" و"بنك التنمية الآسيوي"، تعتبر الصين محطة شاملة. إذ إنها توفر التمويل والعمالة والمواد لمشاريعها، وتتخطى في كثير من الحالات التقييمات التي تستغرق وقتاً طويلاً للمخاطر المالية، وعمليات العطاءات الشفافة والمفتوحة، وتقييمات الآثار البيئية والاجتماعية. إنه نموذج التنمية الصيني الذي أصبح عالمياً.
في الواقع، أدت "مبادرة الحزام والطريق" إلى وضع الصين في قلب النظام الدولي، وتدفق تأثيرها المادي والمالي والثقافي والتكنولوجي والسياسي إلى بقية العالم. والجدير بالذكر هنا، أنها تعيد رسم التفاصيل الدقيقة لخريطة العالم، بواسطة خطوط سكك حديدية وجسور جديدة، وكابلات ألياف ضوئية وشبكات "الجيل الخامس للخليوي"، وموانئ قادرة على احتواء القواعد العسكرية الصينية. بحسب أحد التقييمات، تطال "مبادرة الحزام والطريق" الآن أكثر من 60 دولة، وقد تجاوزت 200 مليار دولار من الاستثمارات الصينية. كذلك تعمل المبادرة على تبديل أحوال بعض البلدان كباكستان، من خلال مشاريع الطاقة والطرق الجديدة والتحديثات الضخمة لميناء "جوادر" والبنية التحتية الرقمية في باكستان. في المقابل، تأثر البعض الآخر بشكل محدود لكنه إيجابي للغاية. ومثلاً، أسهم الاستثمار الصيني في ميناء "بيرايوس" اليوناني في جعله أحد أفضل الموانئ في أوروبا ومن بين أفضل 50 ميناء في العالم. وفي هذا الإطار، يبدي المسؤولون والباحثون البرازيليون حماسة لإمكانية ألا يقتصر دور "مبادرة الحزام والطريق" على تطوير مشاريع البنية التحتية في بلادهم فحسب، بل أيضاً تعزيز جهود الابتكار والاستدامة.
واستكمالاً، تصور شي أيضاً "مبادرة الحزام والطريق" كقناة يمكن للصين من خلالها نقل قيمها السياسية والثقافية. في خطاب مهم ألقاه خلال أكتوبر 2017، قدم شي نموذج التنمية الصيني باعتباره نموذجاً يستحق المحاكاة، وكذلك، تعرض بكين الآن مجموعة واسعة من برامج التدريب السياسي. في ذلك الإطار، وضعت تنزانيا التي تعتبرها "مبادرة الحزام والطريق" دولة تصلح نموذجاً عن بناء القدرات السياسية على الطريقة الصينية، [وضعت تنزانيا] قانوناً لها عن الأمن السيبراني جاء شبيهاً بنظيره قانونياً في الصين. وقد عملت تنزانيا مع بكين على تقييد وسائل التواصل الاجتماعي وتدفق المعلومات على الإنترنت. بطريقة موازية، أبدت حكومات بلدان أخرى كأوغندا، رغبتها القوية في تلقي التكنولوجيا والتدريب الصيني بهدف مساعدتها على مراقبة شخصيات المعارضة السياسية وتعقبها.
وعلى نحو مشابه، شاركت الأحزاب السياسية في إثيوبيا وجنوب أفريقيا والسودان في تدريبات "الحزب الشيوعي الصيني" حول هيكل الحزب وعلاقاته الشعبية ونظام الإعلام الدعائي [بروباغندا] الصيني. والجدير بالذكر أن "طريق الحرير الرقمي" في الصين، الذي يتضمن كابلات بحرية وأنظمة دفع إلكترونية وتقنيات المراقبة وشبكات "الجيل الخامس للخليوي"، إضافة إلى تقنيات الاتصال الرقمي الأخرى، يمتلك قيمة خاصة بوصفه وسيلة في نقل القيم السياسية والثقافية الصينية. ومثلاً، في كينيا، لم تقدم بكين قنوات تلفزيونية فضائية لأكثر من 10 آلاف شخص فحسب، بل قدمت أيضاً عشرات الآلاف من ساعات البرامج الصينية. في الحقيقة، تمتلئ موجات البث في كينيا، وكذلك الموجات الموجودة في أجزاء أخرى من أفريقيا، بأفلام الفنون القتالية والدراما عن الحياة في الصين والأفلام الوثائقية التي تروج السردية السياسية الخاصة بـ"الحزب الشيوعي الصيني"، مثل تلك التي تركز على الفظائع اليابانية في الحرب العالمية الثانية، علماً أنه جرت دبلجتها إلى اللغات المحلية.
وعلى الرغم من ذلك، أصبحت "مبادرة الحزام والطريق" مملوءة بالمطبات بشكل متزايد. في مقابل قدرتها على توفير فوائد نموذج التنمية الصيني الذي يعتمد على البنية التحتية الثقيلة، فإنها تحمل في طياتها أيضاً جميع عواملها الإضافية التي تشمل مستويات عالية من الديون، والفساد، والتلوث البيئي والتدهور، وممارسات العمل السيئة. لذا، انتشرت الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء البلدان المضيفة. في كازاخستان، تظاهر المواطنون مراراً وتكراراً ضد مشاريع التعدين الصينية والمصانع التي تلوث البيئة وتستخدم العمالة الصينية بدلاً من العمالة المحلية. واندلعت احتجاجات مماثلة في كمبوديا وبابوا غينيا الجديدة وزامبيا. وكذلك، أبلغت دول أخرى من بينها الكاميرون وإندونيسيا وكينيا وباكستان، عن مشكلات الفساد في مشاريع "مبادرة الحزام والطريق". ويضاف إلى ذلك أن بعض البلدان كأذربيجان ومنغوليا، لم تعد تتوقع أن تدر مشاريع المبادرة مكاسب أكثر مما تكلف. نتيجة لذلك، أوقفت دول عدة مشاريعها أو ألغتها بشكل كامل. واستطراداً، من بين 52 محطة طاقة تعمل بالفحم من المقرر تطويرها عبر "مبادرة الحزام والطريق" بين عامي 2014 و2020، علق العمل في 25 محطة وألغيت ثمانية محطات اخرى. (يشير التزام الصين في سبتمبر (أيلول) 2021 بعدم بناء مشاريع طاقة جديدة في الخارج تعمل بالفحم إلى أن عدداً من المشاريع التي علقت ستلغى في نهاية المطاف). وفي سياق متصل، وجدت دراسة أجريت في 2018 أن 270 مشروعاً من أصل 1814 مشروعاً ضمن "مبادرة الحزام والطريق"، نفذت فعلياً منذ 2013، واجهت صعوبات في الإدارة، وشكلت هذه الحالات المتعثرة 32 في المئة من القيمة الإجمالية للمشاريع.
وبالتالي، فقد تعيد بكين نفسها النظر في التزامات "مبادرة الحزام والطريق". وفي ذلك المجال، انخفضت مستويات الاستثمار بشكل مطرد منذ 2016، ولم تتحقق بعض الفوائد السياسية المفترضة. ومثلاً، تكشف مراجعة حول أكبر عشرة متلقين لاستثمارات "مبادرة الحزام والطريق"، عن عدم وجود علاقة مباشرة بين مستويات الاستثمار ودعم الدول للصين في القضايا الحساسة على غرار هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي والإجراءات الصينية في "شينجيانغ" [المتعلقة بالإيغور]. وعلى غرار الحزم الذي أظهرته الصين في ما يتعلق بحدودها، أثارت "مبادرة الحزام والطريق" ردود فعل عنيفة. إذ أدت إلى إطلاق مبادرات تنافسية من قبل اليابان ودول أخرى، بغية تمويل البنية التحتية ودعمها بمعايير أعلى ومزايا أكثر بالنسبة إلى القوى العاملة المحلية.
وفي منحى مقابل، تواجه الجهود الأخرى المبذولة في تعزيز التأثير الثقافي الصيني صعوبات أيضاً. ومثلاً، تصدر شي جهود تكريس اللغة الصينية والعروض الثقافية الصينية عبر إنشاء "معاهد كونفوشيوس" في الجامعات والفصول الدراسية في الخارج. وبالنسبة إلى عدد من المؤسسات التعليمية، شكل دعم بكين المالي لهذه المعاهد أمراً ضرورياً كي تتمكن من تقديم تدريب على اللغة الصينية. نتيجة لذلك، فقد انتشرت بسرعة. لكن، مع مرور الوقت، أدى الطابع الأكثر قسراً الذي انتهجته المبادرة إلى تقويض نجاحها المبكر. في 2011، صرح لي تشانغ تشون، الذي نال حينها عضوية في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، بأن "بوصفه علامة تجارية جذابة لتوسيع ثقافتنا في الخارج، قدم "معهد كونفوشيوس" مساهمة مهمة في تحسين قوتنا الناعمة.
في الحقيقة، تتمتع العلامة التجارية "كونفوشيوس" بجاذبية طبيعية. ومن خلال استخدام حجة تدريس اللغة الصينية، كل شيء يبدو معقولاً". وفقاً لمتطلبات بكين، ظلت العقود المبرمة بين المؤسسات الأكاديمية المحلية و"معاهد كونفوشيوس" سرية، وجرى تحديد المعلمين والمناهج الدراسية من قبل بكين، ويعتبر ذلك امتيازاً لن تقدمه معظم الأكاديميات الصينية لأي شراكة خارجية أخرى. وإضافة إلى ذلك، حاول عدد قليل من تلك المعاهد تشكيل سياسات جامعية أوسع حول القضايا المتعلقة بالصين، على غرار تحذيرها من استضافة الدالاي لاما. حينما بدأ العلماء والسياسيون في كندا والسويد والولايات المتحدة وأماكن أخرى في التشكيك بنزاهة المشروع، تضاءلت جاذبية المعاهد.
مع حلول 2020، لم تكن الصين قد أنشأت إلا أكثر بقليل من نصف "معاهد كونفوشيوس" الألف التي أملت في إنشائها. ويبدو أن تأثير هذه المعاهد كمصدر للقوة الناعمة محدود. في أفريقيا، حيث أقامت الصين 61 "معهد كونفوشيوس"، كشفت دراسة استقصائية أن 71 في المئة من المواطنين يعتقدون أن اللغة الإنجليزية أهم لغة يتعلمها الجيل القادم. واختار 14 في المئة اللغة الفرنسية، بينما اختار 2 في المئة فحسب اللغة الصينية. وفي كازاخستان، حيث ناصرت ابنة رئيس الوزراء السابق بصراحة الصين والدراسة باللغة الصينية، كشف استطلاع للرأي العام أجراه "بنك التنمية الأوراسي" أن واحداً من بين كل ستة كازاخستانيين ينظر إلى الصين على أنها "دولة صديقة."
تجدر الإشارة إلى أن مبادرات مثل "مبادرة الحزام والطريق" و"معاهد كونفوشيوس" تقدم رؤية جذابة عن المركزية الصينية التي تقوضت إلى حد ما بسبب ممارسات الحوكمة الصينية غير الجذابة، وكذلك اعتمد جزء كبير من الجهود التي بذلتها بكين لتعزيز المركزية الصينية على الإكراه، بصورة صريحة. ومثلاً، سلطت دبلوماسية الصين الوبائية الضوء على الطبيعة القسرية للجهود الصينية الرامية إلى تشكيل العالم من حولها. وفي سياق متصل، استخدم دبلوماسيو "الذئب المحارب" الصينيون [تسمية تستعمل في الإشارة إلى سياسة ينتهجها دبلوماسيون صينيون يعتبر كل شخص منه نفسه مقاتلاً مكرساً لمصلحة الحزب الشيوعي الصيني، وضد أعدائه] مسألة إنتاج "معدات الحماية الشخصية" [التي تستخدمها الطواقم الطبية أثناء التصدي لكورونا كالقفازات ومعاطف النايلون وأغطية الرأس والكمامات] كسلاح، من خلال التهديد بقطع الإمدادات عن البلدان التي تنتقد الصين. كذلك شنوا هجوماً هدفه نشر معلومات مضللة حول أصول الفيروس لصرف الانتباه عن الذنب الصيني. حينما دعت أستراليا إلى إجراء تحقيق في أصل الفيروس، فرضت بكين قيوداً ورسوماً جمركية على بعض الصادرات الأسترالية الأكثر شعبية.
والجدير بالذكر هنا، أن استخدام الصين نفوذها الاقتصادي لإكراه الجهات الفاعلة الدولية أمر معروف جيداً ويحدث من زمن طويل. فمثلاً، هددت بكين شركات الطيران الدولية وتجارة التجزئة والأفلام والفنادق بتداعيات مالية خطيرة إذا لم تعترف في موادها المنشورة بالمطالب السيادية الصينية في ما يتعلق بتايوان وهونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي. وفي أعقاب التغريدة الشهيرة الآن التي نشرها آنذاك داريل موري، المدير العام لفريق "هيوستن روكتس" في كرة السلة، داعماً للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ، سحبت المتاجر الصينية المنتجات التي تحمل علامة "روكتس" Rockets من رفوفها، وتوقف تلفزيون الصين المركزي عن بث مباريات الدوري الأميركي للمحترفين في كرة السلة. وفي ذلك الصدد، أعلن تلفزيون الصين المركزي، "نعتقد أن أي تصريحات تتحدى السيادة الوطنية والاستقرار الاجتماعي لا تدخل في نطاق حرية التعبير". أشارت بكين بشكل فاعل إلى أنها تعتقد أن لها الحق في التحكم في خطاب أي فرد في أي مكان في العالم. بعد ذلك بوقت قصير، طردت بكين عدداً من مراسلي "وول ستريت جورنال" رداً على مقال رأي نشرته الصحيفة بعنوان يصف الصين بأنها "رجل آسيا المريض". وربما كدلالة على الطريقة التي يمكن أن تتطور فيها مثل تلك السياسات، اقترح مكتب حكومي في بكين سنة 2020 أن أي انتقاد للطب الصيني التقليدي، الذي يشكل أحد اهتمامات شي الخاصة، يجب أن يعتبر غير قانوني.
واستطراداً، يعد الإكراه الصيني أكثر فاعلية في تشكيل سلوك الجهات الفاعلة الفردية. وفي منحى مقابل، تخضع عدة شركات متعددة الجنسيات للضغط الصيني في النهاية، فتعدل الطريقة التي تدير بها أعمالها. ويحاول بعض منها الحفاظ بهدوء على مبادئه، حتى لو أظهر أنه يذعن للمطالب الصينية. في قطاع الطيران مثلاً، أزالت بعض شركات الطيران تايوان من مواقعها على شبكة الـ"ويب" لكنها ما زالت تحددها بشكل منفصل عن الصين القارية وتضع أسعار التذاكر بعملة تايوان بدلاً من اليوان الصيني. من المهم أيضاً أن الصين فشلت فشلاً ذريعاً في محاولاتها استخدام نفوذها الاقتصادي لإجبار دول كالفيليبين وكوريا الجنوبية، من بين دول أخرى، على تغيير سياساتها بشأن قضايا كالمنافسة في بحر الصين الجنوبي، ونشر نظام "الدفاع الصاروخي الطرفي العالي الارتفاع" [= ثاد THAAD، اختصاراً لعبارة Terminal High Altitude Area Defense] المصنوع في الولايات المتحدة. كذلك فشلت بكين في جهودها الهادفة إلى تعطيل الإجراءات القضائية الكندية المتعلقة باحتجاز مينغ وانتشو، المديرة المالية في مجموعة "هواوي" الصينية للاتصالات، من خلال سجن مواطنين كنديين كوسيلة ضغط سياسية. في النهاية، أمضت مينغ ما يقرب من ثلاث سنوات تحت الإقامة الجبرية قبل تسوية قضيتها.
إحكام السيطرة
تنبع مركزية الصين في المسرح العالمي بشكل كبير من إمكاناتها الاقتصادية، أي موقعها كمحرك للنمو والتجارة العالمية والفرصة التي تتيحها أمام البلدان الأخرى في الوصول إلى أسواقها الواسعة. وعلى الرغم من ذلك، تثير مبادرات شي تساؤلات بشكل متزايد حول كيفية تفاعل اقتصاد الصين مع بقية العالم. في الواقع، تميزت فترة ولايته بسلسلة من السياسات، كـ"صنع في الصين 2025"، التي تعزز سيطرة الحكومة وتعمل على عزل الاقتصاد الصيني عن المنافسة الخارجية. في 2020، صاغ شي نموذجاً اقتصادياً من "الدوران المزدوج"، متصوراً الصين كبلد مكتف ذاتياً إلى حد كبير وقادر على الابتكار والتصنيع والاستهلاك، كل ذلك ضمن اقتصاده الخاص. وبطريقة موازية، ستواصل الصين التعامل مع الاقتصاد الدولي من خلال الصادرات، وسلاسل الإمداد الحيوية، والواردات المحدودة لرأس المال والدراية. داخل الصين، عزز شي بشكل كبير سيطرة "الحزب الشيوعي الصيني" على سلطة الشركات الصينية في اتخاذ القرار.
بالتالي، أدت تلك التحركات، بعيداً من الانفتاح والإصلاح الاقتصادي على مستوى أكبر، إلى نشوء مجموعة جديدة من المشكلات في علاقات بكين مع بقية العالم. إذ فقدت دول متعددة ثقتها في استقلال الشركات الصينية عن الحكومة وتعمل الآن على تضييق فرص وصول الشركات الصينية إلى أسواقها وزيادة ضوابط التصدير على التقنيات الحساسة للشركات الصينية. كذلك أدى استخدام بكين القسري لمعدات الحماية الشخصية في وقت مبكر من الوباء، إلى قرع أجراس الإنذار بشأن الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية، ما دفع الدول إلى تشجيع شركاتها على العودة إلى ديارها أو الانتقال إلى أماكن أكثر وداً. في مقلب مغاير، لا تزال جاذبية الاقتصاد الصيني قوية، باعتباره سوقاً ورائداً في التجارة والاستثمار العالميين، لكن سياسات شي تقلص، بدلاً من أن تعزز، نوع الثبات وقدرة التنبؤ الذي يرغب فيه الفاعلون الاقتصاديون حينما يفكرون في المكان الذي يستثمرون فيه الوقت ورأس المال، وبالتالي يثير ذلك مجموعة جديدة من التحديات أمام رؤية شي المتعلقة بمركزية الصين.
واستكمالاً، يسعى شي أيضاً إلى ممارسة سيطرة أكبر على البنية الدولية الحالية للمؤسسات العالمية. وفي ذلك الإطار، دعا الصين بشكل صريح ومتكرر إلى قيادة إصلاح نظام الحوكمة العالمي، وتغيير القيم والمعايير التي يستند إليها النظام الدولي كي تتماشى مع تلك الخاصة بالصين. وجادل أيضاً، إلى جانب مسؤولين صينيين آخرين، بأن النظام العالمي الحالي المستند إلى القواعد [المتوافق عليها دولياً، خصوصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية]، لا يعكس بشكل كاف صوت الصين أو صوت العالم النامي. عوضاً عن ذلك، لقد أنشئ ذلك النظام [بحسب شي] واستدام كي يعمل لمصلحة عدد صغير من الديمقراطيات الليبرالية. والجدير بالذكر، أن شي يريد أن تعبر القيم والمعايير الموجودة في تلك المؤسسات الدولية [المتصلة بالنظام العالمي] التفضيلات الصينية بدلاً من ذلك، على غرار الارتقاء بالحق في التنمية كي يصبح أهم من الحقوق السياسية والمدنية الفردية، ووضع معايير فنية تسمح للدولة بالسيطرة على تدفق المعلومات.
تجدر الإشارة إلى أن نهج الصين يعتبر تكتيكياً واستراتيجياً، على حد سواء. إذ إن المسؤولين الصينيين مهيؤون لتأكيد المصالح الوطنية الصينية حتى لو تعارضت مع مصالح المؤسسات الدولية التي يعملون فيها. ومثلاً، في 2020، جرى حظر حساب "تويتر" الخاص بـ"منظمة الطيران المدني الدولي"، على المستخدمين ممن يدعمون عضوية تايوان في تلك المنظمة. وفي مثل آخر، منع دولكون عيسى، أحد أهم نشطاء "الإيغور" في العالم، من التحدث أمام المنتدى الدائم للأمم المتحدة المعني بقضايا السكان الأصليين في 2017. وفي ذلك السياق، ظهر المسؤول الصيني الذي يشغل منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وو هونغبو، على التلفزيون الصيني ليعلن لاحقاً مسؤوليته عن منع ظهور عيسى، مشيراً إلى أنه "علينا الدفاع بقوة عن مصالح الوطن الأم". وعلى نحو مماثل، ذكرت صحيفة "لو موند" الفرنسية في 2019 أن بكين هددت بمنع الصادرات الزراعية من البرازيل وأوروغواي إذا لم تدعما المرشح الصيني لمنصب المدير العام لـ"منظمة الأغذية والزراعة" (فاو).
وفي سياق مشابه، يلتزم شي باستراتيجية طويلة الأجل بغية تحويل القواعد العالمية الأوسع نطاقاً في مجالات كإدارة الإنترنت وحقوق الإنسان والمعايير الفنية، بطرق تزيد من تحكم الدولة بالحقوق والحريات الفردية. في كل مجال من تلك المجالات، سعت الصين إلى تأمين مناصب قيادية للمسؤولين الصينيين أو جهات فاعلة صديقة أخرى في المؤسسات ذات الصلة واللجان الداعمة، وأغرقت الاجتماعات بأعداد كبيرة من المشاركين الصينيين. وإضافة إلى ذلك، صبت الصين موارد مالية على محاولات تحديد أجندات ونتائج المناقشات السياسية. مع مرور الوقت، أجدت الإستراتيجية نفعاً. وفي ذلك الصدد، أضحت المقترحات الصينية التي تدعو مثلاً إلى سيطرة الدولة على تدفق المعلومات إلى كل جهاز متصل بالشبكة، قيد التطوير والدراسة في الأمم المتحدة.
علاوة على ذلك، أشار شي إلى اعتزامه تولي القيادة في تطوير المعايير ضمن المجالات التي لم تنته بعد عملية التأسيس فيها بشكل كامل، على غرار الفضاء والمجال البحري والقطب الشمالي. وبالنسبة إلى القطب الشمالي، تحرك شي بقوة لمحاولة تعزيز دور الصين في تحديد مستقبل المنطقة. على الرغم من كون الصين على بعد 900 ميل من الدائرة القطبية الشمالية، فقد قدمت التدريب والدعم المالي لآلاف الباحثين الصينيين في المواضيع المتعلقة بالقطب الشمالي، ودعمت البحث المشترك والاستكشاف مع دول القطب الشمالي، وبنت أسطولاً من كاسحات الجليد الحديثة، ومولت محطات البحوث في عدد من بلدان تلك المنطقة. من بين الدول المراقبة في "مجلس القطب الشمالي"، تعتبر الصين هي الأكثر نشاطاً بشكل طاغ، إذ إنها تستضيف المؤتمرات العلمية وتقدم البحوث للمراجعة، وتتطوع للعمل في اللجان العلمية. في ذلك الإطار، حاول شي تأكيد حقوق الصين في عملية صنع القرار حول القطب الشمالي من خلال الإشارة إلى الصين على أنها "قوة قريبة من القطب الشمالي" وإعادة تأطير القطب الشمالي كقضية مشتركة عالمية، ما يستلزم إجراء مفاوضات بين مجموعة واسعة من البلدان.
وفي المقابل، على غرار ما حصل مع المجالات الأخرى في السياسة الخارجية الصينية، ظهر أن ثمة ثمناً لذلك الإصرار. على الرغم من أن الصين قد قطعت شوطاً بعيداً في إقحام نفسها في تطوير المعايير حول القطب الشمالي، إلا أنها بدأت تفقد مكانتها حينما أصبحت دول القطب الشمالي أقل ميلاً لقبول الاستثمار الصيني نتيجة للمخاوف بشأن المخاطر الأمنية المحتملة.
وبطريقة موازية، أثار نهج شي الأكثر نشاطاً اهتماماً جديداً بين عدد من البلدان في تعزيز النظام الدولي الحالي المستند إلى القواعد الراسخة. وبالتالي، تضافرت مجموعة من البلدان مثلاً، بهدف منع وكالات الأمم المتحدة وبرامجها من دعم إدراج "مبادرة الحزام والطريق" تلقائياً في بيانات مهامها أو مبادراتها. وكذلك باتت تتحرك لحشد الدعم لمصلحة مرشحين للقيادة في وكالات الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات المتعددة الأطراف، يكونوا قادرين على توفير التزام قوي بالانفتاح والشفافية وسيادة القانون. فضلاً عن ذلك، توجه تلك البلدان الانتباه نحو الحالات التي يبدو أن الصين تؤثر فيها على أفضل الممارسات بشكل غير ملائم أو تقوضها، على غرار إحجام "منظمة الصحة العالمية" الأولي عن معالجة افتقار الصين للشفافية خلال الشهر الأول من جائحة كورونا.
التضحية بالحرب للفوز بالمعركة
من المستطاع وصف رغبة الصين في إعادة ترتيب النظام العالمي بأنها رغبة طموحة. في المقابل، تعتبر قيادة الولايات المتحدة على المسرح العالمي، ونظام التحالف الديمقراطي الخاص بها، ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الدولي الليبرالي، مترسخة بعمق. وعلى الرغم من ذلك، يجادل المسؤولون الصينيون بأن القرنين الماضيين، حينما لم تكن الصين مهيمنة على الاقتصاد العالمي، كانا بمثابة انحراف تاريخي. وكذلك يزعمون أن قيادة الولايات المتحدة آخذة في التراجع. ووفق تأكيد هي يافي، نائب وزير الخارجية السابق، "تلوح في الأفق نهاية السلام الأميركي، أو القرن الأميركي". وفي سياق متصل، أعرب القادة الصينيون وعديد من المراقبين الدوليين عن ثقتهم في أن بكين تسير على طريق النجاح. وقد وصف شين دينغلي، الباحث الشهير في "جامعة فودان"، الصين بأنها تحتل "مكانة أخلاقية عالية" في المجتمع الدولي وتعمل بوصفها "الدولة الرائدة في العصر الجديد". كذلك، وصف شي نفسه تجديد شباب الصين بأنه "حتمية تاريخية".
في الواقع، هنالك سبب لتفاؤل شي. من الواضح أن الصين قد أحرزت تقدماً في كل الأبعاد التي حددها شي على أنها ضرورية للإصلاح، فيما تضررت سمعة الولايات المتحدة وتأثيرها بسبب الصراع الداخلي والافتقار إلى القيادة على الساحة العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو من المعقول بنفس الدرجة، إن لم يكن أكثر من ذلك، أن الصين قد كسبت بعض المعارك لكنها تخسر الحرب. لذا، قد تتردد في الداخل الصيني أصداء تقييم شي المتفائل لاستجابة الصين الوبائية، لكن المجتمع الدولي يحتفظ بذكريات حية عن دبلوماسية بكين التنمرية، والممارسات القسرية المتعلقة بمعدات الحماية الشخصية، والقمع والعدوان العسكري في هونغ كونغ و"شينجيانغ"، والعداء المستمر بشأن تحديد أصول الفيروس. في منحى مقابل، يريد شي أن تكون الصين في نظر المجتمع الدولي "ذات مصداقية ومحبوبة ومحترمة"، لكن أفعاله أسفرت عن استطلاعات للرأي العام تعبر عن مستويات قياسية منخفضة من الثقة به ورغبة قليلة في القيادة الصينية. والآن، تمر مبادرات متعددة ترمي إلى تعزيز المركزية الصينية، كـ"مبادرة الحزام والطريق"، ومعاهد كونفوشيوس، وقيادة الحوكمة العالمية، بحالة من التعثر أو التباطؤ، إذ أصبحت التكاليف الاقتصادية والسياسية الكاملة المترتبة على الرضوخ للقيادة الصينية واضحة بالنسبة إلى بقية العالم.
واستطراداً، قد يسامح المجتمع الدولي أيضاً إذا تساءل عما يريده شي وراء المركزية. في ذلك الصدد، أوضح شي أنه يريد من الصين أن تلعب دوراً مهيمناً في تحديد القواعد التي تحكم النظام الدولي. وفي المقابل، مع تراجع الولايات المتحدة عن القيادة العالمية خلال رئاسة دونالد ترمب، أثبت شي عدم رغبته أو عدم قدرته على أن يحل بديلاً من الولايات المتحدة في قيادة المجتمع الدولي في الرد على التحديات العالمية أو النهوض بدور شرطي العالم. قد ترغب الصين ببساطة في التمتع بالحقوق، ولكن ليس بالمسؤوليات الكاملة، التي تؤول بشكل تقليدي إلى القوة الأكثر أهمية في العالم.
تجدر الإشارة إلى أن طموح شي في مركزية الصين على المسرح العالمي يعد قليل الجاذبية بالنسبة إلى جزء كبير من بقية العالم، وفي السياق الحالي للمعارضة الدولية المتزايدة، يبدو نجاحه المباشر غير مرجح. وعلى الرغم من ذلك، إذا أدرك شي أن استراتيجيته تتفكك، فقد تكون النتيجة بالنسبة إلى المجتمع الدولي بنفس درجة الصعوبة المتضمنة في حال نجاحه. زفي الأشهر الأخيرة، أثار شي قلق قادة العالم من خلال اتخاذ إجراءات صارمة ضد شركات قطاع التكنولوجيا الصيني التي تعمل على المستوى العالمي، والقضاء على آخر بقايا الديمقراطية في هونغ كونغ، واستعراض عضلات الصين العسكرية من خلال اختبار صاروخ أسرع من الصوت بشكل فائق. وعلى نحو مشابه، يلوح في الأفق احتمال كبير لاتخاذ مزيد من الإجراءات المزعزعة للاستقرار، على غرار اللجوء إلى استخدام القوة من أجل الاتحاد مع تايوان. في الحقيقة، لم يحدد شي مساراً سلمياً للمضي قدماً في الوحدة مع تلك الدولة الجزيرة، وقد أظهر بالفعل استعداداً للانخراط في سلوك عسكري محفوف بالمخاطر في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي، إضافة إلى الحدود مع الهند.
وفي مواجهة رياح معاكسة دولية كبيرة، جاءت استجابة شي على هيئة رفع الرهانات. بالتالي، يبدو أنه غير راغب في التخفيف من طموحه، إلا في المجالات التي لا تتعرض فيها أولوياته السياسية والاستراتيجية الأساسية للخطر، على غرار تغير المناخ. وبالتالي، ستكون النتيجة المثلى بالنسبة إلى شي، على الرغم من أنها لا تزال غير مرجحة، متجسدة في الانخراط ضمن سلسلة من التسويات الداخلية المستمرة وغير الصريحة، على غرار المطالبة بالقيادة الاقتصادية الإقليمية، كثمن للتراجع عن شن عدوان عسكري في المنطقة، والافتخار بوقف انتشار كورونا من جهة، مع الاعترف بضعف ابتكار اللقاح الصيني من جهة أخرى، وكذلك تحقيق نجاح صارخ في القضاء على الهجمات الإرهابية في شينجيانغ، لكن الثمن يكون البدء في عملية تحرير مسلمي الإيغور "المعاد تثقيفهم" من معسكرات الاعتقال. ومن شأن تلك المجموعة من التسويات الداخلية الضمنية أن تمكن شي من الحفاظ على قصة النجاح في تعزيز المركزية الصينية، مع الاستجابة في الوقت نفسه لأهم مخاوف المجتمع الدولي.
والجدير بالذكر أن قدرة شي على تحقيق طموحه تعتمد على تفاعل عدد من العوامل تشمل من جهة الحيوية المستمرة للجيش والاقتصاد الصيني، ودعم القادة الكبار الآخرين والشعب الصيني، فيما تبرز من جهة أخرى، إمكانية أن يواصل العالم مقاومة الإكراه الصيني، وقدرة الديمقراطيات العالمية وغيرها في التعبير عن رؤيتها المقنعة بشأن مستقبل العالم والسعي إلى تحقيق هذه الرؤية. في المقابل، ربما يكون الأهم في نجاح شي، متمثلاً في قدرته على تقبل ومعالجة الانفصال الواسع بين ما يريد تقديمه للعالم وما يريده العالم منه.