يتعرض الرئيس بايدن إلى ضغوط متزايدة من قادة الكونغرس من الحزبين، لتضييق الحصار الاقتصادي على روسيا التي تواصل قواتها غزوها المدّمر لأوكرانيا، بما في ذلك مقاطعة صادرات النفط والغاز من روسيا، والتي استثنتها واشنطن ودول حلف الناتو من سلة العقوبات المالية والاقتصادية التي فرضتها واشنطن وحلفائها فور بدء الغزو. اقتراب واشنطن والعواصم الأوروبية من قطع أهم شريان حيوي للاقتصاد الروسي، والمصدر الرئيسي للعملة الأجنبية، أبرز إلى العلن وبشكل نافر علاقات واشنطن المعقدة بالدول الرئيسية المنتجة للنفط، مثل تلك التي تربطها بها صلات قديمة مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وأيضا خصومها التقليديين الذين فرضت عليهم عقوبات قاسية مثل إيران وفنزويلا وصعوبة إدارتها في هذه المرحلة المضطربة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، فإنها استوردت من روسيا حوالي672 ألف برميل نفط في اليوم خلال السنة الماضية، بما يعادل 8 بالمئة من مجمل مستوردات الولايات المتحدة من النفط. في المقابل تستورد دول الاتحاد الأوروبي 27 بالمئة من احتياجاتها من النفط من روسيا. وكانت أسعار النفط العالمية قد بدأت بالارتفاع قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ووصلت في الأسبوع الثاني للغزو إلى 110 دولار للبرميل، ولكن في أعقاب التقارير الصحفية التي تحدثت عن اقتراب واشنطن وحلفائها الأوروبيين من مقاطعة صادرات الطاقة الروسية، ارتفع سعر البرميل إلى حوالي 130 دولار.
ومع أن الاقتصاد الاميركي قد استعاد الكثير من عافيته الصحية التي تدهورت خلال الأشهر الصعبة التي عطلت فيها جائحة كورونا معظم الاقتصاديات الكبيرة في العالم، إلا أن الاضطرابات التي لحقت بعمليات الاستيراد والتصدير وآثارها السلبية على الأسواق، والعقبات التي واجهها الشحن البحري كلها ساهمت في ارتفاع حاد لنسب التضخم، التي وصلت في الأشهر الأخيرة في الولايات المتحدة إلى معدلات غير مسبوقة منذ أربعين سنة. معدلات التضخم هذه، ورغبة بايدن وغيره من القادة الأوروبيين بتفادي ارتفاع حاد وجديد في أسعار الطاقة هو الذي جعله يتردد في استخدام سلاح النفط لمعاقبة الرئيس بوتين واقتصاده.
وفي الأسابيع التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، سعت واشنطن لزيادة حجم الانتاج العالمي للنفط من خلال محاولة إقناع الدولتين القادرتين على تحقيق ذلك بسرعة نسبية، أي السعودية ودولة الإمارات، ولكن مساعيها مع الحليفين اللدودين باءت بالفشل حتى الآن. هذه المساعي شملت قيام الرئيس بايدن بحض دول الخليج العربية على ضخ المزيد من النفط، وهو ما فعله في اتصال هاتفي الشهر الماضي مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، حيث ناقش معه "ضمان استقرار إمدادات الطاقة العالمية" وفقاً لبيان البيت الأبيض، ومن خلال إيفاد، بريت ماغورك، منسق شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وأيموس هوتشستين، مبعوث شؤون الطاقة في وزارة الخارجية إلى الرياض للغرض ذاته.
ولكن السعودية والإمارات بقيتا على موقفهما من الالتزام بما يسمى اتفاق OPEC+، وهو الاتفاق بين منظمة الدول المصدرة للنفط وروسيا، والذي يحدد انتاج النفط ومنع خلق طفرة نفطية في السوق العالمي تؤدي إلى انخفاض الأسعار. وفي الأشهر الأخيرة بقي إنتاج السعودية من النفط أقل من حصتها المتفق عليها في سياق OPEC+ . وتنتج السعودية حاليا حوالي 10 ملايين برميل من النفط في اليوم، ولكنها قادرة خلال فترة وجيزة على رفع هذا السقف إلى 12 مليون برميل في اليوم.
رفض السعودية والإمارات زيادة إنتاجهما من النفط، يأتي على خلفية فتور العلاقات بين واشنطن وكل من الرياض وأبوظبي منذ انتخاب الرئيس بايدن، الذي انتقد هو وأقطاب إدارته – حتى قبل انتخابه -الحرب التي قادتها الدولتان ضد حركة الحوثيين في اليمن التي تدعمها إيران، وأدت إلى التسبب بكارثة انسانية وقتل الآلاف من المدنيين، ودمار مادي كبير في أفقر دولة عربية، إضافة إلى الاستياء الأميركي العام من ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، الذي حملته الاستخبارات الأميركية مسؤولية إعدام الصحافي جمال خاشقجي، وتقطيع أوصاله. ومع أن العلاقات تحسنت بعض الشيء عندما ألغى الرئيس بايدن، قراراته الأوليةبتعليق تطبيق بعض صفقات الأسلحة للدولتين، إلا أن مفاوضات فيينا الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، والانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان والذي عزز التقييم العام في المنطقة بأن واشنطن تعتزم تخفيض "بروفيلها" العسكري وحتى السياسي في المنطقة، كلها ساهمت في تعميق مشاعر الفتور والاغتراب بين واشنطن وكل من الرياض وأبوظبي.
وساهم الغزو الروسي لأوكرانيا، وامتناع السعودية ودولة الإمارات عن إدانته وتأييد سيادة أوكرانيا وحرمة أراضيها (وحدها الكويت انضمت إلى قائمة من 80 دولة رعت قرار مجلس الأمن إدانة الغزو) وتمسك هذه الدول بحياد هو في الواقع قبول ضمني بالانتهاكات الروسية الشنيعة لحقوق الأوكرانيين، كل هذه العوامل ساهمت في وضع العلاقات بين واشنطن والدولتين الخليجيتين أمام مفترق طرق. الدولتان تواصلان الإصرار على الالتزام بالاتفاق النفطي مع روسيا، كما واصلتا الاتصالات مع روسيا، بما في ذلك اتصال بين الرئيس بوتين وولي العهد السعودي أكدا فيه الالتزام بالاتفاق النفطي، وعرض فيه، الأمير محمد بن سلمان، التوسط بين موسكو وكييف.. وكذلك اتصال مماثل بين، الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد الإمارات مع الرئيس بوتين ناقشا فيه العلاقات الثنائية "وسوق الطاقة" والتطورات في أوكرانيا. موافقة السعودية والإمارات وإسرائيل (من بين 141 دولة) على مشروع قرار في الجمعية العامة لاحقاً ينتقد روسيا، ويدعو إلى وقف القتال في أوكرانيا لا يغير حقيقة أن الدولتين الخليجيتين تقفان عملياً مع روسيا.
ووفقا لمصادر حكومية وغير حكومية، فإن ولي العهد السعودي مستاء جداً لأن الرئيس بايدن لا يزال يرفض الاتصال به، ويترك هذه المهمة لوزير دفاعه، لويد أوستن، الذي يتصل بالأمير محمد بصفته نظيرا له في وزارة الدفاع، بينما يقول المسؤولون في البيت الأبيض، أن بايدن يتحدث مع الملك سلمان بصفته رأس الدولة. ولي العهد السعودي عبّر عن استيائه من الرئيس بايدن، خلال مقابلة معه نشرتها قبل أيام مجلة The Atlantic وجوابا على سؤال "هل هناك شيء لا يدركه جو بايدن عنك؟" أجاب ولي العهد السعودي "ببساطة، لا يهمني الأمر" وأضاف وهو يهز كتفيه ليبدي عدم مبالاته " عليه هو أن يفكر بمصالح أميركا".
خلال النقاش الراهن في أوساط المسؤولين والمحللين حول مضاعفات استخدام سيف العقوبات النفطية ضد بوتين وروسيا، يدعو بعض المحللين والعديد من المشرعين الجمهوريين إلى زيادة إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، ولكن هناك عقبات تقنية واعتبارات تتعلق بالبيئة تجعل تحقيق ذلك بسرعة أمراً صعبا بعض الشيء. ولكن إدارة الرئيس بايدن في سياق محاولاتها ضبط أسعار النفط في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأت بالتفاوض مع فنزويلا لرفع العقوبات المفروضة عليها والسماح لشركات النفط الأميركية باستئناف ضخ النفط في فنزويلا. وقبل أيام زار وفد أميركي كاراكاس لهذا الغرض. وكان إنتاج النفط في فنزويلا قد انخفض إلى 760 ألف برميل في اليوم في السنة الماضية، ولكن يُعتقد أن هذا الإنتاج يمكن أن يرتفع، في حال إلغاء العقوبات الأميركية وعودة الشركات الأميركية إلى البلاد، إلى 1.2 مليون برميل في اليوم خلال 8 أشهر. أيضاً، يمكن لفنزويلا بيع 23 مليون برميل من النفط المخزون لديها في حال رفع العقوبات.
ويمكن للمشهد النفطي العالمي أن يتغير في حال التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا يمكن أن يؤدي إلى إلغاء العقوبات الأميركية المفروضة على قطاع النفط الإيراني. ووفقا لتقارير صحفية عديدة وتسريبات من المسؤولين المشاركين في المفاوضات، فإن الأطراف اقتربت كثيرا من الاتفاق على آخر القضايا العالقة. ويمكن لإيران خلال بضعة أشهر، أن توفر أكثر من مليون برميل نفط في اليوم للسوق العالمي.
أسعار النفط تتغير دوما وهي عرضة للعرض والطلب وتتأثر بالنزاعات والتوترات الدولية، كما أن الخلافات بين الدول المصدرة للنفط لا تختفي كلياً. وهذا يعني أن دول الخليج العربية لن تحافظ بالضرورة على مركزها المتفوق حالياً في أسواق النفط إلى أمد مفتوح. أسعار النفط قبل سنتين كانت حوالي نصف الأسعار الحالية. وإنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز (والذي يصل إلى حوالي 19 مليون برميل من النفط والغاز الطبيعي المسال في اليوم) قد يرتفع أكثر إذا عاد الحزب الجمهوري للسيطرة على مجلسي الكونغرس والبيت الأبيض، حيث يمكنه فتح المحميات الأميركية الفدرالية، وتعليق بعض القيود المفروضة على إنتاج الطاقة لاعتبارات بيئية. كل هذا لكي نقول إن المشهد النفطي الراهن ليس ثابتاً إلى وقت طويل.
للدول الخليجية الحق في أن تنهج نهج الحياد في المنافسة أو المواجهة بين واشنطن وموسكو. هذا حقها كدول ذات سيادة. ولكن إذا أرادت اعتماد الحياد، فعليها أن لا تتوقع البقاء تحت مظلة الحماية الأميركية. وإذا كانت آبار النفط العربية لن تنتج كميات إضافية من النفط، يمكن لمصانع الأسلحة الأميركية أن تخفض من إنتاجها من الذخائر وقطع الغيار التي تريدها دول الخليج العربية لخدمة ترساناتها العسكرية التي تهدرها في نزاعات إقليمية عبثية سياسيا، ومكلفة بشريا واقتصاديا من اليمن إلى ليبيا. لهذه الدول الحق في شراء أسلحة روسية أو حتى صينية وهنيئا لها، أي مظلة حماية روسية وصينية. هذه الدول تستطيع أن تتحدث إلى ما لا نهاية حول حسنات "الحياد"، ولكنها عملياً تدعم حاكم طاغياً يسيطر على أحد أكبر الجيوش في العالم ويقوم بانتهاك رهيب لسيادة دولة مستقلة وفيها شعب مكون من أكثر من أربعين مليون نسمة. هذا الحياد هو تأييد عملي لاحتلال أجنبي.
خلال ولايته الثانية قال الرئيس أوباما إن على دول الخليج العربية أن تتحمل أعباء حماية أمنها. هذه الدول أساءت فهم الرئيس الأميركي الأسبق وسارعت إلى الانزلاق في نزاع مأساوي وبشع في اليمن لا يزال مستمراً منذ أكثر من خمس سنوات، تم خلاله استخدام الجيوش النظامية، واستيراد المرتزقة من شباب السودان الفقراء، لاستخدامهم كذخيرة في حرب اليمن. الحرب ضد الحوثيين، وهم تنظيم متطرف لا يتردد في قصف المدنيين في السعودية والإمارات، كما تفعل السعودية في قصفها للمدنيين في اليمن، ساهمت في تعزيز نفوذ إيران التخريبي في اليمن. وما يجري في اليمن منذ سنوات هو حرب لا هوادة فيها تشنها السعودية وإيران والحوثيون ضد المدنيين اليمنيين.
عندما بدأت الحرب في اليمن هلل الإعلام الخليجي لها. الآن يردد هذا الإعلام، دون أي اسئلة أو محاسبة، ما يقوله المسؤولون في الرياض وأبوظبي حول الرغبة بالتوصل إلى سلام. وعندما افترض أوباما أن الدول الخليجية سوف تتصرف بروية عندما تمنى عليها أن تتحمل مسؤوليات أمنها، فانه لم يتصور أن يقوم ائتلاف عربي من السعودية والإمارات ومصر والبحرين خلال بداية ولاية الرئيس السابق ترامب وبمباركة منه، بفرض حصار شامل ضد قطر. الحصار استمر لبضعة سنوات، وكالعادة هلل إعلام هذه الدول لمعاقبة قطر. الحصار دفع قطر أكثر إلى أحضان إيران، وزاد من عدد العسكريين الأتراك في قطر، وهي تطورات سلبية تجاه السعودية والإمارات. وفجأة غيّرت السعودية موقفها واكتشفت أن قطر هي شقيقة عربية، ولحقتها الإمارات. ومرة أخرى هلل المهللون في الإعلام الخليجي لحكمة وبُُعد نظر قادتهم، ولم يطرح أحد سؤالاً واحداً، حول من هو المسؤول عن الأثمان السياسية والاقتصادية التي دفعتها هذه الدول لتهورها. هذه الدول المعنية بالحصار لم تغير مواقفها، فهي ذاتها قبل وخلال وبعد الحصار. في المقابل لا تزال إيران تتصرف كدولة استعمارية في العراق وسوريا واليمن ولبنان من خلال وكلائها وعملائها. تركيا قضمت جزءاً هاماً من شمال سوريا، بمباركة من الرئيس السابق ترامب، ولديها أيضا وكلاؤها السوريون.
منذ أكثر من سنة، بدأت دول المنطقة، تحسباً منها لتخفيض الحضور الأميركي العسكري والسياسي في المنطقة، بمحاولة حل نزاعاتها القديمة، وسارع قادتها لزيارة بعضهم البعض والحديث عن فجر جديد من التعاون الإقليمي. هؤلاء القادة الذين يتمتعون بمناعة ضد أي محاسبة سياسية أو قانونية، لا يمكن لهم أن يفتحوا صفحة جديدة أو أن يكتشفوا فجأة حسنات الحوكمة الصالحة. ما نراه هو فصل آخر في حياة منطقة منكوبة سياسيا وقاحلة اجتماعيا ومترهلة ثقافيا، تتناحر فيها دول فاشلة مع نفسها ومع محيطها، وأنظمة تسيطر بالكاد على عواصمها، التي تكاد أن تنهار تحت ثقل أزماتها الوجودية، ودول مؤلفة من عواصم افتراضية تتمتع بثروات خيالية، وتعتقد أن ثرواتها قادرة على أن تشتري لها المواهب والفنون النفوذ والحماية.
التجربة الأميركية في جنوب آسيا والشرق الأوسط منذ هجمات سبتمبر الإرهابية، كانت حافلة بالكوارث والنكسات وأطول حربين في تاريخ أميركا، وهذا يعود إلى حد كبير إلى الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها صناع القرار في واشنطن. هذه المنطقة الواسعة عصية على الإرادة الأميركية لتغييرها أو إعادة صياغتها، وإدراك الولايات المتحدة أخيرا لهذه الحقيقة هو أمر إيجابي ومطلوب بإلحاح. احتمالات التغيير السياسي الإيجابي أو التدريجي ليست واردة في المستقبل المنظور، ليس في الدول النفطية، أو غير النفطية. الأنظمة الحاكمة، بما فيها الضعيفة لن تسمح لشعوبها أن تقرر مصيرها بذاتها. الانتفاضة المصرية فرّغها الإسلاميون من مضمونها وقضى عليها العسكر بدموية غير مألوفة وبدعم مالي سخي من الخليج. حتى تونس لم تفلت من قبضة الرجل القوي المدعوم من الخليج. والطاغية السوري الذي حوّل مدينة حلب الرائعة وغيرها من مدن سوريا إلى أهرامات من الحجر والتراب، والذي وصف حكام الخليج في السابق بأشباه الرجال، يستقبل قادتهم الآن بلثغته المضحكة.
قد لا تنسحب الولايات المتحدة بسرعة من المنطقة، كما ليس من المتوقع أن تضع المنطقة في مرآتها الخلفية بشكل كلي في المستقبل المنظور. ولكن الحكمة تقضي بتخفيض الطموحات الأميركية في هذا الفضاء العربي القاحل إلى أدنى مستوى ممكن. الكلمات التالية للشاعر البريطاني-الأميركي W.H. Auden تصلح لوصف هذا القحط العربي الذي لا نهاية له:
"لقد مشيت طويلا لأُثبت
أن لا أرض هنا، ولا ماء ولا عشب".