في عيد ميلادها الـ(59)، الإثنين 17 يناير/كانون الثاني الجاري، نشر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما صورة له عبر صفحته الشخصية على فيسبوك وهو يطبع قُبلة على الخد الأيسر لزوجته ميشيل أوباما، وعلامات السعادة تبدو على وجهها المبتسم بصفاء ورضا وسكينة.
الصورة كاشفة عن زوجين سعيدين، وهما ليسا زوجين عاديين، بل رئيس سابق للدولة العظمى، والسيدة الأولى، وهما أول أمريكيان من أصل أفريقي يدخلان البيت الأبيض، مركز الحكم في الولايات المتحدة، ويمكثان فيه 8 سنوات.
مع هذا لا يمكن القطع بأن العلاقة بين الزوجين مثالية، قد تكون مثالية فعلًا، وقد تتخللها الخلافات المعتادة بين أي زوجين، خاصة أن الشراكة بينهما تمتد إلى 30 عامًا أسفرت عن إنجاب فتاتين، ماليا وساشا.
أؤمن بأن وراء كل باب حكاية، فالأبواب المغلقة تخفي وراءها قصصًا يصعب تصديقها أحيانًا لغرابتها، وعندما تنفجر الخلافات وتخرج إلى العلن فإن التفاصيل تكون صادمة.
ذات مرة ذهبت لمعاينة وحدة سكنية، ولفت انتباهي أن الأوضاع غير طبيعية، الغرف بدون أبواب، ودورات المياه بغير تجهيزاتها، ومفاتيح الكهرباء غير موجودة، وهذا لا يحدث من المالك عندما يقرر بيع شقته، بل إن بعض الملاك يحرصون على إعادة صيانة شققهم ودهانها لتجذب المشترين ويرتفع ثمنها.
فهمت من مرافقي أن الشقة كانت لزوجين كبيرين في السن والوظيفة والهيئة الاجتماعية، ومر على ارتباطهما أكثر من ثلاثين عامًا لكن دبت الخلافات العاصفة بينهما فطُلّقا، ومن شدة الخصومة قام الزوج بأخذ كل ما يستطيع من الشقة حتى الأحواض والمراحيض ومفاتيح الكهرباء والأبواب، ولو استطاع خلع البلاط لفعل، رغم أن لهما أبناء كبارًا متزوجين.
لم يتسرب شيء عن توتر في العلاقة الأسرية بين أوباما وميشيل، ولو كان هناك خلافات في حياتهما لكان الإعلام الأمريكي الحر تحدّث عنها ونشرها، وهذا النوع من القصص يجذب القراء خاصة عندما يتعلق الأمر برئيس الدولة العظمى ومجتمع الحكم والنخبة السياسية.
ولنا في العلاقة الشائنة بين الرئيس الأسبق بيل كلينتون والمتدربة مونيكا لوينسكي مثلًا، فقد كان العالم يتابع بشغف أسرار العلاقة بينهما داخل المكتب البيضاوي وأروقة البيت الأبيض، وقد دبت خلافات عنيفة بينه وبين زوجته السيدة الأولى هيلاري كلينتون لكنها من فرط ذكائها سيطرت على نفسها وساندت زوجها الذي كاد يفقد الرئاسة بسبب الفضيحة المدوية.
ومثل هذه القصص لساكني قصور الحكم وعِلية القوم تحظى باهتمام القراء والمتابعين في مختلف بلدان العالم، فالناس ترغب دومًا في الاطلاع على طبيعة الحياة والعلاقات الخاصة بين هؤلاء الذين يحكمون أو يعيشون في عوالمهم الخاصة ويظهرون دومًا أمام الكاميرات كأنهم مختلفون عن بقية البشر ولا يقع بينهم ما يقع بين البشر.
لم يكتفِ أوباما بنشر الصورة فقط، إنما كتب معها بضع كلمات رقيقة لزوجته حيث قال: (حبيبتي، شريكتي، أعز صديقة لي)، وقد حاز المنشور المفعم بالمشاعر إعجابًا وتعليقات ومشاركات بالملايين من أصدقاء أوباما ومتابعيه الذين يزيد عددهم على 55 مليونًا حول العالم.
أوباما وميشيل درسا الحقوق، والتقيا في مكتب محاماة كانا يعملان فيه وربط الحب بين قلبيهما وتزوجا عام 1992 واشتركا في بناء حياة أسرية ناجحة، وصورة عيد الميلاد الحميمة كاشفة عن أن مؤسسة الأسرة لا تزال موجودة في أمريكا والغرب، فليس المجتمع كله مفككًا منحلًّا كما قد يتصور البعض.
لفت انتباهي أن صورة القُبلة تم التقاطها في مكان يطل على أحد السواحل، وبدت أشعة الشمس الصفراء مثل خيوط الذهب التي تنسدل لتلتحم بالمياه وتشكل مع سحب داكنة وأشجار النخيل والأرض الخضراء في حديقة المكان مشهدًا بديعًا في جماله، سبحان الله على هذه الطبيعة الفريدة.
صورة مثل هذه تأخذ بالألباب تمثل دعاية سياحية مجانية للسواحل والطبيعة الأمريكية، ومن يريد المحاكاة للجماليات والإيجابيات فعليه الاستفادة من درس الاحتفاء بالتخضير والتشجير والبيئة النظيفة وتوفيرها للمنتجعات والمتنزهات والسواحل والشوارع والميادين وكل مكان في بلاده لصنع حياة جميلة للناس، وخطف وجدان وعقول الراغبين في السفر والاستمتاع بالمناظر والأجواء البهية.
يبدو الرئيس والسيدة الأولى (سابقًا) بسيطين في ملابسهما، وغير متكلفين، فلا بذخ أو بهرجة أو مظاهر فجة مستفزة في المكان الذي يوجَدان فيه، هما مواطنان كأي مواطنين عاديين، وهذا يقرّبهما من الناس ويزيل الحواجز معهم، قارن هذا المشهد بمشهد آخر لحاكم عربي أو أحد من عائلته أو الدائرة المقربة منه ستجد استعراض السلطة والنفوذ والبهرجة والفجاجة والغلظة والقبح حتى لو كان البلد مَدينًا وشعبه فقيرًا.
لم تظهر في الصورة حراسة خاصة لـ”أوباما”، علمًا بأن هناك طاقم حراسة ثابتًا مخصصًا لكل رئيس سابق يذهب معه أينما حل، لكن دون مضايقات لأحد ممن يتصادف وجودهم حوله إذا اتجه إلى مطعم أو مقهى أو متجر أو مكان عام لممارسة حياته مثل بقية الناس في تناول الطعام والشراب والتسوق ولقاء الأصدقاء والتنزه، فالرئيس عندما تنتهي فترة خدمته للشعب يعود مواطنًا عاديًّا، ولهذا يكتب أوباما في التعريف بنفسه على فيسبوك أنه (أب، زوج، رئيس سابق، مواطن).
في أمريكا رؤساء سابقون هم: أوباما، ترمب، جورج بوش الابن، كلينتون، كارتر (5 رؤساء على قيد الحياة)، ومثل هذه الظاهرة غير موجودة في البلدان العربية، فالحاكم إما مؤبّد في السلطة، أو مقيّد في السجن، أو في القبر، لا نجد حاكمًا انتهت فترة خدمته الرسمية، ثم صار مواطنًا يعيش حياته مثل بقية شعبه، ويتحرك وسطهم، ويرونه ويراهم، ويتبادلون معه السلامات والتحيات بحب ومودة، كما هو حال أوباما والرؤساء الأخرين.
الحاكم العربي معزول عن شعبه وهو في السلطة، وإذا جرى تنظيم جولة له في مكان عام فيتم تفريغ هذا المكان من ساكنيه ورواده ويأتون له بمن يقوم بتمثيل دور المواطنين.
وإذا حصل وكان حاكمًا سابقًا فإنه يواصل عزلته عن الناس، هل رأى أحد مبارك يومًا بمكان عام في مصر؟ وهل خرج بن علي يتجول يومًا على كورنيش جدة منفاه الذي هرب إليه من ثورة الشعب التونسي؟ وهل يعلم أحد أين يقيم بشار الأسد في سوريا؟ وأين يقيم الحكام الآخرون؟ لكن في أمريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وكل بلدان الديمقراطية للحكام عناوين معروفة، وبعد مغادرتهم المقار الرسمية للحكم والإقامة يذهبون إلى شققهم أو بيوتهم وهي معروفة أيضًا.
أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا السابقة ظلت تقيم في شقتها المتواضعة طوال 16 عامًا هي فترة حكمها، وجيرانها يعرفونها وتعرفهم وتأمن لهم وهم يحافظون عليها لأنها وأمثالها من الحكام يحكمون فيعدلون فيأمنون فينامون مطمئنين، وهي القاعدة التي سجلها للتاريخ وللعالم الخليفة العادل عمر بن الخطاب.
أوباما، والرؤساء السابقون، والرئيس الحالي بايدن، دخلوا البيت الأبيض في انتخابات حرة، وخرجوا من الحكم في انتخابات نزيهة أيضًا، أو بانتهاء فترتي الرئاسة وفق الدستور، وهذا هو التداول السلمي النموذجي السلس للسلطة، ترمب ماطل في الاعتراف بالهزيمة، لكن الديمقراطية وقوة المؤسسات قطعت الطريق عليه، وهو حالة شاذة في التاريخ الأمريكي.
لم يتم إطاحة رئيس في السلطة، ولم يخرج رئيس من البيت الأبيض إلى السجن، ببساطة لأن كل أعمال الرئيس والسلطة التنفيذية تخضع للرقابة والمحاسبة الرسمية والأهلية طوال فترة حكمه، وبالتالي لا مجال لدى الرئيس لمخالفة الدستور والقانون والتورط في فساد واستغلال نفوذ يتم اكتشافه بعد مغادرته المنصب.
أوباما علامة في تاريخ الرئاسة الأمريكية، فهو أول رئيس أسود من أصول أفريقية، وزوجته أول سيدة أولى سوداء، وهو رجل قانون ومثقف، وقد انطلق بسرعة الصاروخ في العمل السياسي، وكان أصغر سيناتور في مجلس الشيوخ عندما فاز بمقعد عام 2004، وذلك العام كان بداية السعد له حيث برز على المستوى القومي بعد الخطاب الشهير الذي ألقاه في مؤتمر الحزب الديمقراطي لإعلان ترشيح الحزب رسميًّا للسيناتور جون كيري للرئاسة في مواجهة جورج بوش الابن، وتابعت هذا الخطاب، وأعجبني، وكتبت عنه، وتنبأت له بمستقبل لامع، وحصل هذا، إذ بعدها بأربع سنوات فقط (2008) كان مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة بعد أن تخطى هيلاري كلينتون منافسته على بطاقة ترشح الحزب، وهزم المرشح الجمهوري العتيد جون ماكين.
ربما لم يكن أوباما على قدر ما كان متوقعًا من رئيس الدولة التي ترفع شعارات وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام إرادة الشعوب، فقد عاصر أهم حدث في التاريخ الحديث للشعوب العربية، وهو ثورات الربيع العربي، وهناك من يتهمه بأنه خذل الشعوب، وهناك من يراه رئيسًا ضعيفًا مترددًا، وهناك من يقول إنه كان يرغب في مغادرة البيت الأبيض بأمان دون أن يتورط في أزمات مثل سابقه جورج بوش الابن.
والصحيح أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات ومصالح لا يعنيها بلد أو شعب آخر بقدر ما تعنيها منافعها خاصة في الشرق الأوسط حيث وجود وأمن إسرائيل ثابت تاريخي في سياساتها، وإذا كان التغيير الديمقراطي سيمثل مأزقًا لإسرائيل فإن أمريكا لن تعبأ بقيمها وشعاراتها.
والخلاصة أن التغيير إرادة ذاتية، ومن ينتظر المعونة من الخارج فهو مخدوع ويستحق ما هو فيه.