تُحطِّم الولايات المتحدة في الوقت الحالي رقمًا قياسيًّا تلو الآخر في حصيلة الإصابات اليومية بفيروس «كورونا»، وذلك بفعل انتشار متحور «أوميكرون» هناك، وهو المتحور شديد العدوى من ذلك الفيروس ، ينطوي هذا المتحور الجديد على خطر الإصابة بعدوى الاختراق، أي العدوى بالرغم من تلقِّي اللقاح ، بمعدل أعلى بخمس مرات من المتحور «دلتا»، الأمر الذي يفسر ما نشهده من تداعيات كبيرة له على القوى العاملة الأمريكية في جميع القطاعات؛ إذ كان تصاعُد عدد حالات الإصابة بين العمال الأساسيين سببًا في تعطيل العديد من العاملين في مجال الرعاية الصحية عن أداء مهماتهم، فضلًا عن إلغاء آلاف الرحلات الجوية خلال موسم العطلات، وانقطاع سلاسل الإمداد مرةً أخرى .
وفي خضم كل ذلك، أتت المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) لتزيد الطين بلّة بالطريقة التي غيّرت بها توصياتها بشأن العزل؛ فالعزل الذي كانت مدته في الأصل 10 أيام من بعد المخالطة الأولية مع شخص ثبتت إصابته بمرض «كوفيد» تحولت مدته إلى خمسة أيام، يلتزم بعدها المُخالِط بارتداء الكمامة خمسة أيام أخرى بمجرد عودته إلى مباشرة الحياة اليومية جنبًا إلى جنب مع أقرانه من بني البشر ، ولإضفاء المزيد من التعقيد على الأمور، طرحت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية ﻣﻨﻬﺎ خيارًا آخر يتيح للمُخالِط إنهاء العزل عن طريق الخضوع لاختباريثبت وجود الإصابة أو عدمها إن كان الاختبار متوافرًا وتيسرت سبل الحصول عليه (والحقيقة أن الوضع ليس كذلك في الولايات المتحدة حاليًّا).
هذه التغييرات، التي صدرت أولًا في صورة توجيهات تستهدف العاملين في مجال الرعاية الصحية قبل طرحها على عامة الشعب، تثير شكوكًا في أن تحركات مراكز مكافحة الأمراض والوقاية ﻣﻨﻬﺎ لم تُتخذ استنادًا إلى مرجعية علمية، بل كانت مدفوعةً بضغط من مجتمع رجال الأعمال، وكما وَرَد مؤخرًا، فقد أرسل الرئيس التنفيذي لشركة «دلتا إيرلاينز» Delta Air Lines للطيران خطابًا يضغط فيه على رئيس مراكز مكافحة الأمراض والوقاية ﻣﻨﻬﺎ لتفعيل هذه التغييرات بدعوى الحفاظ على القوى العاملة بالشركة، وهكذا، وبالتزامن مع هذا التحول في موقف أكبر وكالة للصحة العامة لدينا، يسود البلاد شعورٌ ملموسٌ بالإحباط، وتتزايد الوتيرة التي تتلاشى بها ثقة الشعب بالعلوم والإجراءات العلمية والعلماء أنفسهم.
ومن جانبنا، بوصفنا أطباء مُطَّلعين تمام الاطلاع على الأدلة المستقاة من واقع التجربة العلمية، فإن مجرد التفكير في أن صحتنا وصحة مرضانا قد تتعرض للخطر بسبب مصالح تجارية قد يُشعرنا وكأننا تلقينا ضربةً قاصمة، وهو أمرٌ كفيلٌ بتقويض ثقتنا نحن شخصيًّا بهذه الوكالة. ولكن هذا الشعور لم ينتبنا ؛ إذ يُحتمَل أن جميعنا قد توقَّع حدوث سيناريو كهذا.
لقد رأينا طوال فترة الجائحة كيف أثارت الرسائل المتضاربة التي انطوى عليها الخطاب الرسمي حول «كوفيد» شكوكًا حول مصداقية العلم، الأمر الذي أفسح المجال لظهور معلومات مضلِّلة، تنطوي على رسائل أكثر اتساقًا ، ومن ثَمَّ تسرُّب تلك المعلومات إلى مجتمعات محلية في جميع أنحاء البلاد، مما قوَّض قدرتنا على وضع سياساتقائمة على بيانات مستمدة من تلك المجتمعات .وحتى قبل ظهور الجائحة، تعرَّض العلم للهجوم من خلال مناقشات استهدفت مصداقيته بأسئلة من قبيل: هل تغيُّر المناخ أمرٌ حقيقي؟ وهل تدخين التبغ أو السجائر الإلكترونية يتسبب في تلف الرئة؟ وهل امتلاك الأسلحة النارية مرتبطٌ بأعمال العنف المسلح؟ وهل المرض العقلي مجرد اختلال في التوازن الكيميائي للمخ أم أنه جزء من سياق بيولوجي ونفسي واجتماعي أوسع؟
وبالمِثل، شهدنا تفشيًا في الآراء المناهضة للقاحات في أعقاب نشر أندرو ويكفيلد لبحثه الذي ربط فيه بين الإصابة بالتوحد وتلقي اللقاحات، بيد أن العشرات من الدراسات التي خضعت لمراجعة الأقران قد أثبتت العكس ، نافيةً وجود أي ارتباط من النوع الذي ادعاه ويكفيلد، تلا ذلك تحرُّك من جانب الناشر بسحب ورقة ويكفيلد البحثية، ومن ثَمَّ فقدان ويكفيلد لمصداقيته العلمية على الملأ، ولكن الضرر كان قد وقع بالفعل؛ فقبل ظهور جائحة «كوفيد-19»، شهدنا تفشِّي مرض الحصبة بحيث وصل إلى أعلى معدلاته منذ أن تم القضاء عليه تقريبًا، والسبب هو امتناع شرائح ضئيلة من المجتمعات الأمريكية عن التطعيم خوفًا من الإصابة بمرض التوحد، وهكذا، وبكل بساطة، تُوفِّي أطفال من جرَّاء مرض كان من المُمكِن الوقاية منه.
ومع استمرار الجائحة، يتعيَّن على وكالات الصحة العامة -أكبرها قبل أصغرها- أن تكون مصدرًا للمعلومات الجديرة بالثقة والقائمة على الأدلة والمتسقة، ولكن هذا لا ينطبق على ﻣﺮاﻛﺰ ﻣﻜﺎﻓﺤﺔ اﻷﻣﺮاض واﻟﻮﻗﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ وحدها؛ فقد أظهرت أكبر وكالة تنظيمية للأدوية في الولايات المتحدة -وهي إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)- تناقضًا لا تقف تداعياته عند عامة الشعب فحسب، بل يمتد تأثيره ليمس كافة مَن يشاركون في تقديم الرعاية الصحية.
ولنأخذ عقار «أدوهلم» مثالًا في هذا الصدد، قبل عدة أشهر من صدور الموافقة على استخدام ذلك العقار المصمم لعلاج مرض ألزهايمر ، اتفقت مجموعة من كبار مسؤولي إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على عدم وجود أدلة كافية بما يسمح بمنحه الموافقة، وقال المسؤولون وقتها إن الوكالة يجب أن تطلب المزيد من الأدلة على أن العقار يعمل بالطريقة التي بيَّنتها الشركة قبل إعادة النظر في أمره أو منحه الموافقة، وقد جاء ذلك بمنزلة ضربة للمرضى والأطباء والباحثين ممن كانوا مفعَمين بالأمل في الوصول إلى علاج مُحتَمَل لهذا المرض الفتاك الذي يفتقر إلى وجود خيارات علاجية.
وعلى الرغم من هذه الانتكاسة، اتفق المجتمع العلمي على أن الأمر يحتاج إلى المزيد من العمل على الصعيد الإكلينيكي، وبعد مرور فترة وجيزة على القرار التوافقي الذي اتخذه الأعضاء الاستشاريون وكبار العلماء، أصدرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية -في موقف مثير للجدل- موافقتها على استخدام العقار دون إجراء دراسات إكلينيكية إضافية ودون أدنى اعتراف بنقص البيانات التي كان من المفترض أن تستند إليها الموافقة، وبعد أسابيع من ردود الأفعال الغاضبة واستقالة العديد من الأعضاء الاستشاريين الرئيسيين، انقلبت جانيت وودكوك -مفوضة إدارة الغذاء والدواء بالإنابة- على عقبيها؛ إذ تبدل موقفها من الإدلاء ببيانات تعبر عن الثقة بقرار الوكالة إلى دعم إجراء تحقيق مستقل بشأنه، وقد أدى التحقيق إلى الموافقة على العقار.ترك هذا التَّقَلُّب المجتمع الطبي في حالة ذهول من القرار الذي اتُّخذ في بداية الأمر بالموافقة على عقار «أدوهلم»، وهو القرار الذي لا يزال يستعصي على الشرح.
لطالما تطلَّع العلماء وأخصائيو الرعاية الصحية إلى مؤسسات مثل ﻣﺮاﻛﺰ ﻣﻜﺎﻓﺤﺔ اﻷﻣﺮاض واﻟﻮﻗﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية بنظرة احترام وإجلال، ومع ذلك، فإن المواقف المتضاربة لتلك المؤسسات وما أثارته من شكوك في أذهاننا كلها تشير إلى وجود مشكلة أعمق بكثير، وستتطلب حلولًا مُبتَكَرة.
وها نحن نستهل العام الثالث من حربنا ضد مرضٍ مُعدٍ أودى بحياة أكثر من 800.000 أمريكي، وفي الوقت نفسه، يموت عدد أكبر بكثير من الأمريكيين بسبب الإصابات الناجمة عن الأسلحة النارية، وتعاطي جرعات زائدة من المخدرات، وحالات الانتحار وتأخُّر الرعاية الطبية، كما يُعاني أخصائيو الرعاية الصحية من الإنهاك البدني والعاطفي؛ فقد عملوا خلال أكثر فترات هذه الجائحة ظلمة، سواء في فترات نقص معدات الوقاية الشخصية (PPE)، أو عندما تطلَّب الأمر بذل التضحيات الشخصية بأرواحهم، أو بتعريض أسرهم وأحبائهم لخطر الإصابة بالفيروس.وفي غضون ذلك، لا يزال الناس مُعرِضين عن التطعيم، وثمة مسؤولون كبار بالحكومة مثل وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، يصابون بحالات من عدوى الاختراق بـ«كوفيد»، كما تواجه القوى العاملة الأمريكية شللًا بفعل الزيادة الهائلة في الحالات الإيجابية.ومن هنا، يبدو جليًّا أننا الآن في صراع من أجل إخماد هذه الجائحة، وأن جزءًا من نجاحنا في ذلك يُعد مرهونًا بقدرتنا على استعادة الثقة بمؤسساتنا العلمية.
يجب على قادة الوكالات الحكومية والقطاع العام -متضمنةً المؤسسات العامة ومؤسسات الرعاية الصحية الهادفة إلى الربح والمؤسسات البحثية- إنشاء نظام استجابة سريعة يقيِّم آخر البيانات حول مرض «كوفيد» ويقدم تعقيبات على وجه السرعة، وذلك لضمان تلقِّي القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية وعامة الشعب أكثر الرسائل الرسمية اتساقًا واستنادًا إلى الأدلة، وعلى غرار عملية مراجعة الأقران، يمكن الاستفادة من تصعيد مهمة تقييم السياسات المؤثرة لتضطلع بها مجموعة أكبر من الأقران على مستوى أعلى. ومن المهم أيضًا أن تشمل هذه المحادثات العاملين في الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية؛ وذلك لكونهم الطرف الأكثر توغلًا في المعركة والأكثر اطلاعًا على أفضل الحلول في كثير من الأحيان.
ويجب على ممارسي الصحة العامة والمنظمات العلمية -بوصفهم فئة مهمة من المهنيين أصحاب الثقة- العمل من أجل تبليغ رسالتنا على نحو أفضل، لا سيَّما خلال واحدة من الأزمات التي يتغير فيها المشهد بسرعة خاطفة، كلنا معرَّضٌ لارتكاب الأخطاء، ولا يتوقع أحد بلوغ أي فرد أو منظمة حدَّ الكمال، ولكن وضع توقعات متسقة في أثناء أزمة صحية عامة أمرٌ بالغ الأهمية؛ فالإستراتيجية والنهج المُتَّبَعان في تبليغ الرسالة لا يقل أيٌّ منهما أهميةً عن صحة فحواها.