تتسابق دول العالم للإعلان عن ظهور متحوّر "أوميكرون" لفيروس كورونا المستجد، في مشهد يعيد إلى الأذهان بدايات اندلاع وباء "كوفيد-19"، الذي انطلقت شرارته من الصين أواخر عام 2019.
ورغم توافر عدة لقاحات معتمدة لمواجهة انتشار الوباء، وحالة التسارع التي تتحرك بها دول العالم من أجل تطعيم سكانها بجرعتين من اللقاح، إلا أن المتحوّر الأخير "أوميكرون" أثار الجدل حول استمرار فاعلية الجرعتين في الوقاية من العدوى، وضرورة إضافة جرعة تعزيزية، في ظل الارتفاع غير المسبوق في عدد الإصابات في قارة أوروبا وبريطانيا خاصة.
منظمة الصحة العالمية حذّرت من أن زيادة حالات الإصابة بأوميكرون ستدفع الأنظمة الصحية الأوروبية نحو حافة الهاوية، وأن "عاصفة أخرى" قادمة، ويجب على الحكومات الاستعداد جيدًا.
وظهر أوميكرون للمرة الأولى في جنوب أفريقيا في 26 نوفمبر الماضي، ومنها انتقل إلى العالم بسرعة هائلة رغم حظر السفر الذي فرضته عدة دول من وإلى جنوب أفريقيا وبلدان أفريقية مجاورة، وحتى 19 ديسمبر الجاري، وصل أوميكرون إلى 89 دولة، وفق المنظمة التي صنّفته متحوّرًا مثيرًا للقلق؛ لأنه ينتشر انتشارًا أسرع من سلالة "دلتا"، التي صنفها العلماء في السابق بأنها "أخطر سلالات كورونا".
وتشير البيانات الأولية إلى زيادة خطر الإصابة مجددًا بالعدوى بهذا المتحور مقارنةً بغيره من المتحورات الأخرى، في حين لا تزال أدوات تشخيص الإصابة بالفيروس بواسطة اختبار تفاعل البوليميراز التسلسلي (PCR) قادرةً على كشف هذا المتحور.
وفي ظل انتشاره السريع، يبرز السؤال الأهم: هل سينجو متحوّر أوميكرون من المناعة الحالية التي اكتسبها عددٌ هائل من سكان العالم خلال العشرين شهرًا الماضية، من خلال العدوى الطبيعية أو عن طريق التطعيم بجرعتين من اللقاح؟
فريق بحثي صيني يقوده علماء من المعاهد الوطنية لمراقبة الأغذية والأدوية في الصين، حاول الإجابة عن هذا التساؤل عبر دراسة جديدة كشفت أن أوميكرون "يتجاوز" جميع السلالات الأخرى في قدرته المحتملة على التهرب من الحماية المكتسبة من العدوى السابقة أو التطعيم بجرعتي لقاح.
وأوضحت الدراسة، التي نُشرت في العدد الأخير من دورية (Emerging Microbes & Infection) أن العدد الكبير في طفرات أوميكرون سهّل عملية الهروب من المناعة المكتسبة بفضل العدوى السابقة، لكن الحماية تظل موجودةً جزئيًّا رغم انخفاض مستوياتها.
يقول يوتشون وانج -قائد فريق البحث بالمعاهد الوطنية لمراقبة الأغذية والأدوية في الصين- إن نتائج دراستهم تدعم البيانات الأخيرة الواردة من جنوب أفريقيا، والتي تسلط الضوء على أن أوميكرون كان "من السهل عليه التهرب من المناعة".
وفي حديث لـ"للعلم" يضيف: "وجدنا أن عددًا كبيرًا من الطفرات في متغير أوميكرون قد تسبَّب في تغييرات كبيرة في استجابة الجهاز المناعي لدى الأشخاص الذين أصيبوا بالفعل بـ"كوفيد-19"، لذلك فإن اختراق عدوى أوميكرون سيحدث بدرجة معينة".
وتابع أن هذه النتائج تنبهنا إلى ضرورة تطبيق الإجراءات الاحترازية، مثل ارتداء القناع وغسل اليدين بإحكام، وأنها تمثل خطوة مهمة جدًّا للوقاية.
طفرات أوميكرون
يحتوي متحوّر أوميكرون على أكبر عدد من الطفرات بين جميع متحوّرات "سارس-كوف-2" وأبرزها "ألفا" و"بيتا" و"جاما" و"دلتا"، على وجه الخصوص، هناك 32 طفرة موجودة داخل بروتين سبايك، وهو المكون الفيروسي الرئيسي الذي يحدد قدرة الفيروس على تجاوز المناعة والتفاعل مع مضاداته، وفق الدراسة، وتغطي هذه الطفرات تقريبًا جميع الطفرات الرئيسية للسلالات السابق اكتشافها، والتي ثبت أنها تغير حساسية الفيروس للتحييد بواسطة الأجسام المضادة الوقائية المكتسبة من العدوى السابقة أو التطعيم بلقاحات كورونا.
ولاختبار مدى قدرة الجهاز المناعي على صد هجمات أوميكرون، أخذ الفريق 28 عينة مصل من متعافين من السلالة الأصلية لفيروس "سارس-كوف-2"، جُمعت خلال شهر إلى 3 أشهر من التعافي.
كما صمموا نموذجًا مزيفًا من متحوّر أوميكرون (Pseudotyped Omicron virus) يحتوي على جميع طفراته الـ32 الموجودة داخل بروتين سبايك، وهو نموذج جرى تطويره معمليًّا لإجراء الاختبارات عليه من أجل الحفاظ على سلامة الباحثين من التعرُّض لخطر العدوى.
ووفق الدراسة، فقد أثبتت أبحاث سابقة عدم وجود اختلاف كبير بين نتائج التجربة القائمة على نموذج اللقاح المزيف والتجربة التي تُستخدم فيها فيروسات حقيقية، بالإضافة إلى ذلك، أثبتت مراجعات لقاح "كوفيد-19" أن فحوص التحييد في المختبر هي مؤشرات جيدة لفاعلية اللقاح في الحماية.
واختبر الفريق هذه العينات ضد نموذج أوميكرون الذي طوروه في المختبر، بالإضافة إلى 4 متحوّرات أخرى من كورونا، وهي "ألفا" و"بيتا" و"جاما" و"دلتا"، وُصفت من قِبل منظمة الصحة العالمية بأنها "مثيرة للقلق"، ومتحوّرين تم تمييزهما على أنهما "موضع اهتمام"، وهما "لامبادا" و"مو" (Mu).
ووجد الفريق أن حساسية أوميكرون للتحييد بواسطة الأجسام المضادة انخفضت بمقدار 8.4 أضعاف مقارنةً بالسلالة الرئيسية من "سارس-كوف-2"، وهي أول سلالة مكتشفة من الفيروس عند ظهوره أواخر 2019، في حين كان مقدار الانخفاض 1.6 مرة فقط بالنسبة لمتحوّر "دلتا"، و1.2 و2.8 و1.6 ضعف ضد "ألفا" و"بيتا" و"جاما" على التوالي، وبلغ الانخفاض 1.7 ضعف ضد "لامبادا"، و4.5 أضعاف ضد "مو"، وبذلك يتفوق أوميكرون على المتحورّات الأخرى في التهرب من المناعة الناتجة عن العدوى السابقة.
نتائج الدراسة تتسق مع نتائج عدة دراسات نُشرت مؤخرًا حول تناقص فاعلية اللقاحات بمرور الوقت، وفق سامي قاسم، أستاذ الفيروسات المساعد بكلية الطب البيطري بجامعة كفر الشيخ، واستشاري الفيروسات بوزارة البيئة والمياه والزراعة بالمملكة العربية السعودية.
وأضاف لـ"للعلم" أن هناك دراسات أتت بنتائج تشير إلى انخفاض بنسب أكبر من الدراسة الحالية، في فاعلية جرعتي لقاح ضد أوميكرون، منها بحث أسترالي كشف أن انخفاضًا يتراوح بين 15 إلى 20 ضعفًا، في حين أظهرت دراسة ثانية انخفاضًا بمقدار 40 ضعفًا في قدرة الأجسام المضادة لدى الأشخاص الذين تلقوا جرعتي لقاح، وهناك دراسة ثالثة أُجريت في جنوب أفريقيا أشارت إلى انخفاض بلغ 41 ضعفًا ضد متغير أوميكرون، مقارنةً بـ3 أضعاف ضد متغير "دلتا"، ما يشير إلى أن أوميكرون يتهرب من جهاز المناعة بشكل أقوى بكثير، وبذلك نحتاج إلى جرعة ثالثة تعزيزية من لقاح كورونا.
علي اللبيدي -الباحث بقسم علم الأمراض والمناعة في مدرسة الطب بجامعة واشنطن الأمريكية- يقول: إن الدراسة الحالية والدراسات الأخرى التي تسير على المنوال نفسه، جميعها بشكل عام ترسم صورةً مماثلة، مفادها أن متحوّر أوميكرون قادر إلى حدٍّ كبير على تجنُّب تحييد الأجسام المضادة التي أُنتجت في الأشخاص الذين أصيبوا (لكن لم يطعموا) أو طُعموا مرتين (بواسطة أي لقاح ولكنهم كانوا غير مصابين).
وأضاف لـ"للعلم": "كان من السهل التنبؤ بتراجُع الحماية التي توفرها اللقاحات بناءً على الطفرات الواسعة التي لدى متحوّر أوميكرون.
أوميكرون والجرعة الثالثة
مع ظهور أوميكرون، كشفت منظمة الصحة العالمية أن اللقاحات المتوافرة حاليًّا ينبغي أن توفر حمايةً حتى الآن للأشخاص الذين يصابون بهذا المتحوّر، وتمنع حالات الإصابة الشديدة بـ"كوفيد-19"، لكنها عادت لتؤكد أن اللقاحات قد تكون أقل فاعليةً في الحماية من "أوميكرون"، وأن المزيد من البيانات مطلوب من أجل فهمٍ أفضل للدرجة التي يراوغ بها هذا المتحوّر المناعة الناتجة إما عن تلقي اللقاح أو عن الإصابة السابقة.
وهناك بُعد آخر، إذ يشير علماء إلى أن الحماية التي يمنحها التطعيم بلقاح كورونا أو العدوى السابقة تتناقص بمرور الوقت، وأن الجرعة المعززة يمكن أن توفر حمايةً ضد الأعراض الخطيرة الناتجة عن المتحور الجديد بنسبة تصل إلى قرابة 85%، لذلك بدأت دول العالم حملات لمنح السكان جرعةً ثالثةً تعزيزية.
يقول "وانج" إنه نظرًا إلى أن الحماية التي يكتسبها الجسم في شكل عدوى أو تطعيم سابق تتناقص تدريجيًّا على مدى 6 أشهر، فقد يكون أوميكرون "قادرًا على الهروب من المناعة بشكل أفضل".
بالإضافة إلى ذلك، يتوقع "وانج" أنه "في حين أن إستراتيجية الجرعة الثالثة يمكن أن تعزز المناعة بشكل كبير، فإن الحماية من أوميكرون قد تتعرض للخطر".
في حين يؤكد "قاسم" أن الدراسة تؤيد القول بضرورة الحصول على جرعة تنشيطية لصد هجمات متحوّر أوميكرون واسع الانتشار، وهي رؤية تعززها أبحاث أخرى، منها دراسة مخبرية أجرتها شركة فايزر التي طورت لقاحًا ضد كورونا بالتعاون مع شركة بايونتيك، كشفت أن الجرعة الثالثة من لقاح فايزر-بايونتيك ترفع الأجسام المناعية ضد متغير أوميكرون بمقدار 25 ضعفًا، مقارنةً بجرعتي لقاح.
وأشار إلى أن المعلومات المتاحة حتى الآن تشير إلى أن الملقحين والمصابين لا يزال لديهم مناعة بالفعل ضد "كوفيد-19" يمكن أن تحميهم من الآثار الخطيرة التي يسببها المرض وتقلل من دخول المرضى إلى غرف الرعاية المركزة.
وأثبتت دراسة أُجريت مؤخرًا على 78 ألف حالة كورونا أن الحصول على جرعتين من لقاح فايزر قد يوفر حمايةً بنسبة 70% من الحاجة إلى رعاية داخل المستشفى بسبب أوميكرون، وذلك مقارنةً بـ93% خلال موجة متحوّر "دلتا" السابقة، كما كشفت أن جرعتي فايزر كانتا فعالتين بنسبة 33% ضد عدوى أوميكرون، مقارنةً بـ80% خلال "حقبة ما قبل أوميكرون".
في حين أشار "اللبيدي" إلى أنه جرى تحسين المناعة ضد أوميكرون لدى الأفراد الذين تعرضوا للفيروس 3 مرات (إصابة واحدة + التطعيم بجرعتي لقاح) أو التطعيم بـ3 جرعات من اللقاح، وذلك بشكل خاص مع اللقاحات الأكثر قوةً القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA) للفيروس، مثل لقاح شركة "موديرنا" ولقاح "فايزر- بيونتيك".
وأضاف أن استجابتنا المناعية هي أكثر بكثير من مجرد تحييد الأجسام المضادة، لذا فمن المرجح أن يظل الأشخاص الذين طُعموا محميين بشكل أفضل ضد متحورات كورونا الشديدة، ومن ضمنها أوميكرون.
وعن خطوات الفريق المقبلة، أشار "وانج" إلى أن الفريق سيواصل أبحاثه للوصول إلى معلومات حول السبب الذي أدى إلى تغير في استجابة الجهاز المناعي لعدوى أوميكرون، مقارنةً بالمتغيرات الأخرى السابقة من كورونا.