شتان بين أولمبياد بيجين الشتوية 2022 والأخرى الصيفية عام 2008. كشفت الأضواء والعروض الباهتة أثناء افتتاح الدورة الحالية مساء الجمعة الماضي، والحضور المتباعد للضيوف المعدودين، والقيود على حركة الوفود واللاعبين والصحفيين عن البون الشاسع بين الدورتين.فمنذ 14 عامًا، رأينا بيجين كالعروس، يتألق كل ركن من أركانها، شعبها مقبل على الحياة، رغم الأعباء المالية الباهظة التي كلفتهم 100 مليار دولار، لتجديد العاصمة وبناء قرية أولمبية وملاعب، وتنظيم أفضل عروض لحفلي افتتاح الأولمبياد وختامه.
أعادت أولمبياد 2008 اكتشاف الصين، وأظهرت مدى شغف شعبها بالانفتاح على العالم، وتطلعه إلى مزيد من الحريات.
كانت بيجين أكثر تلوثًا بعوادم الفحم الناتج من المصانع والمنازل القديمة، يصعب التنفس في أجواءها، في أشهر الصيف، وتخنق سكانها في الشتاء.
اليوم انخفض التلوث في جميع أنحاء الصين بنسبة 40% وبنحو 50% في بيجين ذاتها. زاد الدخل القومي للبلاد 3 أضعاف عما كانت عليه عام 2008، وتضاعف معه دخل الفرد مرات عدة، والعمر الافتراضي بنحو عامين، وتوافرت وسائل المتعة والترفيه، مع ذلك كشفت الأولمبياد الوجه الآخر للمدينة العتيقة، ونظامًا يتجه بها نحو مزيد من الاستبداد.
ساكن بيجين يعيش الآن تحت الحصار على مدار الساعة داخل كردونات صحية، محروم من السفر، حتى تنتهي الأولمبياد بعد أسبوعين في أيام عيد القمر المقدسة، ممنوع من الكلام، ومحظور عليه دومًا ال في أي نقاشات على الإنترنت تخالف النظام وحدود اللياقة التي أصدرها الحزب الشيوعي الحاكم الشهر الماضي، كمدونة سلوك يفرضها على الجميع. وزاد الطين بلّة، صدور تعليمات بمنع الجمهور الصيني من دخول الملاعب للتشجيع، وحظر خروج اللاعبين البالغ تعدادهم 2861 رياضيًّا، من ” الفقاعة” التي وضعت فيها السلطات ممثلي الدول و91 فرقة تتسابق في 15 تخصصًا و7 رياضات شتوية مختلفة.
قبل 14 عامًا، أطلقت اللجنة المنظمة التي أدارها (شي جينبنغ) عروضًا نارية ضخمة، لتشهد على حالة البذخ التي وفرتها الحكومة للأولمبياد لينال الحدث اعجاب العالم.
يتجه شي جينبنغ -بعد أن أصبح رئيسًا للبلاد- بالمشهد إلى تحقيق هدف آخر في نفسه، وهو أن يظهر أمام الوفود بأنه صاحب قبضة حديدية، ويدير نظامًا قمعيًّا بامتياز، قادر على تحدي كل من يتململ منه في الداخل أو التصدي له في الخارج. وضع (شي) ضوابط صارمة لتنفيذ عمليات إغلاق بعض المدن الكبرى والأحياء شديدة القسوة، من أجل القضاء الشامل على وباء كوفيد-19. يريد (شي) أن تصل رسالته بوضوح إلى الوفود الحاضرة وكاميرات الإعلام والأجانب الممنوعين من التحرك بدون أوامر من الأجهزة الأمنية، بأنه استطاع القضاء على الفيروس تمامًا من الصين، في الوقت الذي فشلت فيه أعتى الدول الديمقراطية الغربية. بالنسبة له يُعد التخلي عن هذا الهدف اعترافًا بأن نظامه السياسي ليس بأفضل من الغرب. يدير (شي) ملف الوباء مشروعًا سياسيًّا وليس بهدف صحي، بما يتعارض مع كل الأعراف الطبية، ويدفع الناس إلى التذمر، بعد أن خلق لديهم حالة من الرعب وصعوبة التعايش مع الغرباء في بيجين أو المدن الأخرى التي توقفت عن استقبال عشرات الملايين من المتشوقين لزيارة الصين لأسباب تجارية أو سياحية.
أمر (شي) أن يرتدي مسؤولو شركات الطيران والمضيفات وموظفو الجوازات والفنادق، ملابس ومعدات للوقاية من المواد الخطرة، وأقنعة ونظارات واقية، تجعل كل من يتواصل مع الوفود واللاعبين والأجانب كمن يعيشون في كبسولات مكوك الفضاء. ويُجري الحاضرون -الذين حصلوا على التطعيمات ومروا بفترة الحجر الصحي المطولة قبل دخولهم الملاعب والقرية الأولمبية- فحوصًا يومية، ويوضع من يثبت إصابته في حجر طبي كئيب ومطول.
في وقت فقدت فيه الألعاب الأولمبية جاذبيتها بسبب ارتفاع تكاليف ضيافتها في العديد من الدول، والفساد الذي يصيب القائمين عليها، وعدم شعبية الألعاب الشتوية بها، أقام (شي) ملاعب صناعية ضخمة للتزلج على جبال بيجين التي تبدو كتلة سوداء لعدم تشكل الجليد الطبيعي عليها، بما أضاف إلى المليارات الدولارية الأربعة المخصصة للأولمبياد، مليارات عدة أخرى غير محسوبة حاليًّا. ورغم إنشاء الحزب الشيوعي عشرات المدارس من أجل تعليم الطلاب رياضات التزلج، بهدف الدفع بالمهرة منهم في سباقات لم تعرفها الصين من قبل، والفوز بعدد كبير من الميداليات الذهبية تكون فخرًا للنظام، فإن مآل هذه المنشآت التي تشهد ألعابًا غير معروفة لهم، الإغلاق التام أو التحول إلى مزار يقصده شبيبة الحزب الشيوعي الذين يأتون بهم من المدارس والأقاليم، للتعرف على إنجازات الحزب في المدن الكبرى، وبما يدفعهم إلى الإيمان بفضائله ويجددون البيعة لقادتهم.
شاهدنا (شي) يزور تلك الملاعب بنفسه مرات في فترة التجهيز للحدث، ويقود بشخصه حملات لدفع الحزب وقادة الدول والحكومات الأجنبية والإعلام المحلي والدولي إلى الاهتمام بها.يستقبل بصفته رئيسًا للدولة الوفود والفائزين، ويرد على حملات المقاطعة السياسية التي فرضتها الولايات المتحدة ومعها 12 دولة أوربية والهند واليابان وأستراليا، ويسوّق عالميًّا لرسالة الأولمبياد التي وضعها على مداخل الملاعب والسياج المحيط بها، بعنوان “مستقبل مشترك معًا” حتى يفرض مكانته زعيمًا فريدًا من نوعه، ويدعم قدرات نظامه الحاكم المتنامي عسكريًّا واقتصاديًّا الذي يريد التباهي به في عيون الآخرين.
يعلم (شي) أن الأولمبياد أضافت صداعًا لقيادة لديها ما يكفي من الأزمات الاقتصادية والصحية الخطيرة، ويعلم أن الأولمبياد بظروفها الحالية لا يريدها كثيرون في الداخل، بينما تدفعه إلى الحرب في الخارج. ويُفترض أن تكون هذه الأولمبياد آخر أعماله، حيث تنتهي مدة رئاسته الثانية في الخريف المقبل، لكن إدارته للحدث دفعته إلى الإيماء لمجموعته السياسية لتعديل الدستور، كي يظل رئيسًا لفترة ثالثة وربما للأبد.
يأمل (شي) أن تعيد الأولمبياد صياغة تحالفاته، بعد أن نجح في دعم أنظمة استبدادية مشابهة له في موسكو وميانمار وأفريقيا ودول عربية عدة، للوقوف في وجه التحول الديمقراطي للشعوب والغرب برمته. يتصرف شي وقرينه بوتين بروح العشيرة. أصبح “يجلس على رأس الأنظمة الاستبدادية، حيث يريد للصين أن تجعل العالم أكثر أمانًا للاستبداد” وفقًا لما يراه الفنان الصيني (أي ويه وي) الذي شارك في بناء استاد عش الطائر، وهرب إلى سويسرا، بعد أن فقد آماله ب أولمبياد 2008 في انفتاح النظام على حقوق الإنسان وحرية التعبير. سحق شي إرادة الشركات الليبرالية التي التزمت بمحاربة العمل القسري، بتطبيق العقوبات الدولية المفروضة على بعض قادة الحزب الشيوعي المتهمين بارتكاب جرائم” إبادة جماعية” للمسلمين الإيغور في اقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية). يدعو شي الغرب إلى عدم دفع الصين والعالم إلى “حرب باردة جديدة”، في الوقت الذي يطبّق فيه معايير أخلاقية لا تضع أمام المجتمع الدولي خيارًا للابتعاد عن هذه الحروب. فبعد 33 عامًا من سحق مظاهرات المطالبين بحرية التعبير في ميدان تيآننمين وسط العاصمة، يرفض شي التزام حكومته بأي معايير إنسانية لاحترام حقوق الإنسان، ويُعلّم العديد من الأنظمة القمعية سبل مواجهة الرسائل الاحتجاجية التي تطلقها المنظمات الدولية أو المحلية المختصة بحماية هذه الحقوق، بمنطقه نفسه الذي يدعيه بأن “دور الدولة يتوقف عند توفير الطعام والأمن للجميع”، وما عدا ذلك يُعد ترفًا لا تحتاجه الشعوب!
فلا فرق لدى حزبه الشيوعي بين مرابط العجول والعقول، لذلك لا يعيرون اهتمامًا لأي نقد، بل يحاولون أن يقودوا الجميع معهم إلى الركب نفسه، بالإغراء المادي تارة، وأخرى بتخويفهم من عواقب حرية الكلمة والتعبير، فلا يكترث أحد للمظاهرات التي تدعو إلى إيقاف “المكاسب الدموية في التبت” ولا نصرة المسلمين الإيغور في شينجيانغ ودعم الديمقراطية في هونغ كونغ، ولا يهتم بصرخات المعذبين من أنحاء المدن الصينية.