ماذا لو افترضنا جدلاً أننا متنا ثم بُعثنا للحساب! ورأينا أغلب رجال الدين ومن كانوا يقدمون أنفسهم في الحياة وعّاظاً وشيوخاً تقاة قد سِيقوا إلى النار، أما أولئك الذين اتُّهموا بالكفر والزندقة أو الإلحاد فقد أُدخلوا الجنة، فكيف سنفهم الأمر ونحلّل ما حصل؟
قد يستغرب البعض كيف جال في خاطري هذا التساؤل؟! وهو في الحقيقة لم يأتِ من خيال محض، فقد حصل وأن اجتمعت مرة مع أحد كبار رجال الدين في لقاء خاص، وكان من أولئك الذين يُشار لهم بالبنان في الدعوة والوعظ والدفاع عن الإسلام، وقد وجدت من حديثه ما لا تطمئن له النفس أو يرتاح له القلب، الأمر الذي دفعني لأطرح عليه السؤال الآتي: هل أنت يا شيخ من المؤمنين أم من المشركين؟
ارتبك الشيخ وما عرف الجدّ من الهزل، واحتار على أي محمل يأخذ سؤالي، فعمد إلى إخفاء حيرته بنظرة استعلاء وفوقية ليرد علي سؤالي قائلا: لا أسمح لك بهذا السؤال! فقلت: ولِمَ؟ أجاب قائلاً: نحن رجال نذرنا أنفسنا لهذا الدين نقوم بما أمرنا الله به من واجبات دينية وأخلاقية، وننتهي عمّا نهانا الله عنه، ونراعي مصالح الناس، ونهديهم ونرشدهم سواء السبيل، فكيف تضعنا في هذا الموضع من السؤال عن المؤمنين والمشركين؟! فنظرت إليه وقلت له: منطقياً، لكلّ فعلٍ في المجتمع وبين الناس أثر ونتيجة، فما النتيجة التي توصلتم إليها وقدّمتموها إلى الأمة؟ وما أثركم اليوم في حالها المزري ووضعها المحزن؟
حار الشيخ في السؤال، فقلت له تأمل معي حال الأمة الإسلامية في العالم المعاصر، فهي تحتل الموقع الأخير في تصنيف الأمم المتخلّفة، حتى لقد فقدت الروادع الدينية كافة، وضيّعت منظومتها الأخلاقية، وخسرت موقعها الحضاري، وأصبح حالها بالويل!!
ثم انظر في هذا الدين الذي أنعم الله به علينا، وفي القرآن الكريم الذي أنزله على نبيّنا هدى ورحمة، فيه تحريم الكبائر، وتوعّد بالعقاب، لكننا للأسف نجد غالبية المسلمين يمارسون ما نهى القرآن عنه، وينتهون عمّا أمر به وحضّ عليه، حتى انتشرت بينهم سلوكيات شائنة، وممارسات لا أخلاقية تقشعرّ لها الأبدان، وتنفر منها الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
لقد صار وضع بني ديني مخجلاً، يستخدمون الجسم كآلة، يؤدون من خلاله العبادات من صوم وصلاة وحج... بطريقة ميكانيكية لا روح فيها ولا خشوع ولا إيمان. يحرمون أنفسهم الطعام في الصوم وهم يظنون أنهم يقومون بما أمر الله به، لكنهم لا يرتدعون عن النميمة والحسد والحقد والكراهية. فالصائم يرمي أخاه بالباطل؛ والمصلي يأكل مال اليتيم؛ ويظلم الضعيف؛ ويشهد بالزور ويسكت عن الحق، حتى صارت محاكم المسلمين في خبر كان.. وأصبح قَسَمُ اليمين بالله أسهل من شربة الماء على هؤلاء الذين يدّعون الإسلام!
يؤرقني يا سيدي "الشيخ" سؤال أمتي الذي لا يكاد يغيب عن بالي يوماً: لماذا انحدرنا إلى هذه الدرجة؟! هل هذا ما كان يريده الله لأمة محمد؟ حاشا وكلا! فعلى مَنْ تقع المسؤولية إذن؟ أليست تقع على عاتق رجال الدين الذين يعتلون المنابر يوم الجمعة؟ وقد باعوا الدين وأنفسهم لخدمة السياسة وأهلها؟ ثم قل لي بربك، ماذا يعمل رجال الدين اليوم؟ أيسعون لنشر الدين الحق في المحبة والسلام والتعايش وقبول الآخر (وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) أم أنهم يستغلّون كلام الله ومكانتهم عند خلقه ليبحثوا عن مكاسبهم الدنيوية مثل أي إنسان عادي يحكمه الطمع والجشع؟
لقد عاشرت رجال دين كثيرين على مدى عقد من الزمن، ووجدتُ فيهم (إلا فئة قليلة ممن رحم ربي) حبّ والنساء وارتكاب الموبقات، والشراهة في الطعام، والجري وراء متاع الحياة الدنيا أكثر منا نحن عباد الله المساكين بكثير. أما حبُّ المال والسعي وراءه فتكاد تراه سمة أصيلة في أغلبهم، لذلك تجدهم وقد حولوا الإمامة والخطابة على المنابر إلى مهنة تُجرى عليها الرواتب والعطايا، (ويبدو أن كورونا اليوم قد قللت من هذه الرواتب والعطايا بسبب تعليق صلوات الجمع والجماعة في أغلب المساجد) وأخذوا من الناس الهبات والهدايا والصدقات، خاصة بعدما أوهموا العامة أن الطريق إلى الله لا يصل إلا من خلالهم، لذلك يبقى يؤرقني السؤال دائما: أليس مصير هؤلاء إلى جهنم لأنهم قبلوا لعبة استخدام اسم الله وتوظيف دينه لمكاسبهم وطمعهم وشرورهم؟
لقد خاطب الله نبيّه محمداً أول ما خاطبه قائلاً: (اقرأ) اقرأ يا محمد وعلّم أمّتك كيف يفكرون ويفهمون الكون ويكتشفون قوانين الله وسننه فيه، وكيف يسخّرون الطبيعة لخدمة الإنسان، وخلافة الله على الأرض. لقد خاطب الله تعالى محمداً وأمته في آيات كثيرة بأن يبصروا ويتفكروا ويعقلوا... لأن الله يريد بهم الخير وحسن العاقبة.
والله إن الله لا يرضى أن تكون أمة محمد متخلّفة! تُلغي العقل وتغلق الأبواب أمام الأمم والثقافات الأخرى. وإلا فكيف تكون أمّته خير أمّة أخرجت للناس؟! لقد عرف تاريخ الأمة الإسلامية فترات رائعة من الحضارة والريادة، فلقد مثّل عصر المأمون على سبيل الذكر عصرَ تنويرٍ فريد ومميز في تاريخنا الإسلامي، عندما قرّب إليه المعتزلة الذين حضّوا المسلمين على استخدام عقولهم، ودافع عنهم وتبنّى أفكارهم، ليجعل من العقل طريقاً هادياً لرعيته وأمة الإسلام في عهده.
ولكن للأسف الشديد ما هي إلا سنوات معدودات، حتى حصل الانقلاب على العقل، وعادت اللعبة بين السياسة والدين، وتتالت دعوات الظلام والجهل، فكُفّر الفارابي وابن سينا، وأُحرقت مؤلفات ابن رشد، وأصبح العقل تهمة توازي تهمة الزندقة والكفر بالله والخروج عن الدين، ومنذ أن أعلنّا الحرب على العقل خرجنا من تاريخ الإنسانية، وما زلنا نتخبط في أزقة الجهل المظلمة حتى الآن. والغريب المدهش في الأمر ما نجده من حالة فصام وازدواجية تجدها لدى رجال الدين حين يعلنون اعتزازهم وتباهيهم بالحضارة الإسلامية وتراثها، فإذا سألتهم عن مفكريها وفلاسفتها أمثال الكندي والفارابي وابن عربي والسهروردي والمعري وغيرهم، سارعوا إلى تكفيرهم ونعتهم بالضلال، ورميهم بتهمة الزندقة، واعتبارهم من أصحاب البدعة والانحراف عن العقيدة. وكم يشعرني بالحزن والمرارة أن يقوم شيخ صغير في عصرنا، محدود الثقافة والمعرفة، ولا تتجاوز قراءاته بضعة كتب، بالحكم على هؤلاء الفلاسفة والمفكرين واتهامهم بالزيغ والضلال.
ثم يا لها من مفارقة عجيبة، أرى ومنذ نعومة أظافري، مشايخنا يتوجهون في كل يوم بالدعاء إلى الله. صاميّن آذاننا بصياحهم ونواحهم: اللهم عليك بالمشركين، اللهم شتّت شملهم وفرّق جمعهم، اللهم خُذهم أخذ عزيز مقتدر، وأرِنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أهلك اليهود والنصارى، يتّم أطفالهم، ورمّل نساءهم، واجعلهم أثراً بعد عين... إلخ. وبالرغم من طول تاريخ هذه الدعوات، نجد الكفار يزدادون قوة ومنعة ومعرفة ونحن نزداد ضعفاً وجهلاً، هم المتقدمون ونحن المتخلفون، وكأن الله يقف في صفهم دوناً عنا. غير أن العاقل يدرك أن ما وصلوا إليه من نصفهم بالكفار إنما بلغوه لأنهم أعلوا شأن العقل، وقدّروا أهله ورجاله، واتّبعوا الحكمة التي أجراها الله على لسان المفكرين والعلماء، من كل دين ومذهب وطائفة، منذ أفلاطون وأرسطو، مروراً بابن سينا وابن رشد، ثم نيوتن ولافوازيه وآينشتاين، وغيرهم كثير وكثير، من الذين قدموا للإنسانية قيماً عظيمة وأفكاراً ملهمة. فهؤلاء الكفار أو الضالون برأي مشايخنا هم من كشفوا عن نواميس الله وقوانينه في الخلق والكون، هم الذين اخترعوا الساعة التي تحدّد مواعيد الصلاة، وأدوات الرصد التي يُرى بها هلال رمضان وغرة ذي الحجة، واخترعوا آلات الصوت والصورة التي تنقل إلينا شعائر الحج، واكتشفوا الأدوية التي تشفينا بإذن الله.. أما نحن أمة الإسلام فما زلنا نقف عند حدود أدعية المهزومين، وقد منحنا عقلنا إجازة مفتوحة، أو أحلناه للتقاعد المبكر، فأصبحنا غير قادرين على الإنتاج والإسهام في الحضارة الإنسانية، وانشغل مشايخنا عنّا وعن رسالة ديننا بأتفه الصغائر: هل الجن ذكر أم أنثى؟ وهل يجوز زواجهم بالإنس؟ وما حكم الشاهدة على قبر مسلم؟ وما حكم خروج امرأة مسكينة فقيرة من بيتها لتعمل؟
ومع أن للمسيحية واليهودية شيوخ ورجال دين أيضاً، إلا أنهم ليسو بذات التأثير السلبي الذي يتسبب به أغلب شيوخ الإسلام اليوم، بل على العكس تماماً، استطاع رجال دين هاتين الديانتين أن يقدموا لمجتمعاتهم خطاباً عقلانياً منفتحاً، ومشجعاً على العمل والتطلع للعلم والمعرفة واستخدام العقل، حتى انتشرت أسماء العلماء والمخترعين والمفكرين من مسيحيين ويهود في كل العالم، بينما بقي خطاب شيوخنا عاطفياً انفعالياً معطلاً للعقل، ومشغولاً بصغائر الأمور وتفاصيلها التي لم تعد تُغني في عصرنا هذا ولا تسمن من جوع. وهنا تحضرني إجابة نابليون بونابرت على سؤال: لماذا ربحت بريطانيا الحرب وخسرتها فرنسا؟ فكان رأيه أن البريطانيين يركّزون على ما هو مهم واستراتيجي ورئيسي، أما الفرنسيون فتائهون في التفاصيل الصغيرة والجزئية والسطحية، ومنصرفون عمّا هو رئيسي إلى ما هو عرضي وثانوي. ولا شك أن حال المسلمين اليوم هو ذاته ما كان عليه الفرنسيون في عصر نابليون.
أعود إلى طرح سؤالي الذي وجهته للشيخ في ذلك اليوم: مَنْ سيدخل الجنة؟ هؤلاء العباقرة الذين قدّموا خدماتهم للإنسانية، وحفظوا الأرواح بعلومهم، وخففوا الآلام بأدويتهم، وأسهموا في التقدم والحضارة، وتأملوا وتفكّروا في خلق الكون، فاخترعوا واكتشفوا، أم رجال الدين من بعض المسلمين الذين يشغلون عمرهم كله في تعدد الزوجات والوصيفات، وإذا ما فكروا في الآخرة فكّروا في الحور العين وخمر الجنة؟
لقد أصبحتُ مقتنعاً بأن الشيخ الخطيب الذي يعتلي المنبر لينكر العلم ويدافع عن الجهل ويسفه العقل، أو الذي يسكت عن الظالم ويأمر المظلوم والفقير بالزهد، ولا يتناول في حديثه سارقي آمال الناس ومستقبلهم وقوتِهم، فهو لصٌّ بملابس واعظ، وظالم يعين من هو أشد منه ظلماً، ولن يدخل الجنة ظالم.
أود أن أنوه في النهاية إلى أنّي لا أقصد في مقالي هذا استعداء رجال الدين، ولا تأليب الناس عليهم، كما أني لا أهدف إلى الإساءة إليهم، والتقليل من شأنهم، بل إنّي والله مدفوع بالغيرة عليهم، والخشية من أن يصيبهم الله بعذابه ويحرمهم جنّته. أما انتقادي لحال المسلمين اليوم، فلأني مسلم ملتزم بدينه، معتز بإسلامه، مقتدٍ بالنبي محمد، تحزنني بشدة الحالة التي وصلنا لها اليوم، عندما أهمل المسلمون جوهر الإسلام، وانشغلوا عنه بالقشور، واستنكف شيوخنا ومفكرينا عن تجديد خطاب الدين وعصرنته، وليس أدلّ على ذلك من ملايين الخطب التي تلقى على المنابر أيام الجمعة، فهل جاءت هذه الخطب بنتيجة تؤدي إلى إصلاح وضعنا وتحسين أخلاقنا ورفع شأننا بين الأمم، أم على العكس من ذلك تماما؟ لا شك أن حالنا اليوم يكفي لمعرفة الجواب. أما بعد.. أرجوكم أخبروني: مَنْ سيدخل الجنة؟!