كان الأديب العالمي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1954 "إرنست هيمنجواي" يقول: لنعد إلى النوم.. أشعر بأني بخير فقط حين أكون على فراشي.
وفي الساعات الأولى من صباح 2 يوليو 1961، نزل "هيمنجواي" إلى القبو حيث يحتفظ ببندقية الصيد، ووضع طلقات الرصاص في بندقيته، وأطلق النار على نفسه ليسدل الستار على موهبة فذة، لطالما أثارت إعجاب الملايين حول العالم.
كان الرجل يُعاني من أمراض نفسية، كما كان من عائلة لها تاريخ مع محاولات الانتحار، وكان يحن دائمًا إلى سريره، غير أنه في الوقت ذاته يُصارع الأرق المزمن، ذلك الأرق الذي عانى منه أيضًا معظم أبطال رواياته، فهل كان أرق "هيمنجواي" سبب مرضه النفسي؟ أم أن المرض النفسي هو الذي تسبب في إصابته بالأرق؟
يبدو أن العلاقة أكثر تعقيدًا مما نتصور؛ فمن المرجح أن يعاني الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بمرض عقلي من ضعف جودة النوم مقارنةً بعامة الناس، وفق أكبر دراسة من نوعها على الإطلاق نُشرت مؤخرًا في دورية "بلوس ميديسن" (PLOS Medicine).
تقول الدراسة إن النوم أساسي للصحة العقلية؛ فقلة النوم ليست مجرد سمة مميزة للاضطرابات النفسية، بل يمكن أن تكون عامل خطر سببيًّا أيضًا، كما يمكن أن تقلل التدخلات المعنية بتحسين جودة النوم من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وتمنع الأمراض الذهانية، وتحسِّن الرفاهية النفسية ونوعية الحياة.
استندت الدراسة إلى بيانات تم جمعها من 89205 من المشاركين في المملكة المتحدة وافقوا على ارتداء جهاز تكنولوجي يُسمى "مقياس التسارع" على معاصمهم، بحيث يتتبع حركة أجسامهم على مدار 24 ساعة يوميًّا لمدة سبعة أيام، كما وافقوا على تخزين بياناتهم في بنك حيوي رقمي لأغراض البحث.
تغيرات أنماط النوم
استخدم المؤلفون خوارزميات كمبيوترية -تتضمن التعلم الآلي- لتلخيص هذه الكمية الهائلة من البيانات في عشرة مقاييس، من ضمنها وقت النوم ووقت الاستيقاظ والقيلولة وأطول مدة من النوم المتواصل، ثم قارنوا هذه المقاييس بين المشاركين الذين تلقوا تشخيصًا سابقًا للمرض العقلي في حياتهم وأولئك الذين لم يتم تشخيصهم.
ووجد الباحثون أن الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بمرض عقلي في حياتهم يميلون إلى وجود تغيرات في أنماط النوم، وعادةً ما تكون إلى الأسوأ؛ إذ كان هذا الأمر صحيحًا بالنسبة لجميع فئات التشخيص الأربع التي فحصها الباحثون، وتشمل الاكتئاب، والقلق، والاضطراب ثنائي القطب، والفصام، وهذا يعني أنه كلما ساءت معايير النوم التي تم فحصها في الدراسة كانت فرص الإصابة بالمرض العقلي أكبر، وشملت معايير النوم التي تم فحصها في الدراسة الفترة التي يقضيها الأشخاص في النوم، ووقت الدخول للفراش، ووقت الاستيقاظ، علاوةً على عدد مرات الاستيقاظ ليلًا.
يقول "مايكل واينيبرج" -باحث ما بعد الدكتوراة في مركز "كرمبل" للمعلوماتية العصبية بالمملكة المتحدة، والمؤلف الرئيسي للدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": العلاقة بين كفاءة النوم والصحة العقلية ثنائية الاتجاه؛ إذ تُسهم قلة النوم في ضعف الصحة العقلية، كما يُسهم ضعف الصحة العقلية في قلة النوم.
كفاءة النوم
وكفاءة النوم هي النسبة المئوية بين وقت نوم الشخص والاستيقاظ الذي يكون فيه الشخص نائمًا بالفعل، فعلى سبيل المثال، فإن الشخص الذي ينام في منتصف الليل ويستيقظ في الثامنة صباحًا، ولكنه يقضي 7 ساعات فقط من تلك الساعات الثماني نائمًا بالفعل لأنه يستمر في الاستيقاظ في منتصف الليل، ستكون كفاءة النوم لديه 7/8، أو 87.5٪.
وعبر التشخيصات، كانت المقاييس المتعلقة بجودة النوم أكثر ارتباطًا من مجرد مدة النوم، ومن اللافت للنظر أن المدة المحددة بقياس التسارع لأطول نوبة نوم للفرد كانت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بمعظم التشخيصات النفسية ودرجات المخاطر متعددة الجينات من إجمالي مدة النوم.
وبالنظر إلى العلاقة بين طول نوبة النوم ونوعية النوم، نجد أن جودة النوم قد تكون مضطربةً أكثر من طول النوم عبر الأمراض النفسية، وتؤكد هذه النتائج أهمية تقييم جودة النوم بالإضافة إلى مدة النوم.
ومع ذلك، لاحظ الباحثون أن التأثيرات على النوم قد تختلف اختلافًا كبيرًا عبر الأنواع الفرعية للمرض (مثل الاكتئاب النمطي مقابل الاكتئاب غير النمطي)، أو الحالات مثل نوبة الهوس مقابل النوبة الاكتئابية.
يقول "واينيبرج": ما يصل إلى 80% من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الصحة العقلية يمكن أن يواجهوا مشكلات في النوم أو البقاء نائمين أو الاستيقاظ في وقت أبكر مما يريدون، نحن نعلم أن اضطرابات النوم تسبب عبئًا كبيرًا على المجتمع، ومن ضمنه العبء الاقتصادي، ونحن نعلم أن العلاجات التي تعمل على تحسين جودة النوم، سواءٌ أكانت علاجًا سلوكيًّا أو نفسيًّا أو بعض أنواع الأدوية، يمكن أن تحسِّن نتائج الصحة العقلية.
وفي الوقت الذي ركزت فيه معظم الدراسات السابقة حول النوم والأمراض العقلية على الأفراد البيض، فإن العامل الرئيسي الذي يميز الدراسة الجديدة هو تكراره عبر أجناس متنوعة، بما في ذلك أولئك الذين لم يتم تمثيلهم تاريخيًّا في البحوث الطبية، بالإضافة إلى هذا التكرار العرقي، يؤكد الباحثون أيضًا أن الذكور والإناث يُظهرون تغيرات مماثلة في النوم عند الإصابة بالأمراض النفسية.
مقاييس التسارع
اعتمد الباحثون على البيانات الواردة من مقياس التسارع الذي ارتداه المُشاركون طوال 7 أيام لمدة 24 ساعة يوميًّا، فإلى أيّ حد يُمكن الوثوق بتلك البيانات؟
يقول "شريجوي تريباثي" -الأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي بجامعة تورنتو، والمؤلف الرئيسي للدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": إن استخدام مقاييس التسارع في المعصم لقياس النوم أمرٌ بدائي مقارنةً بتخطيط النوم الذي يُعد المعيار الذهبي لتشخيص اضطرابات النوم؛ لأن مقاييس تسارع المعصم تقيس حركة المعصم فقط، وحركة المعصم هي دليلٌ ناقصٌ على كون الشخص نائمًا بالفعل.
يضيف "تريباثي": على وجه الخصوص، لا تستطيع مقاييس التسارع التمييز بين النوم والفترة التي تسبق النوم مباشرة، عندما يكون الشخص بالفعل بلا حراك إلى حدٍّ ما، وقد تفشل مقاييس التسارع أيضًا في التقاط فترات الاستيقاظ القصيرة جدًّا التي لا تنطوي على الكثير من حركة المعصم، "ومع ذلك يُعَد قياس التسارع عمومًا دقيقًا إلى حدٍّ ما لقياس النوم، وهو أكثر تنوعًا بكثير من تخطيط النوم، الذي يتطلب توصيل عدة أقطاب كهربائية بجسمك وقضاء ليلة في عيادة النوم.
ولأن الكثير من المعرفة بمشكلات النوم في الأمراض العقلية يعتمد فقط على الإبلاغ الذاتي، يقول "واينيبرج": "إن استخدام مقاييس التسارع في المعصم أمرٌ أفضل؛ إذ لا تتوافق مقاييس النوم المبلغ عنها ذاتيًّا دائمًا بشكل جيد مع القياس المباشر".
ويتابع: لنأخذ مثالًا واحدًا، أظهرت الدراسات السابقة أن الناس سيئون بشكل مدهش في تقدير مدة نومهم الحقيقية؛ فقد يقول الشخص العادي إنه استيقظ لمدة 75 دقيقة رغم أنه استيقظ أقل من ذلك بكثير، وقد يكون الأشخاص المصابون بالاكتئاب غير دقيقين بشكل خاص في الإبلاغ عن مدى جودة نومهم أو مدته، والأمر المثير للاهتمام والفريد في هذه الدراسة هو أننا نظرنا إلى مقطع عرضي كبير جدًّا من الأشخاص يتكون من حوالي مئة ألف شخص، واستخدمنا مقاييس التسارع التي يتم ارتداؤها على المعصم لتقدير النوم بدلًا من الاعتماد على التقارير الذاتية.
ومع ذلك، لا يقول "واينيبرج" إن الدراسة تخبرنا كثيرًا عن اضطرابات النوم؛ "فالكثير من التغييرات في أنماط النوم التي نلاحظها على الرغم من كونها ذات دلالة إحصائية هي في الواقع صغيرة جدًّا، ومن المحتمل ألا تفي بالمعايير التشخيصية لاضطراب النوم"، ويرجع هذا على الأرجح إلى أن الباحثين اختاروا النظر إلى بيانات الأشخاص الذين سبق أن تم تشخيصهم بمرض عقلي في مرحلةٍ ما من حياتهم، "لذلك لم يكن كل شخص يعاني بالضرورة من أعراض المرض العقلي في الوقت الذي ارتدوا فيه مقياس التسارع"، وفق "واينيبرج".
منهجية فريدة
هذه هي أول دراسة تشخيصية واسعة النطاق للنوم يتم فيها قياس تلك العملية الحيوية المهمة بشكل موضوعي، وقد سمحت المنهجية الفريدة للدراسة بمراقبة النوم في بيئة نوم منزلية طبيعية لكل فرد بدلًا من بيئة معملية.
يقول "مايكل سميث" -مدير مركز الطب السلوكي في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، وغير المشارك في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": إن الارتباط بين الأمراض النفسية وجودة النوم وكفاءته يُعرف منذ زمن بعيد، إلا أن تلك الدراسة قدمت دليلًا دامغًا على وجود علاقة مباشرة متبادلة بين النوم والمرض النفسي، وهي علاقة ثنائية الاتجاه؛ إذ إن المريض النفسي لا ينام جيدًا، والشخص الذي لا ينام جيدًا مُعرض للإصابة بالمرض النفسي.
ويرى "سميث" أن الأمر المُذهل في تلك الدراسة هو إجراء تتبُّع لعشرات الآلاف من الأشخاص في وقت واحد، وهذا الأمر يُعطي دلالةً إحصائيةً مُثبتة"، مؤكدًا أن لتلك الدراسة "أثرًا سريريًّا مهمًّا ورئيسيًّا، يتعلق بضرورة نظر الأطباء إلى جودة النوم أيضًا، وليس إلى مدته فحسب".
من جهته، يأمل "واينيبرج" أن تساعد تلك النتائج الأشخاص على اتباع عادات صحية في النوم، كما ينصح بضرورة التوجه إلى الأطباء إذا ما عانى أيّ شخص من نوم سيئ.
يقول "واينيبرج": إذا كنت قلقًا بشأن طريقة نومك، فلا تكتفِ بالخروج وشراء جهاز تعقُّب النوم، من الأفضل لك التحدث مع طبيبك وممارسة عادات نوم جيدة يتم فيها الالتزام بجدول نوم ثابت يومي، وعدم تناول الطعام أو استخدام الأجهزة الإلكترونية قبل النوم مباشرة.