مقدمة:
شكل الإنفاق العسكري وتأثيره في التنمية الاقتصادية مادة ثرية للجدل العلمي والسياسي، وأحياناً الجماهيري. لكن الإنفاق العسكري ليس كتلة واحدة بل يتوزع على مجالات مختلفة ويؤثر في كل مجال من تلك المجالات بصورة متباينة عن باقي مجالات الإنفاق العسكري. وتتمثل مجالات الإنفاق العسكري بالإنفاق الجاري على الأجور وما في حكمها وصيانة المعدات والتغذية والنقل للجيش العامل والمجندين، والإنفاق على شراء الأسلحة المحلية، والإنفاق على استيراد الأسلحة من الخارج، والإنفاق على البحث والتطوير العلميين لتطوير الأسلحة والمعدات العسكرية، والإنفاق على البنية الأساسية العسكرية من مراكز تدريب وطرق ومحطات مياه وصرف واتصالات وقواعد عسكرية لكل الأسلحة البرية والبحرية والجوية والصاروخية وغيرها.
وكلما تضخم الجهاز الإداري في أي جيش متضمناً بطالة مقنَّعة كتلك المنتشرة في الأجهزة الإدارية في الأغلبية الساحقة من الدول النامية، وحتى في بعض البلدان الناهضة والمتقدمة، تزايد الإنفاق العسكري الموجّه لدفع الأجور وما في حكمها من دون أن يتحول ذلك الإنفاق إلى قوة عسكرية تتناسب مع حجمه. وهذا الإنفاق يتضمن هدراً صريحاً للموارد بقدر تلك البطالة المقنَّعة، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق العسكري لتحقيق القوة العسكرية المطلوبة للدولة بتكلفة أعلى وبمستوى أعلى من إهدار الموارد على حساب التنمية الاقتصادية بقدر تلك البطالة المقنَّعة التي تؤدي إلى تشوهات في قيمة العمل؛ حيث يتم حشر من لا عمل لهم في «وظائف» غير موجودة فعلياً فيخلق مفاهيم مشوَّهة لدى قوة العمل عن قيمة العمل باعتبارها لا تعني بالضرورة العمل والكد والاجتهاد. كما أن البطالة المقنَّعة تشوِّه نظام الأجور حيث يتم توزيع مخصصات الأجور وما في حكمها على عدد أكبر من العاملين يزيد على ما يحتاج إليه إنجاز العمل فعلياً وتكون النتيجة تدني مستوى الأجور، أو تضخُّم الأجور وما في حكمها على حساب التوازن المالي للمؤسسة. كما أن البطالة المقنَّعة تؤدي إلى تشويه إنتاجية العمل، حيث تتم قسمة القيمة المضافة على عدد أكبر من العاملين يزيد على ما يحتاج إليه إنجاز العمل، فيؤدي إلى تدني متوسط إنتاجية العامل، والنظر إلى قوة العمل على أنها أدنى كفاءة وإنتاجية، رغم أن السبب يعود إلى تضخم الأعداد في صورة بطالة مقنَّعة.
ومن العبث والغباء اعتبار تضخم الجهاز الإداري في الجيوش في صورة بطالة مقنَّعة محركاً للطلب الفعّال والنمو من خلال الدخول الموزعة على العمالة الزائدة، نظراً إلى كل التشوهات التي تتسبب فيها تلك البطالة المقنَّعة. وقد استقر الاقتصاديون، وحتى السياسات العملية، على أن دفع الدول الغنية إعانات البطالة للعاطلين من العمل، وهي بالمناسبة تشكل طلباً فعّالاً منشطاً للاستثمارات والنمو أيضاً، أفضل من تكديسهم في بطالة مقنَّعة مشوَّهة لكل شيء. كما أن محرك النمو في الدول النامية هو المدخرات الممولة للاستثمارات الجديدة التي يوجد نقص فيها، وليس الطلب الفعّال لأنه ببساطة موجود فعلياً، سواء على المنتجات المحلية أو على السلع الاستهلاكية والوسيطة والاستثمارية الأجنبية، الأمر الذي يسبب عجزاً كبيراً في الميزان التجاري في الأغلبية الكاسحة من تلك الدول، وبخاصة إذا استثنينا منه النفط والغاز والخامات المعدنية الأولية.
ويسهم التخلف التقني للأسلحة ولأساليب إدارة الجيوش في تضخم أعدادها ونفقاتها الجارية التي لا تؤدي إلى زيادة في مستوى التسليح والفاعلية العسكرية، بحيث تتحول تلك النفقات إلى استنزاف اقتصادي بلا مردود عسكري يتناسب مع حجمها. وأحياناً تكون تلك النفقات الجارية، وبخاصة ما يتعلق بالأجور وما في حكمها، نوعاً من شراء الحاكم لولاء المؤسسة العسكرية، أو شراء رضاء المجموعات العرقية والقبلية التي يتكون منها الجيش في البلدان الأقل تطوراً واندماجاً على الصعيد الوطني. كما يؤدي تضخم أعداد الجيوش إلى إخراج جزء من قوة العمل متمثلاً بالجيش العامل والاحتياطي والمجندين من معادلة تحقيق التنمية الاقتصادية.
ويعتبر المثال الأبرز لضخامة تعداد الجيش وعدم حداثته تقنياً هو الجيش الصيني حتى ثمانينيات القرن الماضي قبل عملية تحديثه في العقود الثلاثة الأخيرة. وفي الحرب الصينية-الفيتنامية القصيرة عام 1979 كابد الجيش الصيني خسائر بشرية جسيمة بسبب عدم حداثته تقنياً رغم حجمه العملاق. ورغم اختراقه للحدود الفيتنامية بتكلفة باهظة، إلا أنه اضطر إلى الانسحاب سريعاً والعودة إلى الحدود الدولية. وأدت تلك الحرب، ومن بعدها خبرة حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق عام 1991، إلى تنبيه الصين إلى أهمية تحديث قواتها وخفض أعدادها، وأن التفوق العددي الكبير الذي مكنهم من هزيمة الجيش الأمريكي، أو التعادل معه على الأقل، في الحرب الكورية 1950-1953 قد أصبح جزءاً من التاريخ لا يملك أي فاعلية في إدارة الحروب الحديثة وكسبها. وقد تمكنت الصين من خفض تعداد جيشها البالغ أكثر من 4 ملايين جندي في أواسط ثمانينيات القرن العشرين إلى نحو 2 مليون جندي فقط في عام 2016[1]. وهذا الجيش الأصغر والأحدث في تسليحه وإدارته هو بالتأكيد أكثر فاعلية وقوة من الجيش القديم الضخم.
وبالنسبة إلى الجزء المخصص من الإنفاق العسكري للبحث والتطوير العلمي والتقني، فإنه يمكن أن يكون ذا فائدة عظيمة للاقتصاد لو تم نقل المنجزات العلمية والتقنية من المعامل العسكرية إلى الاقتصاد المدني. وفي هذا الشأن كان الغرب أكثر فاعلية من الاتحاد السوفياتي والشرق عموماً في نقل المنجزات العلمية من القطاع العسكري إلى القطاع المدني نتيجة إطار السرية والكتمان الذي أحاط به الاتحاد السوفياتي منجزاته العلمية العسكرية التي كانت مؤسسات الدولة هي التي تقوم بتحقيقها، وهو ما حرم القطاع المدني لديه إمكانات هائلة للتطور السريع.
وفي حالة اقتصار استخدام نتاج الأبحاث العلمية والتطويرات التقنية على الأسلحة، فإن تكلفة البحث والتطوير مقارنة بحجم الاستخدام تصبح عالية، وبخاصة للدول ذات الإنتاج المحدود من الأسلحة، التي لا تدخل ضمن كبار مصدِّري الأسلحة في العالم. بمعنى آخر، تتضاءل إنتاجية أو عائد تلك النفقات العسكرية على البحث والتطوير وتنطوي ضمنياً على إهدار جزئي للموارد التي كان من الممكن أن تذهب لتحقيق التنمية الاقتصادية. ومن المؤكد أن كبار مصدري الأسلحة في العالم، الذين يمكنهم البحث والتطوير العلميين والابتكارات الجديدة للأسلحة الأعلى فاعلية، تكون لديهم فرصة لتحسين موازينهم الخارجية من خلال عائد صادراتهم من الأسلحة. كما أن توسع تلك الصناعات، في ضوء الطلب الخارجي، يساعد على خلق المزيد من فرص العمل. وتؤدي الدخول الموزعة على العاملين في هذه الصناعات العسكرية التصديرية إلى خلق طلب فعّال على السلع والخدمات المدنية، مما يشجع المستثمرين على بناء استثمارات مدنية جديدة تستوعب عاملين جدداً، وتوزع دخولاً جديدة تشكل مدداً جديداً للطلب الفعّال فتتشكل دورة متتابعة من النمو التي يحركها ما يعرف بمضاعف الاستثمار.
كما أن القسم المخصص من الإنفاق العسكري لشراء الأسلحة يكون تأثيره أقل وطأة إذا كانت الأسلحة المشتراة محلية الصنع، حيث يضمن ذلك تشغيل قوة عمل محلية وتنشيط الطلب الفعّال المحرك للاقتصاد من خلال دخول قوة العمل العاملة في إنتاج الأسلحة. أما في حالة استيراد الأسلحة من الخارج كما هو الحال في البلدان العربية وأغلبية الدول النامية، فإن التأثير يكون سلبياً في ميزان المدفوعات والديون الخارجية للدولة. وتبعاً لذاك فإنه يؤثر سلبياً في أسعار صرف العملة المحلية مقابل العملات الحرة الرئيسية وفي استقرار تلك الأسعار.
وكان من المفترض أن يكون الإنفاق العسكري والأمني سلعة عامة كلياً تتسم بكل سمات السلع العامة وهي الإتاحة بلا مقابل مباشر لكل المواطنين ويتم تمويلها من الموازنة العامة للدولة. لكن انتشار المناطق السكنية المحمية بمعرفة ساكنيها أو شركات الأمن الخاصة التي تقوم بأعمال الحماية الشخصية، أو حماية النشاطات الجماهيرية، أو التجمعات السكنية في العديد من البلدان؛ قد أدخل نوعاً من الخصخصة على خدمات الأمن، بينما بقي الإنفاق العسكري المكرس لحماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها محتفظاً بكل خصائص السلع العامة. وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن انخراط بعض الجيوش في الأعمال الاقتصادية المدنية التي لا تعتبر من مهام الجيوش وفقاً للقوانين والدساتير مع تمتُّع تلك الجيوش في نشاطاتها الاقتصادية المدنية بميزات خاصة، مثل الإعفاءات الضريبية وتخصيص الأراضي بلا مقابل أو بمقابل رمزي ومحدودية أجور العاملين من المجندين، هو نوع من التغول العسكري على القطاعات الاقتصادية المدنية العامة والخاصة. وبشكل أوضح هو نوع من عسكرة الاقتصاد وتكثيف الاستغلال للعمالة وبناء أساس اقتصادي للسيطرة العسكرية على الحياة السياسية. وهو نمط يقلل كفاءة تلك الجيوش المنخرطة في نشاطات اقتصادية وسياسية غير عسكرية، ويضر بقواعد العدالة في المنافسة في اقتصادات تلك البلدان وفي حياتها السياسية.
وهناك قادة عسكريون عظام لديهم مواقف رافضة لإقحام الجيوش في الأنشطة الاقتصادية المدنية. ويورد المشير محمد عبد الغني الجمسي، وزير الدفاع المصري الأسبق ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر 1973 في مذكراته، شهادة الفريق أول محمد فوزي وزير الدفاع الأسبق عن أسباب نكسة حزيران/يونيو 1967، حيث يورد ضمن تلك الأسباب «دخول القوات المسلحة في الإصلاح الزراعي والإسكان والنقل الداخلي وأعمال مباحث أمن الدولة والسد العالي وأشياء أخرى كثيرة. وكان للقوات المسلحة مندوبون في هذه الجهات يمثلون القمة أي المشير (عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة) وشمس (شمس بدران وزير الحربية)». ويضيف في شهادته «ويهمني في هذه النقطة من الناحية التاريخية القول إن انتشار سلطة القوات المسلحة في مختلف نشاطات الدولة أخرج القوات المسلحة أو قلل اهتمامها بمسؤوليتها الأساسية وهي إعداد القوات المسلحة للقتال»[2]. ويؤكد المشير محمد عبد الغني الجمسي أن الانضباط العسكري (قبل كارثة يونيو 1967) قد «وصل إلى الانهيار نتيجة حرب اليمن، وإقحام القوات المسلحة في مجالات عمل غير عسكرية»[3].
ونتيجة لتلك الرؤية فإن إحدى خطوات القيادتين السياسية والعسكرية المصرية لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية بعد نكسة يونيو 1967 كانت «هي إبعاد قواتنا المسلحة عن كل عمل مدني سبق تكليفها به. فقد أُعيد الضباط الذين يعملون في قطاعات مدنية إلى وظائفهم العسكرية أو تم نقلهم نهائياً إلى وظائف مدنية. وتم إلغاء وحدات غير مقاتلة كانت مكلفة بأعمال مدنية من اختصاص وزارات أخرى. وبذلك احترفت القوات المسلحة عملها العسكري فقط»[4]. لكن هناك رؤى أخرى وممارسات عملية مناقضة لهذا الاتجاه.
وإذا افترضنا عالماً مثالياً لا توجد فيه نوازع للاستحواذ والغزو والاعتداء من دولة على دولة أخرى، فإن الإنفاق العسكري إجمالاً يصبح إهداراً حقيقياً للموارد. وبما أن العالم ليس كذلك، فإن النظرة الواقعية للأمور تقوم على أن تخصيص قدر معتدل ومقبول من الموارد للإنفاق العسكري يشكل ضرورة لتحقيق الأمن وضمان سلامة أراضي الدولة وحدودها، وبالتالي سلامة أصولها الاقتصادية القائمة فعلياً، أو التي يمكن أن تُقام من خلال الاستثمارات الجديدة. ويبقى تحديد ذلك القدر المقبول من الإنفاق العسكري هو المعضلة التي تواجه الاقتصاديين لأنه لا يرتبط فقط بالحجم الفعلي للتهديدات الخارجية، بل بتقدير السلطة لتلك التهديدات التي يمكن أن تنطوي على مبالغات كبيرة ترتبط بمصلحة المجمع الصناعي العسكري المحلي أو بمصلحة مستوردي الأسلحة من الخارج حفاظاً على عمولاتهم الكبيرة، حتى لو لم تكن هناك ضرورة حقيقية لذلك الإنفاق وتلك الواردات.
أولاً: معضلة تقدير الحجم المقبول للإنفاق العسكري الذي لا يتعارض مع التنمية
من البديهي أن الموارد التي يتم تخصيصها للإنفاق العسكري تقتطع من إجمالي الإنفاق العام الذي كان من الممكن نظرياً أن يتم توجيهه لتمويل التنمية الاقتصادية أو لدعم الطبقات الفقيرة لتحقيق درجة مقبولة من العدالة الاجتماعية التي تشكل أساس الاستقرار المبني على التراضي وليس القمع. وتلك النسبة من الإيرادات العامة التي يتم تخصيصها للإنفاق العسكري تشكل بدورها نسبة من الناتج المحلي الإجمالي، لذا فإن الطبيعي لدى أي قياس للإنفاق العسكري والحجم المقبول له أن يُنسب إلى الناتج المحلي الإجمالي. كما تتم مقارنته بالإنفاق العام على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية لبيان الأولويات التنموية الاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع الأولويات العسكرية للدولة.
لكن ذلك الإنفاق العسكري هو الذي يشكل في الوقت نفسه إحدى ضمانات السلام بين الدولة وجيرانها على قاعدة التوازن العسكري أو امتلاك قدرة ردع تمنع الدول المجاورة من التفكير في العدوان على تلك الدولة. وهذا السلام، أو استقرار الأمن بين الدولة وجيرانها، إضافة إلى الأمن الداخلي هما العنصران اللذان يتقدمان كل العناصر الباقية المكونة لشروط نمو الاستثمارات المحلية المحركة للنمو الاقتصادي وزيادة الناتج وخلق الوظائف أو جذب الاستثمارات والسياحة الأجنبية. وبالتالي فإن الإنفاق العسكري اللازم لضمان استقرار وأمان حدود الدولة لا يشكل اقتطاعاً من فرص التنمية الاقتصادية، بل يشكل ضرورة لتحقيق تلك التنمية ذاتها. إذاً، عندما يتم الحديث عن الإنفاق العسكري كاقتطاع من فرص التنمية الاقتصادية-الاجتماعية، فإن ذلك يتعلق فقط بتضخم ذلك الإنفاق فوق الحاجة الضرورية لضمان حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها.
ويمكن اعتبار المتوسط العالمي للإنفاق العسكري هو المعدل المقبول في الظروف العادية، بينما تكون الدول المنخرطة في صراعات مباشرة، أو في سباقات تسلح مرتبطة باحتقانات في علاقاتها الخارجية، مرشحة لتجاوز ذلك المعدل؛ لأن الإنفاق العسكري في أي دولة يتغير في قيمته المطلقة ونسبته من الإنفاق العام ومن الناتج المحلي الإجمالي في ضوء التحديات التي تواجهها الدولة، وفي ضوء تمتعها بحالة من السلام الداخلي، والسلام مع جيرانها، أو انخراطها في صراعات داخلية أو إقليمية أو عالمية.
وتشير بيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم (2017) إلى أن الإنفاق العسكري المخصص في الموازنة العامة للدولة (لا يشمل التمويل الذاتي من خلال النشاط الاقتصادي المدني للجيش في البلدان التي تسمح بذلك النشاط الاقتصادي المدني للجيش) كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 قد بلغ نحو 2,3 بالمئة في المتوسط العالمي، ونحو 1,4 بالمئة في الدول الفقيرة، ونحو 1,8 بالمئة في دول الدخل المتوسط المنخفض، ونحو 2,1 بالمئة في دول الدخل المتوسط المرتفع، ونحو 2,4 بالمئة في دول الدخل المرتفع. وبلغ المعدل نحو 7,7 بالمئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونحو 3,3 بالمئة في الولايات المتحدة، ونحو 2 بالمئة في الصين، ونحو 5 بالمئة في روسيا. أي أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأعلى عالمياً في الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وبلغ المعدل في العام المذكور نحو 14,2 بالمئة في عمان، ونحو 13,5 بالمئة في السعودية، ونحو 7,3 بالمئة في العراق، ونحو 6,2 بالمئة في الجزائر، ونحو 5,7 بالمئة في الإمارات، ونحو 4,8 بالمئة في لبنان، ونحو 4,6 بالمئة في البحرين، ونحو 4,3 بالمئة في الأردن، ونحو 4 بالمئة في اليمن، ونحو 3,7 بالمئة في الكويت، ونحو 3,2 بالمئة في المغرب، ونحو 2,7 بالمئة في موريتانيا، ونحو 2,3 بالمئة في تونس، ونحو 1,7 بالمئة في مصر. كما بلغ نحو 5,4 بالمئة في الكيان الصهيوني، ونحو 2,3 بالمئة في إيران، ونحو 2,1 بالمئة في تركيا، ونحو 10,9 بالمئة في جنوب السودان في العام 2015[5].
وكما هو واضح فإن البلدان العربية التي تقع ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي من أعلى بلدان العالم في الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا قارنّا تلك المنطقة عموماً بالمتوسط العالمي فإنها تبلغ أكثر من ثلاثة أمثال أو بالضبط 3,35 مثل متوسط معدل الإنفاق العسكري العالمي.
وتشير البيانات الأحدث من تقرير سيبري 2017 إلى أن الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي قد بلغ في عام 2016 نحو 16,7 بالمئة في عمان، ونحو 10,4 بالمئة في السعودية، ونحو 6,7 بالمئة في الجزائر، ونحو 6,5 بالمئة في الكويت، ونحو 5,8 بالمئة في الكيان الصهيوني، ونحو 4,8 بالمئة في كل من البحرين والعراق، ونحو 3,2 بالمئة في المغرب، ونحو 3 بالمئة في إيران، ونحو 2,3 بالمئة في تونس، ونحو 2 بالمئة في تركيا، ونحو 1,6 بالمئة في مصر[6]. كما بلغ الإنفاق العسكري الإماراتي نحو 5,7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015، وبلغ الإنفاق السعودي في ذلك العام نحو 13,5 بالمئة، في حين بلغ الإنفاق العماني 14,2 بالمئة في العام نفسه[7].
أما على صعيد القيمة المطلقة للإنفاق العسكري[8] فقد بلغت نحو 61,4 مليار دولار في السعودية عام 2016، وفي تقديرات أخرى وردت بنفس التقرير[9] بلغت نحو 63,7 مليار دولار. وفي الحالتين تأتي السعودية في المرتبة الرابعة عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا. ويشكل الإنفاق العسكري للسعودية حقاً نموذجاً مذهلاً للإفراط غير المبرر في الإنفاق العسكري بصورة تشكل إهداراً صريحاً للموارد على حساب التنمية الاقتصادية. وبلغت القيمة المطلقة للإنفاق العسكري الصهيوني نحو 17,8 مليار دولار مما يضعه في المرتبة 15 عالمياً. ويبلغ إنفاق الكيان الصهيوني أكثر من ثلاثة أمثال أو بالضبط 3,3 مثل الإنفاق العسكري المصري رغم أن تعداد سكان مصر يبلغ أكثر من 12 مثل تعداد ذلك الكيان!
وباستثناء مصر وتركيا وتونس الأقل من المتوسط العالمي في الإنفاق العسكري، فإن الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة أعلى كثيراً من المتوسط العالمي بصورة تتفاوت من دولة لأخرى. وهو أعلى بشكل معتدل ومقبول من ذلك المتوسط في كل من إيران والمغرب. ويبلغ نحو 1,75 مثل المعدل العالمي في اليمن. كما يبلغ ما يتراوح بين ضعف المتوسط العالمي وثلاثة أمثاله في البحرين والعراق والكيان الصهيوني والكويت والجزائر والإمارات. ويزيد في السعودية عن أربعة أمثال المتوسط العالمي للإنفاق العسكري، بينما يزيد في عمان عن سبعة أمثال ذلك المتوسط العالمي.
ثانياً: تضخم الإنفاق العسكري يرتب مصالح تدمِّر السلام العالمي وتستنزف ثروات الأمم
يؤدي تضخم الإنفاق العسكري لمواجهة تحديات مؤقتة أو لتحقيق التفوق العسكري الإقليمي أو العالمي بشكل مطلق إلى خلق شبكة من المصالح للمجمع الصناعي العسكري في استمرار هذا الإنفاق المرتفع حتى لو استدعى الأمر صناعة التوترات والصراعات والحروب والإرهاب لتبرير استمرار الإنفاق على شراء وتكديس واستهلاك الأسلحة، من دون أن يعني ذلك أن تغذية المجمع الصناعي العسكري هو السبب الوحيد لصناعة تلك التوترات والصراعات والحروب حيث تكون الأسباب الجيوسياسية والاقتصادية حاضرة وفي صدارة الأسباب في أحيان كثيرة.
لكن حتى في هذا الإطار لفهم القضية تتحول مصالح المجمع الصناعي العسكري والمؤسسة العسكرية إجمالاً وبخاصة في الدول الكبرى، وتحديداً في الولايات المتحدة، إلى عامل تخريب للسلام العالمي. ويرتبط ذلك المجمع بمصالح عميقة مع السياسيين الذين يمولهم في الدول الرأسمالية الغنية. كما يكون هو ذاته والمؤسسة العسكرية نفسها جزءاً مهماً من القوة المهيمنة سياسياً في الدول النامية وضمنها الدول العربية، أو حتى الجزء المهيمن فعلياً على الأقدار السياسية في بعض البلدان، وهي كارثة تؤدي إلى وأد السياسة والحريات نظراً إلى أن المؤسسة العسكرية هي في النهاية مؤسسة قائمة على سلطة الأوامر والتراتبية الصارمة المناقضة للحريات السياسية.
وعندما انتهت الحرب الباردة الثانية باتفاقيات خفض الأسلحة الاستراتيجية عام 1988، كان من الضروري أن يتراجع الإنفاق العسكري في الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة التي كان إنفاقها العسكري يبلغ قرابة 40 بالمئة من الإنفاق العسكري العالمي آنذاك، وهو ما زال يمثل نحو 36 بالمئة من الإنفاق العسكري في العالم في عام 2016 حسب تقرير سيبري للعام 2017. وبعد نهاية الحرب الباردة الثانية تم اختراع حرب الخليج الثانية بتشجيع الولايات المتحدة للعراق على غزو الكويت وضمها للعراق. وبدلاً من بذل مساعٍ حقيقية لإخراج العراق من الكويت سلمياً تم تشكيل التحالف الأمريكي-الدولي للحرب ضد العراق وإخراجه من الكويت وتدمير قوته التي كان الكيان الصهيوني يراها تهديداً قوياً له.
وفي تلك الحرب استهلكت الولايات المتحدة قسماً هائلاً من مخزونات القذائف والقنابل والصواريخ التي راكمتها في زمن الحرب الباردة وتقادمت تقنياً. كما جربت أسلحتها الجديدة لاختبار فاعليتها في حرب كان من الممكن تفاديها وكان وقودها شعب عريق الحضارة. وفسح ذلك الأمر في المجال للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي والمجمعات المناظرة في بلدان أوروبية أخرى، وبخاصة بريطانيا وفرنسا، لتطوير أسلحة جديدة وإحلالها مكان القديمة التي تم قصف العراق بها، وتجريب أسلحة جديدة.
ولإدراك مدى أهمية الاستهلاك الأمريكي من الأسلحة لحياة ونمو المجمع الصناعي العسكري الأمريكي يكفي أن نشير إلى أن مبيعات الأسلحة الأمريكية قد بلغت 216 مليار دولار عام 2014، ونحو 210 مليارات دولار عام 2015 بمجموع 426 مليار دولار في العامين المذكورين[10]. وإذا كانت صادرات الأسلحة الأمريكية خلال الفترة من عام 2012 حتى عام 2016 قد بلغت نحو 47469 مليون دولار بمتوسط سنوي يبلغ 9494 مليون دولار، فإن ذلك يعني أن المشتريات الأمريكية الحكومية والخاصة من الأسلحة التي يصنعها المجمع الصناعي العسكري الأمريكي قد بلغت في عامي 2014، و 2015 نحو 407 مليارات دولار. وبالتالي فإنه من المهم جداً للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي أن يظل المجتمع الأمريكي قائماً على حرية الحيازة الفردية للأسلحة، مهما كانت الجرائم التي يؤدي إليها ذلك، وأن تظل الولايات المتحدة متورطة في سباقات تسلح وصراعات وحروب لأن جيشها هو المشتري الرئيسي للأسلحة التي ينتجها ذلك المجمع.
أما تكلفة ذلك على الموازنة العامة للدولة وعلى دافعي الضرائب الأمريكيين فإنه أمر لا يهم المجمع الصناعي العسكري والسياسيين المتمولين منه، فضلاً عن أنه تم تعويض نفقات حرب الخليج عام 1991 من الدول الخليجية، والأمر نفسه ينطبق على الدول الأوروبية الكبرى، وبخاصة بريطانيا وفرنسا.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، كان أمام العالم فرصة تاريخية لتقليص النفقات العسكرية وتعزيز السلام العالمي بعد انتهاء الاستقطاب الدولي. وقد خفضت روسيا نفقاتها العسكرية حيث كانت تعاني اضطراباً وتراجعاً اقتصادياً رهيباً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بحيث بلغ معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الروسي نحو -19,4 بالمئة، -10,4 بالمئة، -11,6 بالمئة، -4,2 بالمئة، -3,4 بالمئة، 0,9 بالمئة، -4,5 بالمئة في الأعوام 1992، 1993، 1994، 1995، 1996، 1997، 1998 على التوالي[11].
كانت روسيا تنهار اقتصادياً تحت وطأة تدني أسعار صادراتها من النفط والغاز، وفي ظل الفوضى والتخريب اللذين أحدثتهما «السياسات» الاقتصادية ليلتسين وعصابات نهب الأموال والأصول العامة المحيطة به، إذا جاز تسميتها بالسياسات أصلاً، حاولت روسيا التقارب مع الغرب، بل والاندماج بالمنظومة الاقتصادية والسياسية وربما العسكرية الغربية بعد أن تحولت إلى دولة رأسمالية. لكنها جوبهت بالرفض لأن وجودها في وضع المنافس وليس الحليف يعد ضرورة لاستمرار الإنفاق العسكري المرتفع الذي يغذي المجمع الصناعي العسكري الأمريكي!
كما انخرطت الولايات المتحدة مجدداً في عمليات عسكرية كبرى ضد يوغسلافيا السابقة عام 1999 من دون حتى أن تمر على مجلس الأمن لتحصل على غطاء دولي يكسبها أي شرعية. وأدى ذلك العدوان وما سبقه من ضم حلف الأطلسي لبعض الدول الاشتراكية السابقة في شرق أوروبا إلى إعادة أجواء السباق العسكري بين روسيا والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. وتم اختراع الحرب على أفغانستان عام 2001، ليشكل الإنفاق الأمريكي عليها تغذية طويلة الأجل للمجمع الصناعي العسكري.
لكن قمة الانهيار الأخلاقي للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تمثلت في اختراع أكاذيب دنيئة حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل مزعومة، لتبرير الغزو الإجرامي له عام 2003 خارج الشرعية الدولية، وتدمير دولته وبنيته الأساسية والصناعية، ونصب مقتلة مروِّعة لشعبه ونهب آثاره والسيطرة على قسم مهم من حقول نفطه بعقود إذعان فور وقوعه تحت الاحتلال. وكان ذلك السلوك الأمريكي نموذجاً لعربدة القوة الأشد خطراً على العالم من الإرهاب؛ لأنها ببساطة دمرت دولة ومجتمعاً وأوجدت يأساً مروِّعاً من الحصول على العدالة في العلاقات بين الأمم وخلقت فضاءً هائلاً لنمو الإرهاب وتعملقه. وكانت ذروة الانحطاط الأخلاقي للقوة الأمريكية الغاشمة هي أحداث التعذيب والانتهاك الجسدي والجنسي للمساجين العراقيين في سجن أبو غْريب، بحيث بدا الجيش الأمريكي كعصابات من المجرمين المضطربين نفسياً. وسوف تظل تلك الأحداث عاراً يلاحق الغرب والولايات المتحدة وجيشها العنصري الإجرامي أبد الدهر.
وأدى التدمير الأمريكي (من زاوية المصالح الأمريكية نفسها) للدولة العراقية وبناء نظام محاصصة عرقية وطائفية ومذهبية بفعل أمريكي مباشر، إلى ارتباط النظام العراقي الجديد بعلاقات قوية مع إيران وإلى تباعده تدريجياً عن المواقف الأمريكية. لقد أسقط الأمريكيون الثمرة العراقية العملاقة، لكنها وقعت في حجر إيران!
وكان الرد باختراع داعش وأخواتها بدعم خليجي وأمريكي. وأسقطت الطائرات الأمريكية بـ«الخطأ» المتكرر آلاف الأطنان من الأسلحة والمساعدات لذلك التنظيم. وفتحت تركيا حدودها لتمرير الإرهابيين الأجانب إلى داخل سورية ولتلقي النفط الذي سرقه تنظيم داعش وأمثاله من حقول النفط السورية والعراقية للإتجار به كآلية لتمويل تلك التنظيمات من جهة، ولتحقيق أرباح استثنائية من جهة أخرى من خلال شراء تركيا لذلك النفط المسروق بأسعار متدنية. وربما يكون من المفيد الرجوع إلى حديث وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم لبرنامج «الحقيقة» في قناة قطر (متاح على اليوتيوب) الذي فضح فيه التواطؤ الإجرامي بين قطر والسعودية والولايات المتحدة وتركيا ومجموعات الإرهابيين لتدمير سورية، وقال كلمته الشهيرة «تهاوشنا على الصيدة وفلتت الصيدة». والصيدة المقصودة هي سورية التي اعتبرها أجلاف المتآمرين القطريين والسعوديين، بكل تاريخها وتراثها الحضاري ودورها الثقافي والسياسي مجرد «صيدة» يتهاوشون عليها؛ حتى لو تسبب ذلك في تشريد الملايين وقتل مئات الألوف من أبناء الشعب السوري، وتبديد منجزات عشرات السنين من التنمية الاقتصادية التي دُمّرت وأصبحت ركاماً في حرب الدولة السورية مع قطعان الإرهابيين!! ولو كان هناك حساب دولي حقيقي لمجرمي الحرب فإن الحديث المسجل لذلك المجرم كفيل بجرِّه إلى المحكمة الجنائية الدولية مع شركائه السعوديين والأمريكيين والقطريين والأتراك.
وبقدر ما مثل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 خراباً وتدميراً مروِّعاً للاقتصاد العراقي، فإنه شكل فرصة استثنائية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي للعمل والتوسع في ضوء وجود طلب فعّال قوي من الجيش الأمريكي ومن جيوش دول الخليج والعراق والدول العربية عموماً، التي أصبحت الأغلبية الساحقة من دولها الكبيرة والصغيرة تابعة للولايات المتحدة، وتعمل على الهدف لتحويل مسارات الصراع في المنطقة، من صراع لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة من الكيان الصهيوني ورعاته، إلى صراعات دينية ومذهبية ومفتعلة، ومولدة للتكفير والتطرف والعنف والإرهاب، وتضع دول المنطقة العربية وجيرانها في صراعات لا تنتهي، فتغدو بحاجة دائمة إلى استيراد الأسلحة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول المصدِّرة للسلاح.
كما أن تعمُّد الولايات المتحدة استفزاز كوريا الشمالية وإطلاق تصريحات التدمير الشامل لها لافتعال سباق للتسلح تنخرط فيه كوريا الجنوبية وهي مستورد رئيسي للأسلحة الأمريكية، هو نوع من إبقاء وتنشيط سوق استيراد الأسلحة الأمريكية بسياسات تتسم بالخطورة على السلام العالمي، ولا بأس من تصوير الغرب لكوريا الشمالية على أنها شيطان يهدد العالم رغم أنها تدافع عن وجودها المهدد فعلياً.
ومن اللافت للنظر حقاً أن الكوريتين بادرتا بتخفيف التوتر والتقارب في عام 2017 بمبادرةكوريا الشمالية مع شقيقتها الجنوبية في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيونغ شانغ ودخولهما معاً في حفل الافتتاح بوفد موحد يحمل علماً أبيض عليه خريطة كوريا الموحدة. وفي مواجهة ذلك التقارب أوفدت الولايات المتحدة نائب الرئيس الأمريكي إلى كوريا الجنوبية لحضور حفل الافتتاح حيث صدم توقعات العالم بتصريحات استفزازية عن فرض عقوبات أمريكية جديدة هي الأشد قسوة على كوريا الشمالية، فوأد أي توقعات عن لقاءات أمريكية-كورية شمالية مباشرة خلال تلك الألعاب. وأكد نائب الرئيس الأمريكي استمرار التنسيق مع كوريا الجنوبية في الضغط على كوريا الشمالية في محاولة لقطع الطريق على أي نزوع كوري جنوبي للمصالحة مع الشمال، ولإبقاء التوتر مشتعلاً في شبه الجزيرة الكورية ومنع تطور مساعي السلام بين الكوريتين خارج السيطرة الاستحواذية الأمريكية. كما أن كوريا الشمالية التي تطور برنامجها النووي والصاروخي على قواعد علمية وتقنية بنتها بنفسها ولأغراض دفاعية، لم تفعل ما فعله الكيان الصهيوني العنصري الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعدوان والمسلح نووياً حتى الأسنان بمساندة حاسمة من الغرب، وبخاصة من فرنسا والولايات المتحدة في هذا المجال، دون أي مساءلة دولية له!!
كما أن التاريخ السياسي – العسكري الحديث يشير بوضوح إلى أن الدولة الأكثر خطراً وإجراماً في استخدام الأسلحة النووية هي الولايات المتحدة – وليس أي أحد آخر – سواء من خلال قصفها بلا مبرر لليابان المهزومة فعلياً وكلياً في الحرب العالمية الثانية لإرهاب دول العالم التي لم يكن أي منها يملك الأسلحة النووية آنذاك، أو عبر استخدام اليورانيوم المنضب في قصف العراق وربما القنابل النيوترونية الصغيرة في معركة بغداد عام 2003.
كما تم اختراع التنظيمات الإرهابية الدينية الكبرى بفعل وبقيادة الولايات المتحدة والسعودية في البداية، من خلال دعم تنظيم القاعدة وتمويله وتسليحه في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان عام 1980 وما بعده، ب نشيطة ومعلنة في التبرعات والتجنيد من النظام الحاكم في مصر برعاية رئيسها الأسبق محمد أنور السادات، ومن دول خليجية وعربية وإسلامية أخرى. وأصبحت الحرب ضد الإرهاب مبرراً لاستنزاف الموارد العامة لتمويل الإنفاق العسكري وشراء الأسلحة على حساب الإنفاق الاجتماعي والتنمية الاقتصادية.
وفي ظل ضرورة الحرب ضد الإرهاب كآلية لتنشيط المخاوف العالمية والإقليمية والمحلية في كل دولة، التي تنشط طلبات الأسلحة وتغذي المجمعات الصناعية العسكرية في الدول الكبرى وبالذات في الولايات المتحدة، كانت المأساة والملهاة في آن أن يتم تشكيل تحالف لمحاربة الإرهاب، يتكون من الرعاة الأساسيين للإرهاب مثل الولايات المتحدة وتركيا وبعض دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، التي تعد مع إمارة قطر مصدراً رئيسياً لدعم وتمويل المجموعات الدينية التكفيرية المتطرفة والإرهاب. ورغم حدوث خلافات بين رعاة الإرهاب وتعديل في التحالفات إلا أن ذلك لا ينفي أنهم رعاة رئيسيون للإرهاب. ورغم أهمية المواجهة العسكرية والأمنية لقوى الإرهاب، إلا أن مقاومتها الأعمق تتمثل بالانتصار لقيم التحضر والتنوير وفصل الدين عن الدولة عبر المنظومات التعليمية والثقافية والفنية لإبقاء الدين في عليائه علاقة خالصة بين الإنسان وربه بعيداً من الاستغلال السياسي والاقتصادي الرخيص والمدمر لصورة الدين وللمجتمعات في آن؛ وكذلك عبر الانتصار لقيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر بغض النظر عن الدين والمذهب والنوع واللون والأصل العرقي؛ والانتصار للتنمية الاقتصادية والتشغيل الذي يمكِّن البشر من كسب عيشهم بكرامة من خلال ناتج عملهم وكدِّهم. لكن تلك المواجهة الأكثر عمقاً وديمومة لا تحدث، ولا يتم التوجه نحوها، حيث يجري إبقاء قضية الإرهاب ومكافحته كقضية أمنية وعسكرية؛ كون ذلك يوفر آلية للسيطرة الدولية والإقليمية والمحلية ولاستنزاف الموارد الاقتصادية للدول في الإنفاق على المواجهة المزعومة للإرهاب.
وتشير بيانات تقرير سيبري 2017[12] إلى أن قيمة صادرات الأسلحة الأمريكية قد بلغت 47469 مليون دولار خلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2016، وأن نحو 47 بالمئة منها قد توجهت إلى دول الشرق الأوسط. وتعتبر دول الخليج هي المتلقي الرئيسي لصادرات الأسلحة الأمريكية في العالم. وتشكل تلك الدول وتبعيتها للولايات المتحدة كنزاً استراتيجياً للمجمع الصناعي - العسكري الأمريكي.
وخلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2016 شكلت واردات الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية نحو 91 بالمئة من إجمالي واردات الكويت من الأسلحة، ونحو 52 بالمئة من إجمالي واردات السعودية الضخمة من الأسلحة، ونحو 61 بالمئة من واردات البحرين من الأسلحة، ونحو 62 بالمئة من إجمالي واردات الإمارات من الأسلحة، ونحو 68 بالمئة من واردات قطر من الأسلحة، ونحو 65 بالمئة من واردات عمان من الأسلحة. وشكلت واردات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الأسلحة الأمريكية نحو 53 بالمئة من إجمالي واردات تلك المنطقة[13]. وتصدرت السعودية دول المنطقة في قيمة وارداتها من الأسلحة الأمريكية. وتلك الصادرات الضخمة للأسلحة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبخاصة للسعودية تشكل تجسيداً لنجاح القراصنة الاقتصاديين الأمريكيين في ما سعوا إليه في هذا الشأن.
ويشير جون بركنز في كتابه اعترافات قرصان اقتصادي.. الاغتيال الاقتصادي للأمم؛ إلى أن واشنطن بدأت بعد نهاية الحظر النفطي العربي (1973) وما ترتب عليه من ارتفاع أسعار النفط وامتلاء خزائن آل سعود بمليارات الدولارات في التفاوض مع السعوديين فعرضت عليهم مقايضة المساعدة التقنية والمعدات والتدريبات العسكرية وفرصة للنهوض ببلدهم ليلحق بركب القرن العشرين مقابل دولارات البترول. وأسفرت المفاوضات عن إنشاء اللجنة الأمريكية- السعودية للتعاون الاقتصادي التي تعتمد على الأموال السعودية لتمويل الشركات الأمريكية في بناء السعودية[14]. ويشير في موضع آخر إلى أنه تم تكليفه بتطبيق قدراته الإبداعية في تبرير استنزاف مئات الملايين من الدولارات من اقتصاد السعودية بشرط إدراج شركات الهندسة والبناء الأمريكية[15]. ويضيف في موضع آخر: «التطور الاقتصادي في المملكة سوف يستتبعه في الغالب نمو صناعة أخرى ألا وهي صناعة أمن شبه الجزيرة العربية فالشركات المدنية المتخصصة في الصناعات العسكرية والهيئات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي سوف تتوقع عقوداً سخية وكذلك عقود صيانة وإدارة طويلة الأجل»[16].
وقد جاءت العقود الهائلة لصفقات السلاح التي وقعتها السعودية مع الولايات المتحدة عام 2017 بقيمة 460 مليار دولار تستورد بموجبها أسلحة أمريكية فوراً بقيمة 110 مليارات دولار، وصفقات أخرى بقيمة 350 مليار دولار على مدار 10 سنين[17]، كتجسيد حي لهذا الأمر. كما أنها حلقة من سلسلة متواصلة من عقود شراء السعودية للأسلحة الأمريكية بكميات كبيرة منذ أربعين عاماً. وإضافة إلى تلك الصفقات، هناك صفقات ضخمة قد تصل قيمتها إلى 50 مليار دولاربين شركة أرامكو السعودية من جهة وشركات جنرال إلكتريك، وهاليبرتون، وسكليمبرغر من جهة أخرى. كما عقدت إمارة قطر صفقة بقيمة 12 مليار دولار لشراء 36 طائرة من طراز إف 15 في حزيران/يونيو 2017، لتلحق بنحو 72 طائرة حربية تم التعاقد على شرائها بقيمة 21 مليار دولار عام 2016[18]. وارتبطت الصفقات الأمريكية الضخمة لتوريد الأسلحة لمملكة عائلة سعود ولقطر في عام 2017 بالتوتر الذي نشب بين المملكة والإمارة حول من منهما ترعى الإرهاب، وسعي كل منهما لنيل رضا الولايات المتحدة والحصول على الغطاء السياسي أو «صكوك الغفران» منها، وقامت الأخيرة بابتزازهما معاً وهي تعلم علم اليقين أن كلاً منهما تموِّل وتدعم الإرهاب برعايتها ومشاركتها، لكنها استغلت الأزمة وحصلت في النهاية على الصفقات التي تريدها لمجمعها الصناعي العسكري ولشركاتها النفطية العملاقة!
وقد أدى تراكم تكديس الأسلحة لدى السعودية إلى تبني المملكة سياسات عدوانية تجاه بلدان مثل اليمن وسورية وليبيا، وإلى تبني سياسات هيمنة في منطقة الخليج بصورة لا تتسق مع الحجم الصغير للمملكة مما وضعها في مواجهة مع جارة كبيرة وطامحة للهيمنة الإقليمية بدورها وهي إيران. وبخاصة أن الأولى، أي السعودية دولة قبلية تابعة كلياً للولايات المتحدة وتتوافق مع الكيان الصهيوني وأهدافه، أما الثانية فهي دينية ذات سمات وطنية ومنخرطة في صراع مصالح وإرادات مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
لقد أدى تكديس الأسلحة وما أنتجه من تصاعد لغرور القوة إلى خلق آلية للبحث عن حروب لتلك الأسلحة المكدسة، وتورطت السعودية بالفعل في حروب في سورية وليبيا واليمن أدت إلى تصاعد حاجتها إلى المزيد من التسلح والإنفاق العسكري المتضخم في حلقة مفرغة من استنزاف الموارد الاقتصادية.