القدس المحتلة – قبل 3 سنوات وتحديدا في 22 فبراير/شباط 2019، صلى آلاف الفلسطينيين الجمعة في محيط مصلى باب الرحمة شرقي المسجد الأقصى، واستطاعوا بعدها فتح المصلى المغلق منذ 16 عاما فيما عرفت بهبّة باب الرحمة، التي توسطت زمنيا هبّة البوابات الإلكترونية "باب الأسباط" عام 2017، وهبّة 28 رمضان عام 2021 التي أفشلت اقتحام المستوطنين للمسجد.
حكاية المصلى عبر 1300 عام
بنى الأمويون باب الرحمة قبل نحو 1300 عام ليكون بابا مشتركا بين سور القدس والمسجد الأقصى الشرقي، ولاصقه مصلى باب الرحمة الذي يتكون من بابي "التوبة" و"الرحمة"، اللذين يفضيان إلى قاعة كبيرة مقببة تحملها أعمدة رخامية.
ظل المصلى مفتوحا حتى العهد العباسي، ثم احتله الفرنجة وفتحوه في أيام عيد الفصح، وقدسوه زعما منهم أنه الباب الذي دخل منه السيد المسيح عليه الصلاة والسلام.
وبعد تحرير القدس أغلق القائد صلاح الدين الأيوبي الباب -لأغراض أمنية- وحوّل المصلى إلى مكان للصلاة، حتى الفترتين المملوكية والعثمانية، حيث اعتكف فيه الإمام أبي حامد الغزالي وألّف كتابه "إحياء علوم الدين"، ونشطت فيه المولوية المتصوفة.
انتكس المصلى وقل استخدامه في عهد الاحتلال البريطاني بسبب التضييقات على المصلين، ورغم ذلك فإنه ظل مفتوحا حتى العهد الأردني، ثم أُهمل تماما بعد الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى عام 1967.
لكنه في عام 1992 شهد انتعاشا لافتا استمر 11 عاما، بعدما اتخذته لجنة التراث الإسلامي مقرا لها ونشّطت فيها الفعاليات الدينية والاجتماعية، حتى حظرها الاحتلال مطلع عام 2003، واتخذ ذلك ذريعة لإغلاق المصلى بالكامل.
كسر القفل
منذ ذلك الحين، لم يفتح مصلى باب الرحمة أمام المصلين، لكنه استخدم كقاعات لعقد امتحانات مدارس الأقصى الشرعية، حتى جاء اليوم المشهود منتصف شهر فبراير/شباط 2019، حيث أقفل الاحتلال البوابة الحديدية المؤدية إلى درج حجري يوصل نحو مصلى باب الرحمة، وبرر ذلك بعقد الأوقاف الإسلامية اجتماعا داخل المصلى، وهنا احتشد بضعة مقدسيين وخلعوا قفل البوابة ومن ثم البوابة بأكملها.
وتلاحقت الأحداث بعدها وازدادت أعداد المصلين من القدس والداخل الفلسطيني الذين أدوا الصلوات الجماعية في محيط المصلى، واشتبكوا مع قوات الاحتلال ليلة الـ19 من الشهر ذاته ليصاب ويعتقل العشرات منهم.
توّجت الاعتصامات المكثفة التي استمرت بضعة أيام، بصلاة جمعة حاشدة أمّها الآلاف الذين اندفعوا بعد الصلاة نحو بابي المصلى، وفتحوهما عنوة برفقة بعض المرجعيات الدينية المقدسية، وصدحت التكبيرات والهتافات لأول مرة منذ 16 عاما داخل المصلى.
تضييق متواصل
بعد فتح المصلى بيوم، دأبت شرطة الاحتلال على اعتقال أي شخص يفتح مصلى باب الرحمة في الصباح الباكر، حيث بدأ الأمر باعتقال حراس المسجد الأقصى الذين يفتحونه، وإبعادهم لمدة تتراوح بين 4 و6 أشهر، ثم تطوّع المصلون لفتح الباب والمجازفة بالاعتقال والإبعاد، واستمرت تلك الحال لنحو 6 أشهر، تخللتها اقتحام شرطة وضباط الاحتلال المصلى بالأحذية، واعتقال المصلين من داخله والتضييق عليهم، ومنع إدخال مستلزمات المصلى، كما أصدرت محكمة إسرائيلية في يوليو/تموز 2020 قرارا بإعادة إغلاق المصلى، لكنه لم ينفذ.
لم يرمم قط
على مدار 3 سنوات حتى اليوم، استمر عناصر شرطة الاحتلال بدخول المصلى المفروش بأحذيتهم، كما نصبت الشرطة بؤرة مراقبة فوقه، وأخرى بجانبه على مدار الساعة. ويؤكد مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكسواني أن الاحتلال لم يسمح بترميم المصلى منذ فتحه حتى اليوم، وأنه بحاجة ملحة إلى الترميم الداخلي والخارجي، حيث يتسرب منه ماء المطر في كل شتاء مضاعفا الرطوبة ومؤذيا المصلين.
ويشير الكسواني، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن المصلى يحتاج أيضا إلى صيانة شبكة الكهرباء، وتصحيح الإضاءة وإزالة الكوابل الممتدة في أنحائه، إلى جانب إنشاء قنوات للماء في محيط المصلى حتى لا تثقل على السور، علما أن الطريق الجانبية الملاصقة للمصلى والسور الشرقي تعرضت مقاطع منها إلى هبوط في البلاطات ومستوى التربة.
جزء لا يتجزأ من الأقصى
علاوة على عرقلة دخول مواد الترميم إلى المسجد الأقصى، يتحكم الاحتلال الإسرائيلي بمخطط الترميم، ويشترط مثلا أن يغلق المصلى بالكامل أثناء ترميمه، الأمر الذي ترفضه دائرة الأوقاف الإسلامية، حسب الكسواني، الذي يقول "نحن في دائرة الأوقاف الإسلامية لا نعترف بقرارات الاحتلال، ولا نخضع لشروطه، ونفعل ما يناسبنا، ومهندسو الأوقاف مهرة وأدرى بعملهم، ومصلى باب الرحمة جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك".
ويضيف أن الأوقاف الإسلامية أدخلت سجّادا إلى المصلى منذ فتحه، ويتعهده سدنة الأقصى وحراسه بالتنظيف والحراسة على مدى الصلوات الخمس، لكن لم يُفرد له إمام خاص.
ويعلل الكسواني ذلك بأن الأوقاف تفرد أئمة لمصلى قبة الصخرة والقبلي فقط، أما باقي المصليات المسقوفة مثل البراق والمرواني والأقصى القديم وباب الرحمة فلا يشملها الأمر. يذكر أن المصلين يتطوعون للإمامة فيما بينهم لإعمار المصلى وحشد الأعداد فيه.
تزعجهم رفوف الأحذية
هنادي الحلواني مدرسة مقدسية وإحدى اللواتي تعرضن مرارا للاعتقال والإبعاد على خلفية ارتيادها مصلى باب الرحمة. تقول الحلواني للجزيرة نت إن الاحتلال يستهدف روّاد المصلى بالإبعاد والتهديد، ويفتش حقائبهم مانعا إدخال الطعام أو البالونات التي جلبت لتوزع على الأطفال داخله، كما يمنع وضع السواتر الخشبية التي تفصل صفوف الرجال والنساء أثناء الصلاة، وصادر مرارا رفوف الأحذية الخشبية على مداخله، الأمر الذي قلّل عدد رواده.
تربص جماعات الهيكل
يفوق مقتحمو المسجد شرطةَ الاحتلال تربصا بالمصلى، حيث ينضوون تحت ما يعرف باتحاد جماعات الهيكل المزعوم، ويقتحمون الأقصى قاصدين المنطقة الشرقية بجوار مصلى باب الرحمة، ويعلل أستاذ دراسات بيت المقدس عبد الله معروف بأن تلك الجماعات تؤمن بوجود دلالة دينية لباب الرحمة حيث سيدخل منه "المسيح المنتظر" في آخر الزمان، ويسعون لتحويل المصلى إلى كنيس، لكن فتحه الأخير بدد أحلامهم.
ويضيف معروف، متحدثا للجزيرة نت، أن المقتحمين يحاولون تغيير طبيعة المنطقة الشرقية بمساندة قوات الاحتلال ويكثفون صلواتهم فيها، لتمكين اقتطاعها من المسجد الأقصى، متوقعا أن تظل قضية باب الرحمة في الواجهة الفترة المقبلة بحكم الأخطار التي تحيق بها. لكنه يستبعد إعادة الاحتلال إغلاق المصلى تحسبا لردود فعل فلسطينية مماثلة للأعوام الماضية.