فتح موقعالمقاطع المصورة الصيني المعروف عالميا “تيك توك” بابا مثيرا حول تأثر الشباب بمضمون هذه النوعية من مواقع التواصل الاجتماعي سريعة الانتشار. وأنتجت العلاقة بينهما زهوا لدى فئات واسعة من الشباب والمراهقين، وخلقت مشاعر متناقضة بين المواهب الحقيقية القادرة على استمالة متابعين وتلك التي تفتقد الموهبة بشأن الوصول إلى الشهرة وتحقيق النجاح دون النظر إلى العديد من المعايير منها الشخصية والمكانة الاجتماعية.
فتيات يرقصن على أغان شعبية شهيرة، وشبان يعزفون ألحانا مختلفة ويغنون على موسيقى صاخبة، ومراهقون من الجنسين يصورن أنفسهم في أوضاع غريبة. كل ذلك يمكن أن تجده مع كبسة زر واحدة على تطبيق “تيك توك” الصيني الذي انتشر في أقل من عامين ليتنافس بقوة مع أكبر منصات التواصل الاجتماعي، وربما يهدد مكانتها لدى جمهور الشباب.
ولم يكن تطبيق مقاطع الفيديو المصورة “تيك توك”، في بداياته قضية مثيرة رغم النجاح الضخم الذي أحرزه خلال فترة وجيزة، لكن إقبال الشباب في العالم عليه وبصورة ملفتة، هو الأمر الذي فرض البحث عن تفسير لأسرار الجاذبية غير المسبوقة، خاصة لدى شباب المجتمعات العربية.
ويختلف الموقع الذي ظهر لأول مرة في عام 2017، في سهولة استخدامه، وعمله بشكل تلقائي وبسيط بعرض الملايين من الفيديوهات التي لا تزيد مدتها عن 15 ثانية، ويمكنوإبراز إعجابك بأي مقطع ليحصل على المزيد من المتابعين. وتبدو العملية مثيرة للانتباه، لأن غالبية رواده من الشباب الذين يتبارزون لجذب الجمهور. ويطالب القائمون على الفيديوهات بشكل صريح بدعمهم بعلامة إعجاب و.
وأصبح التطبيق أداة جديدة لدراسة سلوكيات الشباب، ولتسهيل محاولة اقتحام عالمهم الخاص بالنسبة للمسؤولين وأولياء الأمور الذين يصعب عليهم فهم ما يدور في عقول الشباب، وتتسع الفجوة باستمرار لتنتج أنماطا من السلوكيات غير الصحية، مثل تنامي الخلافات الأسرية الحادة والانخراط في السلوكيات العنيفة أو المنحرفة والتي يكون الشباب طرفا دائما فيها.
ويقول عزيز عبدالحميد، شاب في السنة الثانية بكلية التجارة بجامعة القاهرة، إن أسباب شغفه بتطبيق تيك توك، تكمن في أنه يتيح له التسلية ويساعده على إظهار مواهبه والاطلاع على مواهب أقرانه وقدراتهم.
وأضاف لـ”العرب” أن التطبيق ليس نوعا من مواقع التواصل، كما يروج البعض، لكنه منصة لاكتشاف المواهب الشبابية، “أحب العزف على الجيتار، ولا أجد من يسمعني أو يتبناني، ومع تحميل أول مقاطعي وأنا أعزف بآلتي الموسيقية، أصبح لي جمهور ينشر المقاطع وينتظر مني المزيد، ويشجعني على تصوير المزيد من الفيديوهات”.
ويتفق موقف عبدالحميد مع الكثير من الشبان الذين يتشاطرون الشعور ذاته معتبرين أن الجيل الأكبر منهم لا يقدر قدراتهم ولا يحترم أحيانا أحلامهم وطموحاتهم، بجانب غياب المنظمات والهيئات التي يمكن أن تستوعبهم وتستجيب لطموحاتهم.
منبر لا يخضع لقيود
يحلم غالبية الشباب بتحقيق أحلامهم بالنجاح السريع ودون بذل الكثير من الجهود، وغذت مواقع التواصل الاجتماعي عموما هذه الفكرة، بعد أن فتحت ساحة لتبادل الآراء والمواهب، ومساحة شاسعة للتعبير. وكانت سببا في اكتشاف مواهب حقيقية لم تحصل على فرصتها في الواقع، لكنها حملت أضرارا عندما أنتجت أنماطا مشوهة من الشباب الباحثين عن الشهرة بأي شكل حتى لو أخذت من قيمتهم ومظهرهم ومن نظرة الناس إليهم.
وأكدت الشابة أمينة رأفت لـ”العرب” وهي تستعد لتصوير مقطع جديد على “تيك توك” حول يوميات حياتها في مدرستها الثانوية، أن مقاطعها تحصل على الآلاف من المشاركات، لأنها تروي قصصا حقيقية من الحياة اليومية داخل المدارس بأسلوب هزلي.
وتابعت “أحلم بأن أكون مخرجة سينمائية، والتطبيق أعطاني الأدوات لأفعل ذلك، أنا أقوم بالتصوير واختيار الزوايا وأماكن التصوير، كذلك الممثلين في المقطع، ثم أقوم بعرضه على جمهوري”. وتمتلك أمينة أكثر من 400 ألف متابع على حسابها الشخصي على تطبيق تيك توك، وتعتبر نفسها من المشاهير، لأنها تقوم بما تحب.
وزاد الولع بانتشار تيك توك بين الشباب بعد مشاهدة العشرات من النماذج التي تمتلك شهرة واسعة رغم عدم امتلاكها مؤهلات فنية وعلمية، واستطاعوا كسب الأموال وجني الأرباح من عدد المشاهدات المرتفع لمقاطعهم.
ويبدو قطاع عريض من الشباب المستخدم للتطبيقات الجديدة في حالة نشوة وشغف كبيرين بعد أن وظفوا كل طاقاتهم الإبداعية لجذب الانتباه، مثل تصوير فيديوهات غير مفهومة، كتصوير إناء يحترق على موقد النار، أو شخص يلقي فراشه من الشرفة، أو فتاة تقوم بارتداء ملابس شبه عارية وترقص على نغمات مبتذلة وغيرها من الأمثلة.
ويعد الشابان، المصري علي غزلان، والسعودي عمر آل عوضة، اللذان لديهما الملايين من المتابعين على صفحات تيك توك ويوتيوب، من أبرز الأمثلة الدالة على انتشار هذه الظاهرة الشبابية. وأثار غزلان الرأي العام مؤخرا بسبب مؤلفه الصادر في معرض القاهرة الدولي للكتاب “مدمن نجاح”، بعد أن انتشرت صور لصفحات من كتابه تسخر من اللغة الركيكة والأسلوب الضعيف في الكتابة. مع ذلك، نجح غزلان في بيع الآلاف من النسخ من مؤلفه بفضل الدعاية على صفحته.
واعتبر أحمد علم الدين، أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان في جنوب القاهرة، أن ظاهرة نجاح أعمال ضعيفة بسبب شهرة أصحابها الوهمية أحد سلبيات التطبيقات الافتراضية الحرة وواسعة الانتشار ولكنها في نفس الوقت تقيم الدليل على اتساع الفجوة بين المجتمع والشباب.
وأوضح لـ”العرب” أن حالة غزلان مثلا لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، بسبب غياب القدوة أمام الشباب، وضيق مساحات التعبير عن الرأي في الفضاء العام، كالمسارح والمنتديات، لذلك استبدل الشباب المنصات الحقيقية بأخرى افتراضية، ووجدوا شعورا مزيفا بالنجاح.
وربط علم الدين الظواهر الشبابية الحالية أيضا بظهور العشرات من برامج المواهب الفنية والغنائية على الساحة العربية، والتي حفزت البحث عن الشهرة، وبدا الشبان يأملون في الحصول على قسط من الانتشار الذي يرونه عبر شاشات التلفاز.
ويمثل المراهقون شريحة كبيرة من رواد تطبيق تيك توك، وبحسب الشركة الصينية، يوجد في مصر 7 ملايين مشترك في الموقع، وكذلك أعداد هائلة من هذه الفئة في بقية الدول العربية. كما أن 70 في المئة منهم ينتمون إلى الشريحة العمرية ما بين 12 و18 سنة.
ملاذ للمراهقين
وأشار علم الدين إلى أن المسألة تبدو منطقية لأنه من سمات المراهقين العزلة والتمرد والجموح والبحث عن الذات، وكل ذلك متوفر في تيك توك، فالشاب يفضل الابتعاد عن الأسرة في مرحلة معينة من عمره ليتخلص من المراقبة والضوابط ويتسنى له البحث عن ذاته وتكوين شخصيته. وهو ما جعل تطبيقات مثل تيك توك تعتبر ملاذا للشباب بعيدا عن أعين أهاليهم.
ويحصل الشاب والفتاة على ميزة أخرى تتعلق بمساحة الحرية الكبيرة المتاحة في الفضاء الافتراضي عموما وفي هذه التطبيقات خصوصا، فهذا الفضاء الإلكتروني مفتوح لعرض الأفكار والآراء والمواهب بشكل مباشر، لكن تزداد المخاوف من هذه التطبيقات ليس فقط في المجتمعات العربية بل أيضا في المجتمعات الغربية، وهو ما أثارته العديد من الدراسات والبحوث العلمية المختصة.
وأرجع علم الدين، المختص في علم الاجتماع، هذه الظاهرة إلى أن الأسرة مسؤولة أكثر من الشاب عن الحماية من المخاطر التي تهدده في الفضاء الإلكتروني عموما وتصله أغلبها عبر تطبيقات مثل تيك توك كفضاء للتعبير، رافضا أن يتم حل المشكلة بمنع الشاب من تصفح الإنترنت، لأن كل ممنوع مرغوب، ونصح بتقليل الفجوة ومتابعة مواهب الشباب ودعمها وتوفير وقت ثابت بين الأب والأم للحوار مع أبنائهما، ومحاولة استيعاب طاقاتهم كمحور أساسي لحمايتهم.
إذا كان الشاب يبحث عن نجاح وهمي وزائف عبر منصات التواصل الاجتماعي، فمن المؤكد أن تلك المنصات حققت نجاحات منقطعة النظير على أكتاف هؤلاء.
ويقول أليكس زو، الشريك المؤسس والمدير التنفيذي لتطبيق تيك توك، إن فكرة التطبيق جاءته عندما كان في القطار، ورأى مجموعة من الشباب صغيري السن، نصفهم كان يستمع إلى الموسيقى، والنصف الآخر يلتقط صور سيلفي وفيديوهات ويغطونها بالملصقات، ثم يدعون أصدقاءهم لل، فراودته فكرة الدمج بين الموسيقى والفيديو والشبكات الاجتماعية في تطبيق واحد.
وتلعب التطبيقات الذكية خاصة منها التي تسمح للشاب بنشر مقاطع وصور عن مواهبه وقدراته دورا هاما في تمكينه من التغلغل في جميع الأنشطة الشبابية، وبقدر ما يتم انتقادها على أنها تساهم في تعميق عزلة الشاب عن محيطه الأسري والاجتماعي إلا أنها بذات القوة تدفعه نحو الانفتاح على الآخر ونحو إخراج طاقاته الابداعية والتعريف بها ونشر أفكاره، وهي بذلك تساهم في رسم وتبيان أبرز اتجاهات الشباب الجديدة وتؤثر فيها.
وقال محمود عباس، مهندس شاب يستخدم تطبيقات التواصل بكثافة، إن “تطبيقات مثل تيك توك ليست للتسلية أو سد الفراغ فحسب، لكنها أيضا تفصلني عن الواقع، وتقلل من شعوري بالتوتر اليومي وتلهيني ولو قليلا عن المشاكل في البيت والعمل”.
وأضاف لـ”العرب” أن مواقع التواصل تمتلك سحرا خاصا، وهي تتطور مع الوقت لتصبح أكثر جاذبية للشباب، حيث يتمكنون من خلالها من التعبير ليس فقط عن أرائهم وميولهم بل أيضا تساعدهم في التعريف بأنفسهم وبمواهبهم التي لم تجد طريقها للبروز في محيطهم الاجتماعي، فلا يمكن أن يمل هؤلاء الشبان التواقون للتعبير وللشهرة وللكسب وللتواصل من متابعتها بعد أن أصبحت جزءا أساسيا في حياتهم.