اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية -التي لم تكن متوقعة على ما يبدو- وضع تركيا في موقف لا تحسد عليه، فالدولتان المتحاربتان جارتاها في منطقة البحر الأسود، وتربطها بهما علاقات ومصالح مشتركة لا يمكن التضحية بأي منها أو غض الطرف عنها، الأمر الذي جعل المواقف المتشددة من جانب المسؤولين الأتراك مثار اهتمام وترقّب، فانحيازها لأحد أطراف هذه الأزمة على حساب الطرف الآخر يعني تلقائيا استعداء هذا الطرف، والتضحية بمصالحها معه، وهو أمر مستبعد في ظل سعيها الدائم لتحسين علاقاتها الدبلوماسية، وإنهاء خلافاتها السياسية مع أيّ دولة.
هذه السياسة تشير إلى أن التصريحات الحادة التي صدرت عن المسؤولين الأتراك تجاه التحرك العسكري الروسي ضد أوكرانيا، هي مجرد دعم معنوي للأخيرة التي تواجه موقفا شديد التعقيد ضد آلة عسكرية لا قبل لها بها، وأزمة إنسانية في غاية الصعوبة، دعم لن يترجم في أي وقت من الأوقات إلى فعل عملي على أرض الواقع، مثلها في ذلك مثل باقي دول حلف الناتو.
فليس من المتوقع أن تتخذ تركيا منحى أكثر حدة، يصطف بمقتضاه الأتراك إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا بصورة علنية واضحة. صحيح أنهم من خلال هذه التصريحات يدافعون عن حليف تربطهم به علاقات تاريخية وثقافية، ومصالح اقتصادية وتجارية يتخطى حجمها حوالي 8 مليارات دولار، وتعاون عسكري وصفقات أسلحة كان آخرها صفقة طائرات مسيرة استخدمتها كييف في حربها على الانفصاليين المدعومين سياسيا وعسكريا من موسكو في منطقة دونباس، إلى جانب وجود مجلس تعاون استراتيجي مشترك، ساهم منذ تشكيله عام 2013 في الارتقاء بمستوى العلاقات بينهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، ومع هذا فمن المتوقع ألا يتخطى الدعم التركي لأوكرانيا حدود الدعم الذي سبق أن قدمته تركيا لأذربيجان في حربها مع أرمينيا.
فأنقرة تدرك تماما أن لديها مع الجانب الآخر أيضا وهو روسيا تعاونا عسكريا وتجاريا، ومصالح مشتركة سياسية وتصنيعية، وأخرى في مجال الطاقة، إلى جانب الملفات المرتبطة بتشابكات الوضع بينهما في كل من سوريا وليبيا، وهي المصالح التي من شأنها أن تحكُم أو بالأحرى تقيِّد أي تحرك تركي باتجاه زيادة الدعم المقدم لأوكرانيا على الصعيدين العسكري واللوجستي.
وقد بدا ذلك واضحا في التصريح الذي أدلى به الرئيس أردوغان معلنا أن بلاده ستدعم كييف بكل ما أوتيت من قوة، لكنها لن تضحي بعلاقات التعاون القوية والمستقرة مع روسيا. ومن هذا المنطلق يمكن فهم الموقف التركي من الطلب الذي تقدمت به أوكرانيا رسميا بإغلاق المجال الجوي والمضائق البحرية التركية أمام روسيا، ومنع مرور السفن الروسية من مضيقَي البسفور الذي يربط البحر الأسود ببحر مرمرة، والدردنيل الذي يربط بحر مرمرة ببحر إيجه؛ إذ تدرك كييف أن 90% من المعدات العسكرية والغذاء والوقود ومواد الدعم اللوجيستي للجيش الروسي يتم نقلها بحريا عبر مضيق البسفور.
اعتذرت أنقرة عن عدم قدرتها على القيام بهذه الخطوة، نظرا لكون حرية الملاحة في المضايق المذكورة تكفلها بنود اتفاقية “مونترو”، التي تنظم حركة مرور السفن عبر مضيق البحر الأسود في حالتي السلم والحرب، والتي منحت تركيا الحق في إغلاق هذه الممرات البحرية وفق البند رقم “21” إذا كانت في حالة حرب، أما فيما دون ذلك فإن الاتفاقية تضمن المرور المجاني الحر الآمن للسفن، ولما كانت تركيا ليست طرفا في الحرب الدائرة حاليًّا فإنه لا يحق لها الإقدام على خطوة إغلاق المضايق.
وإذا كانت تركيا قد تجاهلت طلب أوكرانيا فرض عقوبات على جميع الأعمال التجارية والأنشطة المالية الروسية في تركيا، وأحجم مسؤولوها عن الخوض في هذا الأمر، لما في ذلك من خسائر ستنعكس على الاقتصاد التركي الذي يعاني أزمة خانقة، كما أن هذا يعني تلقائيا الدخول في عداء معلن مع روسيا، الأمر الذي من شأنه تعريض الكثير من المصالح التركية للخطر، في ظل اعتمادها لتأمين احتياجاتها من الغاز على الغاز الروسي بنسبة تتعدى أكثر من 40%، فإن المطالب الأوكرانية بتوفير آليات لتعزيز القدرات الدفاعية لقواتها، إلى جانب الدعم المالي والإنساني، قد وجدت ترحيبا من أنقرة.
فقد أبدت تركيا استعدادها التام للعمل على هذه المطالب، التي من شأنها تحقيق عدة أهداف استراتيجية لتركيا أيضا، ربما يكون أهمها وضع حد لتنامي نفوذ روسيا في البحر الأسود، والحفاظ على حقوق تتار القرم الذين تعتبرهم تركيا امتدادا عرقيا لها في شبه جزيرة القرم المحتلة من جانب روسيا، ومحاولة تحسين أوضاعهم المعيشية، وتخفيف حدة القمع والاضطهاد الذي يلاقونه تحت وطأة الاحتلال الروسي.
وهذا الأمر سيمنح الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية فرصة ذهبية لجذب أصوات القوميين الأتراك، التي سبق أن استولى عليها حزب الجيد في انتخابات 2018 من حزب الحركة القومية، بصفته مدافعًا عن القومية التركية والناطقين بلغتها في كل مكان.
وهو ما يبدو أن المعارضة التركية قد فطنت له، إذ سارعت لإعلان موقف موحد لها، مطالبة بضرورة مناقشة هذه الأزمة داخل الجمعية العامة للبرلمان، وقيام الحكومة بتوضيح موقف تركيا منها، فقد دعت أحزاب الشعب الجمهوري، والجيد، والسعادة، والديمقراطي، والمستقبل إلى عقد اجتماع عاجل لأعضاء مجلس الشؤون الخارجية بالبرلمان، مع التشديد على ضرورة التقيد الحازم باتفاقية مونترو الخاصة بتنظيم المرور في المضايق، والتأكيد على الالتزام التركي ببنود القانون الدولي في تعاملها مع ما يختص بالمضايق، وعدم الاندفاع في تأييد طرف على حساب آخر لما لذلك من تداعيات خطيرة على تركيا.