يعد “متحف الأسلحة” في مدينة فاس من أهم المزارات السياحية بالعاصمة العلمية، إذ يقصده أزيد من 40 ألف شخص سنويا، ويعود تاريخ تشييد صرحه، المعروف في كتب التاريخ ببرج النار، إلى ما قبل خمسة قرون.
وكان المتحف عبارة عن أحد الأبراج التي تحرس مدينة فاس، في العهد القديم، من هجومات الأعداء، قبل ترميمه وتحويله إلى متحف خاص بالأسلحة سنة 1963، بعدد محدود من القطع المعروضة، ليصبح، اليوم، محتضنا حوالي 8000 قطعة سلاح متحفية من 35 دولة، إضافة إلى المغرب.
تم ترتيب قاعات العرض داخل متحف الأسلحة بفاس باحترام التسلسل الكرنولوجي لظهور واستعمال مختلف أنواع الأسلحة، وخصصت كل قاعة من قاعاته، البالغ عددها 13 قاعة مستغلة، لعرض مختلف الأسلحة التي ميزت كل حقبة زمنية على حدة، بدءا بالأسلحة البيضاء، مرورا بالأسلحة التي استعملت أول نظام لإطلاق النار في التاريخ، ووصولا إلى الأسلحة النارية الأوتوماتيكية.
نفائس لا تقدر بثمن
يزخر متحف السلاح في فاس بقطع حربية تعود إلى مختلف دول العالم، من أسلحة ومخطوطات وصور ووثائق، لا تقدر قيمتها بثمن، من بينها بعض الهبات من بعثات أجنبية، ضمنها هدية من “وي يوغو أتموداري مونت”، أحد حكام جاكرتا بإندونيسيا، وهي عبارة عن سيف يسمى “كريس”.
غير أن عددا كبيرا من التحف المحفوظة بالمتحف تعود إلى مصنع السلاح بفاس، الذي يعرف باسم “الماكينة”، الكائن بجوار ساحة باب الماكينة التي تحتضن فعاليات مهرجان فاس للموسيقى الروحية والمهرجان الدولي للثقافة الأمازيغية.
كما تم جلب تحف أخرى من متحف البطحاء بالمدينة ذاتها؛ فيما كان الراحل الحسن الثاني وضع رهن إشارة هذه المعلمة عدة قطع قديمة تعود للحرس الملكي، فضلا عن مجموعة من القطع الأخرى تطوع مغاربة لتزويد المتحف بها.
ولمختلف القطع، التي يختزنها متحف الأسلحة بفاس، قيمة تاريخية وأثرية وإثنوغرافية وتقنية بالغة الأهمية، فهي تؤرخ لحقب زمنية مهمة، تبتدئ من العصور القديمة لتصل بالزائر إلى بداية القرن العشرين، وتمكنه من اكتشاف مختلف أشكال الأسلحة وتوطورها عبر العصور، فمنها ما هو مصنوع من الحجر أو العظام، وما هو مصنوع من المعادن، كالبرونز والذهب والفضة.
سيوف ونبال
خصصت القاعة الأولى لسرد تاريخ استعمال الأسلحة البيضاء؛ وذلك بعرض عدة قطع منها على أنظار الزوار؛ وتظهر أن السيوف في بداية القرون الوسطى كانت ذات نصول مستقيمة وصغيرة وحادة من الجهتين (سيف ذو حدين)، وتتوفر على واقيات يد أفقية بسيطة، إلا أنها خلال القرنيين 13 و14 عرفت عدة تغييرات بغية الحصول على مقابض توفر حماية أفضل لليد خلال المبارزة.
وابتداء من القرن 15 أدى تطور التروس المعدنية، التي أضحت تغطي كل الجسد، إلى استعمال أسلحة بيضاء أشد فعالية لخرق هذه الواقيات، من نبال متعددة الشفرات والأسنة. كما تم تطوير سيوف طويلة ثقيلة وذات واقيات يد معقدة، تمسك باليدين معا.
ويمكن للزائر أن يطلع في هذه القاعة أيضا على سيف إيطالي من القرن 15، وبلطة وسيف إيطاليين من القرن 16، ودبوس من البلد نفسه من القرن 17.
وقبل أن ينتقل الزائر إلى عمق المتحف ليكتشف باقي معروضاته من أسلحة نارية وغيرها، عليه أن يتوقف بالغرفة 3 أمام صفحة من المخطوط الإسباني “أتتيكواس دي ألفنصو ساخ”، الذي يعود إلى حوالي سنة 1250 هـ، ويمكن من إجراء مقارنة بين أسلحة الجيش الموحدي (المغربي) والجيش الإسباني (الأوربي): الجيش الموحدي مكون أساسا من فرقة خيالة خفيفة تشكل الدروع الجلدية الملونة (الدركة) والسهام الطويلة أسلحتها الأساسية، أما خيالة الإسبان فمدرعة بخوذات وتروس ودروع معدنية وتهاجم بواسطة سيوف، كما يتضح من خلال بعض المصادر والنقوش.
وحسب توضيحات المتحف، فإن الجيشين الموحدي والمرابطي (القرن 11 و12 و13) كانا يتكونان من فرق خيالة خفيفة وسريعة الحركة، يتشكل سلاحها أساسا من دروع جلدية ونبال طويلة، تنضاف إليها السيوف المعقوفة (النمش)، والسيوف المستقيمة والقصيرة (سيولة). وظل المغرب ملازما لهذا النوع من الأسلحة البيضاء لقرون عديدة.
وتوضح وثائق المتحف أنه تم تأسيس مصانع للأسلحة البيضاء في عدة مدن مغربية منذ سنة 1160 م، على عهد السلطان المومن الموحدي. وخلال القرن 15 كانت مصانع الأسلحة بفاس مشتهرة بصناعة الدروع والسيوف والأربليط.. وترجع بعض السيوف المعروضة بالمتحف إلى عهد السعديين.
“ظل المغرب إلى غاية نهاية القرن 19 وفيا لأسلحته البيضاء ذات الطابع المحلي، من سيوف وخناجر ورماح ونبال. وقد كان لسيف النمشا تأثير واضح على بعض السيوف الأروبية الفرنسية والإيطالية، ومنها على سبيل المثال السيوف الخاصة بضباط النابليوني”، حسب ما تذكره يافطة كتبت بباب القاعة 3، والتي تذكر أن بقية أرجاء العالم الإسلامي غلب عليها الطابع العثماني والفارسي.. وكانت أكثر الأسلحة البيضاء تداولا بها، إلى غاية نهاية القرن 19، سيوف “الياطغان” و”القليج” وخناجر “الجامبيا” التركية، وكذا سيوف “الشمشير” الإيرانية.
مدافع وبنادق ومسدسات
قبل ولوج باب المتحف تطالع الزائر بعض القطع الحربية الثقيلة، أهمها المدفع المغربي السعدي الضخم المسمى “الميمونة”، ومدفع سويدي مهدى من طرف ملك السويد “كوسطاف الثاني”، والمدفع المغربي “نفط” الذي يعود إلى سنة 1571، وهو مدفع برونزي يزن 12 طنا، تم العثور عليه نواحي العرائش، ويرجح أن يكون استعمل في معركة وادي المخازن سنة 1578.
داخل المتحف، تؤرخ الغرفة 5 لأول استعمال للأسلحة النارية لأغراض عسكرية في تاريخ البشرية، وكان ذلك خلال القرن 14، وتجلى في اختراع المدافع.. بعد ذلك، تم تطوير هذه الصناعة لصنع أسلحة نارية خفيفة وفردية، وهكذا ظهرت البندقية ذات الفتيلة خلال القرن 15..إلا أن هذا النظام الأولي، حسب التوضيحات المكتوبة في لوحة بقاعة العرض، كان يعرف بعض النقائص، من بينها بطء نظام إطلاق النار والاحتراق السريع للفتيلة وضرورة وضع البندقية على ركيزة نظرا لثقلها.
لكن خلال القرن 16 تم التغلب على بعض هذه المشاكل، إذ تم اختراع الصفيحة الآلية ذات الحلقة الأسطوانية، إضافة إلى الرصاصة والمسدس، ومنذ ذلك الحين أصبح للأسلحة النارية الفردية، وخاصة بنادق “الأركبوز”، دور هام في المعارك، وبدأت الجيوش تتبنى طرقا مرنة في المواجهات الحربية، وتتخلى تدريجيا عن أنظمة الصفوف الضيقة.
وفي ما يخص المغرب تدل المصادر، حسب المتحف، على أن أول استعمال للبنادق ذات فتيلة الإطلاق يعود إلى سنة 1517. كما ورد في بعض المصادر أن السلطان أحمد الوطاسي أمر بإنشاء مصنع سلاح لصنع البنادق بفاس الجديد سنة 1535.
وتشير الغرفة 6 إلى أن النقلة النوعية التي عرفتها صناعة الأسلحة النارية، إثر اختراع الصفيحة الآلية ذات الصوان، تعود إلى نهاية القرن 16. وقد أدى هذا الاكتشاف إلى حصول تغيير جذري في صناعة الأسلحة النارية، ما أدى خلال القرن 17 إلى انتشار واسع للبنادق، التي تم استعمالها من طرف جميع الجيوش النظامية.
ونتيجة لذلك أخذ المسدس مكانة هامة في الميادين الحربية، وأصبح هذا السلاح الخفيف متداولا على نطاق واسع، وهو الذي يمكن استعماله بيد واحدة. وحلت البندقية، بالنسبة للمشاة، محل النبال، وحل المسدس، بالنسبة للخيالة، محل القوس والسهام.
السلاح الناري الأوتوماتيكي
تطورت أنظمة الشحن بشكل ملفت خلال القرن 19، إذ تم تطوير الخرتوشات واختراع الرصاص، ولعل أهم إنجاز تم ابتكاره في هذا الإطار هو نظام الشحن من المؤخرة بدل الفوهة، كما يظهر من التحف التي تؤرخ لهذه الحقبة والمعروضة بـرواق المتحف، فتنقلنا بسرعة إلى مرحلة أول ظهور للأسلحة الأوتوماتيكية سنة 1880، والتي تم تطويرها بعد الحرب العالمية الأولى.
ونتج عن تطور صناعات الخرتوشات والرصاص ابتكار أنظمة شحن سريعة، وظهر نظام الشحن العمودي عوض الأفقي؛ وهو ما تنقلنا إليه الغرفة 11 داخل المتحف؛ والتي يمكن للزائر أن يتعرف من خلالها على الأسلحة النارية ذات الطلقات المتكررة (الريفولفار).
وقد أدى ابتكار نظام القدح إلى ثورة في الأسلحة النارية؛ وذلك بصناعة المسدس ذو برميل الإطلاق، أو الريفولفار، سنة 1847. وتمكنت مصانع “كولط” الأمريكية، حسب وثيقة تفسيرية مثبتة أمام رزمة من المسدسات معروضة بالمتحف، ولأول مرة في التاريخ، من إنتاج مسدسات من هذا النوع بطريقة ميكانيكية وبواسطة قطع غيار قابلة للتجديد.
“الماكينة” تصنع أسلحة المغرب
في ظل تبعية المغرب لأوروبا في ميدان التسلح خلال القرن 19، كانت الأسلحة المستوردة غالبا ما تكون متجاوزة وباهظة الثمن، وفي ظل هذه الظروف، وفي إطار الإصلاحات العسكرية التي باشرها المولى الحسن الأول، أواخر هذا القرن، تم إنشاء مصانع محلية للأسلحة بالمغرب، أهمها مصنع “الماكينة” بفاس، الذي خصصت لأسلحته داخل متحف الأسلحة بفاس غرفة كاملة، وهي الغرفة رقم 13، التي تزخر بنماذج مما أنتجته “الماكينة” المغربية من أسلحة وبعض الوسائل التي كانت تستخدم في التصنيع.
ورغم صعوبات عديدة في الإنتاج، تمكن هذا المصنع الذي أسس بتأطير تقني من إيطاليا، من إنتاج مجموعة من البنادق من نوع “بوحفرة” (مارتيني)، وقطع غيار وخرتوشات وبارود وبعض المدافع.. إلا أن وتيرة الإنتاج، حسب وثيقة توضيحية مثبتة بهذا الرواق، ظلت ضعيفة وغير مستقرة نظرا للظروف التي كان يعيشها المغرب قبيل الاستعمار.
وبالغرفة المخصصة لأسلحة “الماكينة” يمكن للزائر أن يكتشف بندقية بحرية من نوع مارتيني (بوحفرة) ذات نظام إطلاق النار عبر موقد وكبسولة متفجرة، وشحن من المؤخرة بكتلة متحركة؛ كما يمكنه اكتشاف مدفع ذي جوف مخدد نازع الرصاصات المفرغة، مزود بمرفاع التصويب.
يشار إلى أن المغاربة دأبوا على تنميق البنادق، كما يظهر من خلال عدد من القطع المعروضة بالمتحف، بما فيها المستوردة، بزخارف مغربية جميلة، غالبا ما كانت تستعمل للزينة، وهو ما تطلعنا عليه الغرفة رقم 12 بمتحف الأسلحة بفاس، وهي الغرفة التي خصصت للأسلحة المغربية التقليدية المستعملة في مظاهر الزينة والمفاخرة، من أسلحة بيضاء ونارية، والتي لعبت، بالإضافة إلى وظيفتها الدفاعية، دورا ثقافيا واجتماعيا مهما، فهي غنية بزخارفها ونقوشها، سواء تعلق الأمر بالسيوف أو الخناجر أو علب البارود، فضلا عن الأسلحة النارية، من بنادق على الخصوص، والتي لازالت حاضرة في الفروسية التقليدية المغربية كموروث ثقافي متجذر في التاريخ.