رواية بقع زرقاء لـ حاتم رضوان

  • زمن:May 06
  • مكتوبة : smartwearsonline
  • فئة:شرط

رواية بقع زرقاء لـ حاتم رضوان

إهداءإلى: دينا نبيل:تحملتني كثيرا ومازالت.

ماذا لو أخذتكَ سِنةٌالنوموماذا لو حلمتَ أنك ترتقيفي السماءإلى مكان عالٍ به جنة من الزهوروماذا لو قطفتَ منها زهرةًثم استيقظتَ من نومكلتجدَ الزهرةَ بين يديك !!كوليريدج

بلغني أن أرواح الأحياء والموتىتلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم،فيمسك الله أرواح الموتى،ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

ـهنا يا أفندم.أودعتُ عدداً من الجنيهات في يد السائق ونزلتُ. صدمتني رائحة غريبة. مددت أنفي، أتشممها. أتعرف عليها. مزيج من روائح لأعشاب بحرية، أسماك ميتة، أخشاب محترقة،حيوانات نافقة.لا أستطيع التمييز بدقة.دسست يدي في جيبي. أخرجت ورقة. فردتها. قرأت العنوان. درت بعينيَّ، أستطلع المكان. ألتقط أي لافتة، تحمل اسماً أو رقماً، لميدان، شارع، حارة، أو زقاق، لم أجد غير بنايات قديمة تحيط بي، أمام بواباتها حوائط من الطوب الأحمر، وأجولة مرصوصة من الرمال.رفعت رأسي نحو شرفاتها الخشبية، وشبابيكها العالية. لم ألمح أياً منها مفتوحًا.تسارعت دقات قلبي،ولفني السكون. لا شيءهنا إلا السكون. فركتُ كل يد بالأخرى. أطرافي مثلجة، وأسناني يصطك بعضها ببعض.لأول مرة أدرك العلاقة بين السكون والبرودة.رددتُ داخلي: لو اسمع صوتًا، نباح كلب ضآل، مواء قط، نقنقة ضفدع، أي صوت. الصوت يعني لي الحركة، الحياة، الدفء، الطمأنينة، الصوت عندي مرادف للوجود، نقيض للموت والعدم.قررت العودة.رفعت يدي، لأستوقف أي سيارة أجرة. كان الشارع المسفلت خاليًا منها، أو من أي سيارات أخرى. أين المارة ؟!! الوقت مبكر. الليل لم يأت بعد. شمس الغروب البنفسجية معلقة في طرف السماء، تطل ـ مازالت ـ من خلف رأسي. لا اختيار. عليَّ البحث عن مرشد، علامة، إشارة ما، صوت خافت، باب مفتوح، نافذة مواربة، كشك سجائر، محل يعرض بضاعته، قهوة ترص كراسيها على الرصيف المقابل.مررت على البوابات المستترة خلف حوائط الطوب الأحمر، وأجولة الرمال، طرقتها بكل ما أوتيت من قوة، دون أن تأتيني أي استجابة، جميعها مغلقة بجنازير، وأقفال حديدية.صرخت مرتاعًا، لم أسمع لصرختي صوتاً أو صدى.هل أصابني الصمم ؟! واصلت السير، أنحني مع الشارع الخالي يمينًا ويسارًا. تسلمني الشوارع المتداخلة ـ أشبه ما تكون بمتاهة ـ من شارع إلى شارع، فحارة، فزقاق. أجده مسدودًا، أغير اتجاهي. أعيد الكرة، لأنتهي إلى نفس النهاية، زقاق سد. عليَّ أن أفك لعبكة هذه الشوارع المشتبكة، والعودة لنقطة البداية.الشوارع بلا أسماء. البيوت بلا أرقام. المحلات بلا لافتات. من هذا السائق اللعين الذي رماني هنا؟ وتركني وحيداً، تائهاً، أواجه الصمت، والبرودة، وهذا الليل الزاحف. أي قدر مجهول يتربص بي؟زكمت أنفي الرائحة المتصاعدة، حملها الهواء البارد إليَّ من جديد. ليس هنا غير الرائحة. اندفعت وراءها. أتتبعها.من أين تأتي؟ ما مصدرها؟ تحسست خطاي. اختفى وهج الشمس. سقطت خلف البنايات القديمة. أخوض في عتمة الطريق. بوصلتي هذه الرائحة التي تنتشر حولي.سرت بقدمين مثقلتين، مشدودتين إلى الأرض، أجرجرهما وكأنهما مغروزتان في وحل لزج. اتسعت حدقتا عينيَّ على سماء سوداء بلا قمر، أو نجوم. مددت يدي كأعمى يتجنب الاصطدام بحائط، أو عابر. تساقطت من وجهي حبات العرق غزيرة، وفجأة تسمرت مكاني. استنزفت كل ما لديَّ من قوة، وكأن شللًا سرى في أوصالي. بركت ــــــــــ كجمل منهك ـــــــــــ على أرض الرصيف الرطبة. تكورت على نفسي، واضعًا رأسي فوق ركبتيَّ، كجنين في رحم أمه.حاولت أن أدفع الأفكار السوداء التي أخذت تتوارد إلي عقلي. أن أفكر في اللاشيء. الهواء المشبع بالرائحة يزداد برودة، يتسرب إلى عظامي، ينخر كالسوس فيها، وأنا لا حول لي أو قوة. لا أستطيع أن أدفعه، وليس لديَّ شئ أتدثر به سوى بدلة بيضاء وقميص أبيض، أرتديهما بلا رابطة عنق. أقسمت ألا ألفَّها حول عنقي، يوم رأيت صديقي القديم: عمرو أبو العيون، معلقًا بها في سقف غرفته، يميل رأسه المحتقن بالزرقة إلى جانب، وقد تدلى لسانه من فمه المفتوح. وضعت يديَّ تحت إبطيَّ، أدفئهما، وجلست أنتظر.هل توقفت دقات قلبي؟ هل غفوت؟ التقطت صوتًا يأتي من بعيد. غناء حزين، بكاء مكتوم، أنينموجع.هببت واقفًا، فرِحًا كأصم برأ من صممه. انقشعت السحب السوداء. ومضتْ النجوم المختفية خلفها في السماء. انطلقت أبحث عن الصوت. صوت من؟ اختلطت عليَّ نبرته. هل كان لطفلة، رجل، أم أنثى؟ تائه مثلي، قذف به ربما نفس السائق المجنون، ومضي ليأتي بضحية جديدة، حبيس يئن وراء إحدى البوابات الحديدية ذات الجنازير والأقفال، أم أنه لروح هائمة، تتوق أن تستقر؟ هُيأ لي أنني أعرف هذا الصوت. طابقته بأصوات من أعرفهم. صوت صديقي الذي مات مشنوقًا. صوت أبي الذي خطفه الموت في بلد غريب، ولم ألقِ عليه نظرة وداع. زميلي في الكلية ـ طارق فراج ـ الذي مات بالليوكيميا، متكورًا فوق سرير مهمل في عنبر كبير بالقصر العيني. تختلط في عقلي أصداء الموتى. ربما كان صوت نور الذي لم تسمعه أذناي من قبل، أوأنه صوت أختي الصغيرة” حُب ” ذي اللثغة المميزةوالمحببة إليَّ.مشيت أتنصت على الأبواب والجدران. أحدق على ضوء النجوم الخافت في الشبابيك المغلقة. أفتش ولو عن شعاع، يتسلل من خلف شيشها. لعنت اليوم الذي جاء بي إلى هنا. صوت سرابي كلما أحسست أنني أقترب من مصدره، يفلت من أذنيَّ، يخفت، يبتعد، يختفي، ثم يأتي من جديد وكأنه ينبع من باطن الأرض، أو من بئر سحيق.صوت، أموهم؟ بنايات، أم زنازين، أم قبور؟اعتصرت عينيَّ. دهمهما نور مفاجئ. فتحتهما. الرؤى مشوشة. دائرتان من ضوء أصفر تتدليان من السقف، وجسدي المثلج ممدد تحتهما. تسآءلت وسط أناتي الضعيفة: من أين يأتي كل هذا الألم؟ وشعرت بيد ناعمة تضغط يدي الحرة، وصوت رقيق يهتف بي: حمدالله على السلامة.**********

يدا الألم الغليظتين تتسللان كأفعى ملساء، تلتفان حول ساقي وقدمي المهشمتين، تعتصرهما بقسوتها المعهودة، يبث فحيحهاالسم في عروقي، فتدور رأسي المليئة بالجروح، والكدمات، تصيبني بصدمة مفاجئة، تتراقص على آثارها الأشياء أمامي، تترنح، يُغْشَى عليَّ، تبتعد المرئيات، وتقترب، تبين لي جلية، يبزغن من ضباب الذاكرة، أعاين وجوههن.السحب السوداء الكثيفة تحتل السماء صباح ذلك اليوم الشتوي الموغل في النأي،أتين فيه دونها، يلبسن السواد، وكنت من زمن بعيد ـ لا أذكر مداه ـ لم ألتقِ بهن. يسكنَّ المدينة البعيدة. أسمع القطار، طالقًا صافرته عاليًا، وهو يرسو في المحطة القريبة من بيتنا، قادمًا منها مرات كل يوم. تمنيت أن أذهب إليهن. أزورهن. أرى وجوههن التي تعبتُ في استدعاء ملامحها، وكنت لعدم مجيئهن، أظن أنهن يسكنَّ أبعد من المريخ.كان يأتيبمفرده ـدونهن لرؤية جدتي في المناسباتوالأعياد. يحمل إلينا صينية البسبوسة باللوز. كنت أفرح بها، وأجري إليه. أسأله عنها. يرد: عروستك في الحفظ والصون.ويدس في يدي ورقة نقود جديدة: عيديتك.أقول له: عندما أكبر سوف أصبح طيارًا مثلك .. وسوف آخذها معي .. ونلف على كل بلاد العالم.كان يأتيـ أيضًا ـ دون ابطاءفي الأفراح والمآتم.يقدم الواجب سريعًا، ويمضي سريعًا. يتعلل بمشاغله، ووقته الذي لا يملكه.أتى إلينا الخبر الذي لم أستوعبه، وأتين دونها.نظرت إلي وجهي في المرآة. لم أجد عليه أي أثر لنبأ موتها. كان جامدًا،وحياديًا.لماذا تأبى عيناي أن تدمعا؟الموت يعنيعندي السفر. عندما كنت أسأل أمي عن غائب، لم يعد. تقول لي: سافر. فجدي “عبد الله”، وخالي “علي”، وجارنا الطيب، وجدتي زرقاء العينين، سافروا جميعًا، وسوف نراهم يومًاما.المرة الأولى التي أدركت فيها معنى الفقد، كان موت أختي الصغيرة “حُب”. انشقت السماء عن طاقة من نور. تركتنا، وصعدت روحها البريئة.بكيت، كأنني لم أبكِ من قبل، أو بعد. واليوم تعاندني الدموع.أربعة بنات ونور خامستهم. أتين الأربعة، وسافرت نور.مكثن معناـ أنا وأختيَّ هيام وغرامبمنزلنا، ولم نذهب إلى المقابر. وكأننا على اتفاق تناسينا ما يجري على الناحية الأخرى. تكلمنا، وفضفضنا، وحكينا. ألقيت عليهن ما كنت أكتبه من خواطر، أدعوها شعرًا.خرجنا.مشينا بحذاء الكورنيش الخالي من الناس، وكان يومًا شتويًادافئًا.أفرغت فيه السماء لتوها سحبها المثقلة بالماء والأتربة.كم أحب رائحة الهواء بعد المطر !!صفا صدري، وصفا الجو، ورأيتها محمولة فوق الأيدي، تخرج من النعش، تطير بخفة فوق الرؤوس المشرئبة،وقد نبت لها من ذراعيها جناحان. تحولت إلى حمامة بيضاء. رفرفت عاليًافي السماء الصافية.غابت بعيدًا وراء الأفق البنفسجي.سوف يتعجب المشيعون، ويخبطون أكفهم ببعضها، عندما يفتحون النعش عند قبرها، ولا يجدونها. روحها الجميلة التي أحببتها لن يحيطها كفن، ولن يحدها قبر.سد أذنيَّ صوت بوق السيارة العالي. التفتُ. كانت سيارة الدورية تكاد تلامس كتفي، وسمعت لغطالمخبرين ببلاطيهم الصفراء المعتادة، يتلمزون علينا.ماذا ينوون؟ رفعت عيني إلى عيونهم. صوبتها تجاههم، وكأن نظراتهم، أو كلامهم لا يعنيني. حلت بي طمأنينة، وسكينة. لم أكن خائفًا. سكتوا، واندفع السائق مسرعًا، ليرتفع رذاذ ماء المطر المتجمع في برك صغيرة على الطريق الأسفلتي، يطول بنطالي الصوف. أغضب، وأكتم السباب داخلي. يضحكن علىَّ رغم حزنهن، ويقلن: هيا بنا نرجع.

**********

في نوبات غيبوبتي المتكررة تهبط نور من سمائها إليَّ كحلم مخاتل، تدركني بطيبة روحها الوادعة، ولا أدركها، تنظر نحو عينيَّ الدامعتين، فتنفذ نظرتها الحنونة إلى أعماقي، تريح قلبي المنهك من سطوة الذكريات المحتشدة بالحزن، والآلام.لم تسمح لي ذاكرة الطفولة البعيدة أن أسترجع بدقة ملامحها المشوشة. المرات القليلة، وتباعد الزمن، كانا حائلًا دون ذلك. كل ما أحتفظ به لهاقصاصتان، وصورة فوتوغرافية. القصاصة الأولى من صفحة الرياضةبجريدة الجمهورية بها صورة باهتة الطباعة، ممسوحة الملامح، مدون تحتها خبر فوزها، والأخرى بهاعدد من السطور تنعي وفاتها بالصفحة قبل الأخيرة بجريدة الأهرام،أما الصورةالتي أحملها دومًا بحافظة نقودي، فهي كارت صغير أبيض في أسود.كانت طفلة لم تتجاوز السادسة، تلبس فستانًا قصيرًا، بلا أكتاف، وتقف إلى جوار أخواتها.كانت تضحك، ويبين فراغ أسود مكان سنتها المخلوعة.كل ما أذكره من كلمات أمي عنها: كانت أجملهن.عشت في انتظار دائم.أسمع صوت القطار، فأتخيلها قادمة.فتاة صغيرة، جميلة، تمتلئ بحب الحياة، والمرح.تمسك بيد خالي الخالية. أسمع دبيب خطواتها الراقصة على السلم. تصلنيطرقات يدها الصغيرة،الواهنة بالباب.أفتح لها. أستقبلها بفرح طفولي،ونلعب معا بنك السعادة، والكوتشينة، والليدو، والسلم والثعبان.أحكي لها عن أحوالي في المدرسة.تفوقي في الرياضيات، وحبي للرسم، والموسيقى، وخطبي في الإذاعة. أقص عليها مغامراتي في مزارع الموز، أضيف إليها من خيالي، حكايات عن الجان، والعفاريت، ومعارك وهمية مع أولاد سيئين، أسقطهم على الأرض بضربة من سيف يدي، أو بمقص في الهواء،سوفأجعل من نفسي بطلًا في عينيها.نجلس في الدور العلوي بنادي التجديف.نتابع القوارب الرائحة، والغادية، ونراقب الصيادين، يلملمون شباكهم الممتلئة بالسمك.نستمتع بمنظر الشمس الغاربة، تسقط على الضفة الأخرى، خلف الأشجار، والنخيل، والخضرة المنبسطة. أقرأ عليها قصائدي التي كتبتها فيها، فألمح عينيها الزرقاوين، تنظران لأسفل، لاترتفعان عن المائدة بيننا، وأرى خديها الأملسين، يضيئان بحمرة الخجل.تعمدت عدم الذهاب، وعبور الكوبري الحديدي إلى الضفة الأخرى.قدماي خائرتان، لا تقويان علي المشي في جنازتها.لن ألقي عليها نظرة وداع أخيرة.قلبي الأخضر، الصغير، المريض بعشقها، أصابه الوهن. لا يقدر على المواجهة.كنت أقشعر، ويرتجف جسدي، وترتطم أسناني ببعضها، كلما تخيلتها ـوهي ـ تسقط من أعلى الشرفة. أتناسى خبر موتها، وأقول: سافرت هناكوسوف تعود!!! مازلتُ أنتظر عودتها، وسوف أظل.تغيب لسنوات في المدينة البعيدة،تهاجر وراء البحر أو المحيط،ترحل وراء هذا العالم الكبير.ما الفارق؟اشتقت إليها بعد مرور سنوات العمر، وتبدل الحال من حال لحال. لم يشفع لي شعري الأبيض، وتجاربي المريرة التي مرت بي في النسيان. رحيلها الغامض شدني إلى فرشاتي واللوحة البيضاء.كنت أمسك بومضة عبرت بخيالي. لحظة فائتة مرت، ولن تعود.أوقفتُ عندها الزمن. أستحضرها على قماشي المشدود. أتأملها من جديد. أعيد اكتشافها، وصياغتها بفرشاتي، والألوان، لتكتسب لونًا، وطعمًا، ورائحة. استمتع بموسيقى ألوانها الصامتة، وانسجامها المطلق.أستمع إلى الحوارات الدائرة بيننا بشغف.أستدعي كلمات صديقي ـ الروائي المعروف ـ متعدد المواهب: ما لا أستطيع التعبير عنه بالكتابة أعبر عنه بالرسم.أحاول أن أرسم صورتها.ستواجه اللوحة في منظر جانبي.أعيد تكوين تفاصيل وجهها. بالتأكيد سيكون ملائكيًا، أبيض. عينان مثل عيني جدتي رائقتا الزرقة. شعرها البني الفاتح ينسدل مموجًا حتى منتصف الظهر. الحنين وحده ـيحرك أصابعي.ترسم في الخلفية شمس ذلك اليوم المنطفئة. تلقي بنفسجها على صفحة مياه النهر. يومًا ما ستكتمل اللوحة، وسوف أتكلم إليها. سأعيد عليها السؤال، الذي يتردد داخلي حائرًا بلا جواب:لماذا رحلتِ … وتركتيني وحيداً؟

**********

مددت يدي، أصافحها، أتحسس لدونة كفها البض، ونعومة بشرتها. قبضتْ يدي على الهواء. المرة الأولى التي وعيت عليها، كانت في اللاوعي. تشكلت صورتها، وانطبعت داخلي. رسمتها بعقلي، قبل أن أهم برسمها بأناملي فوق القماش المشدود داخل الإطار الخشبي.التقيتها هناك في عالم قصي، خارج الزمان، والمكان، ورغم أننا لم نلتقِمن قبل على الإطلاق، كانت قائمة دومًا في حياتي. أستحضرها في كل خطوة، أتقدمها،وفي كل قرار أهمُباتخاذه.كانت كل معرفتي بها كلمات جمعتها من هنا، أو هناك.حكايات جدتي ـ رحمها الله، أحاديث أمي عنها، الشائعات التي انطلقت عليها في جلسات النميمة، تمسها في رواية أو أخرى، وكذا بعض أسرارها التي كانت تتكشف لي ـ مصادفة ـ على مر السنين، وما وقع تحت يدي من قصاصات الصحف، أحتفظ بها إلى الآن،تحكي عن بطولاتها في السباحة، ونبأ موتها، ونعي لم يتجاوز عشرة أسطر في الصفحة قبل الأخيرة بجريدة الأهرام.عندما أمسكت بفرشاتي، لم أكن أرسم صورة لملامح مبهمة، لم أرها. كنت أرسم رواية في لوحة، قصة حياة قصيرة، لكنها مليئة بالأحداث، والإثارة. سوف أسطر آخر كلمة فيها مع آخر لمسة، تكتملعندها اللوحة، ويكتمل حينها حضورها المحير. أتوقعه فلا تأتي، حين تتجلى لي بلا توقع. لا رابط لسطوعها، أو غيابها. حالها في تغير دائم. تتبدل في أحلامي. تتحور. لا تثبت على شكل، ولا يؤطر صورتها برواز. طفلة بريئة. قطة أليفة. امرأة ناضجة.أفعى ناعمة. ملاك طاهر. جُنية من نار.آخر مرة كان عبورها بي خارج إدراكي. لا أدري إن كانت طيفًاأم حقيقة ؟! كانت للتو قد غادرت ملامحطفولتها، ودخلت أرضًا جديدة، لها معالمها المميزة، وتضاريسها الخاصة.جاوزت أطوار التشكيل الأولى.بانت استدارات جسدها، واكتملت مظاهر أنوثتها.حملت ميرتها، وشدت رحالها، وبدأت رحلتها في عالمهاالروحي.غاصت فيه بعقلها وقلبها، وكل أحاسيسها. جاهدت ثورات الجسد المتأججة، وفوراته.ودعت زينة الدنيا، ورمت بأدوات التجميل، ومستلزماتها في سلة القمامة.اعتزلت نور السباحة، وكفت عن الذهاب إلى النادي. غطت جسدها الفائر بملابس فضفاضة، ولفت رأسها بخمار أسود، يشع منه وجه نوراني، ترتسم عليه ابتسامة الجيوكنداالغامضة، وعينان حادتان لهما نظرة مريم العذراء، تخفي خلفهما رغم صغر سنها، وضعفها الأنثوي قوة كامنة، لاحدود لها، واجهت بها كل أنواع الضغط والشد والجذب. وسوسة الصديقات والزميلات، التعنيف الدائم لأبيها،الكلمات الجافة لأمها، التي لاتعرف سوى تصفيف شعرها وتغيير لونه، ولبس الموضة، والجلوس وسط شلة الصديقات بالنادي، يتبادلن أحاديثهن الفارغة، والمملة.كانت نور تبكي كل صباح، لائذة بسريرها، ومحتمية خلف أغطيتها، رافضة الذهاب إلى المدرسة.انتابتها حالة هستيرية. ألقت فيها بالكتب، والكراريس، والكشاكيل من الشباك.كانت تهاجمها من حين لآخر نوبة صرع مفاجئة. تغرب عيناها،وتتشنج أطرافها. يسيل اللعاب من جانب فمها، وتعض على لسانها حتى ينزف.تلزم الصمت،وتغلق غرفتها على نفسها.تنسج حولها خيوط عزلتها، وتدخل شرنقتها، لا تخرج منها. تمسكبالمصحف. تواصل التلاوة، بالبكاء، بالصلاة، بالبكاء، بالتلاوة.تنشد التوبة،والتحرر من ذنوب، ظنت أنها اقترفتها، أو همت باقترافها. كانت تتفانى من أجل الاقتراب من الله، والتماس غفرانه. يدعونها إلى الطعام، فلا تجيب. يدخلون به إليها، ساعات ويرفعونه كما هو. لم يرها أحد وهي تأكل. فقط بضع رشفات من الماء. كيف لها أن تحيا على هذه الوتيرة؟ كيف يقوى جسدها الآخذ في الهزال على جوع لا تشعر به؟قاطعت نور لمة الصديقات، نزهات نهاية الإسبوع: أكل الأيس كريم، التلكؤ على أرصفة روكسي أمام واجهات المحلات، الفرجة على الملابس والأحذية، الجلوس بجروبي أو البالميرا، الذهاب إلى السينما، ومشاهدة الأفلام الأجنبية. انقطعت عن تدريبات السباحة، والاشتراك برحلات النادي أو المدرسة. كانت تتسامى بجسدها الضعيف. تدربه على الخروج من عالم المادة إلى عالم الروح،والارتقاء به في سلالم الملكوت. كانت تنشد الصفاء المفقود. تضع قدمها على أول طريق الخلاص.

**********

أين أنا؟ولأي طريق أهتدي؟مازلت حائرًا أقف عند مفترق الطرق. هل كنت تائهًا في تيه متاهة اللاعودة أم كنت هائمًافي شوارع عاصمة لا تعرف الرحمة عندما أوقفتْ الفرملة المفاجئة للسيارة الأجرة التدفق المستمر للذكريات، عبر شريطها أمامي طوال الطريق بذكرياته الأليمة، ترجع بي للخلف سنوات وسنوات؟آتاني هاتف ليلي. هببت من نومي فزعًا. اندفعت أبحث عن عنوانه. عنوانها. سألت أمي، وخالتي علية. بحثن في أوراق، وخطابات، حتى وجدنه. نقلته في ورقة صغيرة. دسستها في جيبي، وركبت أول قطار. قطعت المسافة، التي كنت أظنها في البعد أصعب من الذهاب إلى المريخ، فيما يزيد عن الساعة بقليل. واتتني الفرصة، لأحقق حلمًاطالما راودني كثيرًا. رغبة طفولية مؤجلة، تأججت من تحت رماد الماضي، لتلتهب في هذه اللحظة داخلي.اتخذت قراري. خرجت وسط طوفان المسافرين، والقادمين من المحطة الرئيسية.استوقفت سيارة أجرة. يهتز جسدي، لفرملتها المفاجئة.أفيق من نوبة السرحان على الصوت الخشن للسائق: هنا يا أفندم.تطأ قدماي أرض الشارع الواسع. السيارات المسرعة تمرق في كل اتجاه. وقفت مرتبكًا، لا أعرف أي طريق أسلك.سألت عسكري المرور. نظر للأمام والخلف، لليمين واليسار، ثم أشار بيده الممدودة: هناك. قفز أحد المتطوعين ـــــــــ لا أدري من أين أتى ــــــــوأشار للناحية الأخرى. استخرت الله. أعطيت ظهري لمنْزَل الكوبري، ومشيت بحذاء سور القصر المهيب، العالي. بدا لي ممتدًاوكأنه بلا نهاية. عبرت بحذر للجانب الأخر من الطريق.مررت بقهوة تلهى الجالسون عليها بين تدخين الشيشة، ولعب الطاولة والدومينو. عرضت الورقة على أحدهم. كان شديد الشبه بخالي علي.أزاحها بيد، ثم أخرجليَ الشيشة من فمه، وأشار به:الشارع بعد القادم.تسارعتْ دقات قلبي وخطاي. تثاقلتْ. توقفتُوأنا أستقبل مدخل الشارع.ليس بالمتسع، أو الضيق.ولجته بشوق عاشق قديم، أوشاعر جاهلي يمر بأطلال الحبيب، ليبكي بدلًا من الدمع أبياتًا من الشعر. ينشد إحدى معلقاته في وصف محبوبته التي غابت.وقفت أمام البوابة الحديدية مغلقة بجنزير، وقفل كبير. نفس اسم الشارع، ورقم العمارة، والعنوان المكتوب على الورقة بيدي.رفعت رأسي.شرفة من الحديد المشغول بالطابق الثالث.أراها واقفة بها. تنظر إلى قمم الأشجار العجوز. تجاوزت سور القصر العالي.تتأمل حدائقه الممتدة، ومبانيه الفخمة، العتيقة. تستمع لصوت الموسيقات العسكرية البعيدة، والقادمة منه.من هذه الشرفةرمتبكتبها، وكراريسها، وكشاكيلها.تعددت الروايات، واختلفت. لكنني كنت أميل لتصديقرواية خالي عادل.انحنت نوربخصرها على سورها.لم تنم، لأيام طويلة تصل الليل بالنهار.كانت الأفكار تتزاحم، وتتصارعداخل عقلها. توحي إليها بأفعال، وأوهام، وخيالات. تبتلع الأقراص المهدئة الموصوفة لها بتذكرة العلاج. لا تتحمل قدماها الواهنتان رأسها الثقيل. تفقد اتزانها. تهوي. دوي ارتطام جسدها بالأرض، يوقظ كل مَنْ بالشارع.تبيت على حال، وتصحو عليه. تغسل وجهها الذي لم يخفِ الحزن جماله. تنظر إلى مرآة تسريحتها المشروخة. تطالع فيها صورة مموجة، وشائهة، لا تحاكي صورتها التي اعتادت رؤيتها. تحاول أن تجدأي شبه بينها وبين من تقف أمامها. أي صلة تربطهما معا. تفقد إيمانها بوجودها، بوجود من حولها. ترتاب في أمها، وأبيها، أخواتها، وأقرب صديقاتها. انقلب الجميع عليها.تنزوي في ركن من حجرتها. تطفئ نورها. لا تريد أن يراها أحد. تهجم عليها الأوهام والضلالات والرؤى الكابوسية. الخوف من النزول إلى الشارع، والاختلاط بالناس. أعمدة الكهرباء تطارد خطواتها.تحتك بها. تلامس ظلالها أجزاءً من جسدها.تحاول التحرش بها.عيون المارة تتربص بخطواتها. تراقبها في مجيئها، ورواحها. تشعر كأنها تمشي عارية أمامها.تخبئ جسدها في طبقات من الملابس الفضفاضة، الثقيلة. تجرجرها وراءها على الأرض، وتدس رأسها في غطاء سادر، وتخفي وجهها خلف نقاب أسود، في محاولة منها للهروب من هذه النظرات الملتوية، الماجنة.تصدمه حالتها المتدهورة، وانهيارها المفاجئ، السريع. يرق قلب خالي عادللحالها. يدور بها على الأطباء، والأولياء، والشيوخ. يقرأون عليها القرآن. يرقونها، ويعملون لها الأحجبة، دون جدوى. تفشل روشتات دكتور عكاشة في عودة الهدوء لروحها المعلقة بين السماء والأرض.تلتمس العلاج في الصلاة والبكاء، وقراءة القرآن.ترفع كفيها بدعاء ترجو ألا يرد، وتعلو بأسئلتها الحائرة دون جواب.تجلس إلى مكتبها. تمسك بالقلم. تكتب رسائلها إلى الله. تبثه همومها، وشكاواها. تناشده أن يأخذ بيدها. ينتشلها من هذا الهواء الفاسد.صارت نور في جانب، وكل من حولها على الجانب الآخر. يضيق صدرها. تختنق.تخرج إلى شرفتها. تنشد هواء نقيًا. لا يفارقها الدوار. تسند خصرها النحيل إلى سور الشرفة الحديدي. أقف مشدوهًا تحتها الآن.تتجاذبني أفكار متضاربة حول موتها. مغزاه، وأسبابه. أخمن بقعة الأرض التي أحاطت بجسدها المدمى،وشهدت أنفاسها الأخيرة. انهمرت دموعي دون إرادة مني. بكيت. لأول مرة كنت أبكيها.

**********

أفقت من غيبوبة المخدر، واهن الجسد. أشعر بارتخاء في كل عضلاتي. لا أتحكم في حركات أطرافي. طبول الصداع تدق رأسي، وجيوش من النمل تسري ببدني. عيناي غائمتانوكأنني أرى من خلال الضباب، أو من خلف لوح من الزجاج المصنفر.لساني مثل قطعة حطب جافة، ومشققة، مشلول لا يتحرك، ملتصق بقاع فمي الذي تملؤهالمرارة. أبلع ريقي بصعوبة. الشروخ العميقة تعيقني، وتُلهِبُ حلقي.رويدًا .. رويدًا تنقشع الرؤى الضبابية. تصفو المرئيات. بدأت أرى من حولي بوضوح.أتعرف على الأشياء، وأدرك الأشخاص المحيطين بي.فزعتُ: من؟ذهبتُ إليها، أم أنها غادرتْ، وعادتْ من سفرها؟حقا هل هيماثلة أمامي بالضبط، كما رسمتها في لوحتي التي لم تتم، تنكفئ على سريري، تحتضن يدي بين كفيها اللدنين؟اتجهت إلى نور ببصري. حاولت أن أحرك شفتيَّ الجافتين. أعبر لها عن امتناني. لساني ثقيل، كما هو مثبت إلى قاع فمي. لا يقوى على الكلام. عيناها الزرقاوان ـ كعيني جدتي ـ مرغرغتان بالدموع، تدوران في المكان، تتفحصاني، وصوتها المختنق بالكلمات يردد: حمد لله على سلامتك.كانت مشاعرها الدافئة تحوطني، وكلماتها الحانية تشد أزري، فأنسى سياط الألم التي أخذت تضرب ساقي، ولسعات الكهرباء التي تأتي في نوبات مفاجئة. أحاول أن أحرك أصابع قدمي وسط الضمادات الكثيفة. لا أقدر. أشير لها عليها. تربتُ يدي.تضغطها بأناملها الدقيقة. تواسيني: شد حيلك…ربنا معاك.أستعيد ما حدث:أين كنت؟ وأين أنا الآن؟ ماذا جرى؟الذاكرة تخونني .. هل فقدتها؟أي حادث أصابني… حملني إلى هذه الغرفة؟كنتممددًا فوق سرير معدني، تساقط طلاؤه الأبيض، مفروش بملاءات وأغطية بيضاء، لا أسترجع في نومتي من الماضي غير نور، دون أي خلفيات أخرى. خرجت بشحمها، ولحمها من سمائها البنفسجية.تركت مكانها في اللوحة فارغًا، لتقف أمامي. سبحان الله فيما خلق، وأبدع. ليس فقط كما كانت تقول أمي: أجمل أخواتها. بل هي أجمل عذراوات الكون، ملكة متوجة، يتلألأ شعرها البني الطويل، الناعم، وقد عقفته خلف ظهرها بمشبك فضي، تفوح منه رائحة زيوت عطرية آثرة. أشمها، فأشعر بسكينة أبدية.كنت أنا طيارًا، وكانت هي عروسي. تلبس فستانًا من الدانتيلا البيضاء، يكشف عن صدرها الناهد، وتزين رأسها بطرحة طويلة، لاتخفي شعرها البني المموج، وفوقه تاج ملائكي من الجواهر. يمسك بذيل الفستان أطفال أبرياءكالملائكة، يرفعونه عن الأرض. كانت تتعلق بذراعي،فأتساند عليها، لكي أداري عرجي. كنا نمشي بخطوات وئيدة، تشي بسعادة لا حدود لها. يحيط بنا وصيفات جميلات. تمسك أيديهن بالشموع المشتعلة،بينما تزفنا المزامير والدفوف.اختفى المدعون، والبنات الصغيرات، والوصيفات، والجوقة. سكنت الدنيا حولنا. صرنا وحيدين ـ فقط ـ أنا وهي. ضممتها إلى صدري.أحطت بنهديها الطريين. تداخلنا. توحدنا. طرنا معا كروح واحدة. بلغنا حدود السماء. عبرنا أراضٍ ممتدة، وجبالًا شامخة، وأودية فسيحة، وصحارٍ مترامية، وأنهارًا جارية، وبحارًا مائجة، ومحيطات هادرة. سافرنا لعالم سحري، لا ترصده الأنظار، ولم يصله بشر، أو جان،مروجه من سندس، واستبرق.أشجاره ذات سيقان من الذهب، وأوراق من الزمرد الأخضر. يشقه نهر، ماؤه من الرحيق المختوم والممزوج بالمسك.مذاقه أحلى من العسل، ولونه أشد بياضًا من الثلج،وعلى حافتيه قباب قصور من اللؤلؤ المجوف. جدرانها من البللور الشفاف. يُرى ظاهرها من باطنها. نسكنها، ننام فوق طنافسها، نرتاح إلى نعيمها الأبدي.

**********

بين فترات الوعي والغياب أفقد الإحساس بأي شيء. ينقطع الزمان، ويتلاشى المكان. لا أدري كم مضى من الوقت، أو أين أنا. أغمض عيني، وأفتحهما، فأرى الوجوه وقد تغيرت. وجوه أعرفها، وأخرى لم ألتقِ بها، أو لا أتذكرها.قامت نور وتركتني.هل كانت معي حقًا، أم أن وجودها كان وهمًا ؟ أحس أثر ملمس أصابعها على يدي.أكاد أمسك بها. أمررها على شفتيَّ. أغمرها بقبلاتي. أدفئ بها قلبي المتجمد.توسلت إليها ألا تبكي.سألتها ألا تعكر صفاء زرقة عينيها. لا أطيق أن تلامس الدموع خديها المتوردين. أردت أن أزيل الغيوم التي تلبدت بيننا. أُخرجها من حالتها النفسية السيئة التي سببتها لها حالتي.أدرت دفة الحديث بالسؤال عنه. قالت: أبي !!لن يتأخر .. بالتأكيد سوف يأتي إليك. أفضيت إليها ببعض الكلمات التي لا أعيها، ثم تهت.كان جالسًافي مقدمة طائرته الميج. يمسك بعصا التحكم. يناور بها، يعلو، ويهبط. يحلق بسرعة كبيرة على ارتفاع منخفض.يشتبك مع طائرة ميراج إسرائيلية في حرب الاستنزاف، يسقطها.يطير وسط سرب من المقاتلات في حرب 73. يدمر مركزًا للقيادة الإسرائيلية في عمق سيناء، ومركزًا للإعاقة والشوشرة في جبل أم خُشيب.هبط بطائرته في مطار ألماظة. نزل من كابينة القيادة، بقامته المهيبة. يرتدي بدلة ضيقة. تشف عن عضلات ذراعيه، وصدره القويتين. جريت إليه.قفزت عاليًا. تعلقت بعنقه.احتضنته بشوق طفل عثر على أبيه العائد بعد غيبة طويلة. قلت له:أنت بطل .. أريد أن أصبح مثلك طيارًا. رفعني لأعلى في الهواء. يداعبني.هبطت باندفاع حجر يهوي لأسفل. فتحت عينيَّ. رأيته. كان جالسًا إلى جوار سريري على نفس المقعد الذي كانت تجلس عليه نور. يربتُ كتفي، ويبتسم:شد حيلك يا بطل.قبل رأسي، واختفى. ارتخت جفوني.كنت أجلس في شرفة البيت.أقلب كروت البوستال الجميلة، التي كان يرسلها لي. يحمل كل منها معلمًا مميزًا من معالم البلدان التي كان يزورها، أو يمر عليها ترانزيت.كان قد تقاعد من القوات الجوية، وعمل طيارًا مدنياً بمصر للطيران.أستعيد هيبة طلعته عند زياراته المتباعدة لنا، وطعم البسبوسة باللوز من ألفاليرو، وملمس النقود الجديدة، ورائحتها التي كان يعطيها لي في الأعياد،وفرحة جدتي، وأمي لمجيئه. أتذكر كلماته الحانية، المشجعة، وهو يشير لي، ثم لنفسه ضاحكًا: هذا الشبل من ذاك الأسد.رفعت جفنيَّ المرتخيين. كان واقفًا، يمد يده لي مودعًا:ـ لن تراني .. سوف أسافر.ـ ما الجديد؟ أنت في سفر دائم.ـ سوف أسافر إليها .. سمعت نور تناديني .. هل تريد شيئًا من عروسك؟استجديته أن يبقى: أحتاج إليك… كفى نور.ـ لا أستطيع أن أتأخر عليها…اشتقت إليها… اشتقت لأبي وخالك علي ولأصدقائي وزملائي القدامى… عاطف السادات، وحسن لطفي، وسليمان فيض الله، وزكريا كمال. ثم ضحك: إن استطعت سوف أرسل لك بأحلى كارت بوستال.أُغمض عينيَّ وأفتحهما، يأتيني ساعي البريد بمظروف فضي، بركنه العلوي طابع غريب، مكتوب عليه بلغة لا أفهمها. أفضه. الكارت بين أصابعي. مساحتة خضرة بلا انتهاء. أشجار باسقة. ورود، وفراشات ملونة. شلالات، وأنهار.

**********

راقد فوق سريريتحوطني ستائر فضية من كل جانب، وضوء خافت مثل ضوء لمبة جاز قديمةببيت جدتي الذي صار ذكرى من بعد أثر ـينتشر من فوق رأسي. أكاد أرى على بصيصه أسلاكًا رفيعة ملونة تخرج من صدري، وخراطيم بلاستيكية دقيقة، تسكب المحاليل داخل عروقي، وبين لحظة وأخرى يخرق أذني الصفير الحاد لجهاز المونيتور المعلق إلى جانبٍفوقي.أتقلب بصعوبة. تعوقني وخزات الألم، ولسعات الكهرباء، بقدمي المعلقة لأعلى، والموضوعة في جبيرة من الجبس، والمدسوسة داخل ضمادات كثيفة، تصطبغ بلوني الدم المتخثر والبيتادين.أتثاءب. أحاول أن أدفع النوم ـ هذا المجهول ـ عن عينيَّ. أتحايل عليه،وأراوغه. من صغري أكرهه وأخشاه، لا أنسى الأستاذ غندور في حصة الدين يضغط بصوته الرخيم:النوم هو الموتة الصغرى.تعتم السماء، تخلو الشوارع من المارة، ويهبط الليل علينا مبكرًا، بغموضه، وسكونه، ومخاوفه. لا أسمع غير نباح الكلاب الهائمة فيه بين وقت وآخر. يرد بعضها على بعض، وكأنها في حوار طويل.أتململ في سريري.أتقلب. أدفع الأغطية مرة بيدي ومرة برجلي، وكأنني أحارب عدوًاخفيًا، يحاول الامساك، والفتك بي. تزجرني أمي كي أنام. أسكن مكاني. أتصنع النعاس.أغمض جفنيَّ على خيالات، وأشباح، وصور.شبح شديد السواد، كليلٍ حالك بلا نجوم، طويل الساقين، أكرت الشعر، يلبس شورتًا، وقميصًا كاكيان.يقفز من فوق السور. يقطع فناء البيت الواسع في خطوتين. يخرج لي من الحائط المقابل، أو فوقي من سقف الغرفة. يقترب مني ببطء، وترقب. يقف عند رأسي.يحدق بعينيه الحمراوين في عينيَّ. يتأكد إن كنت نائمًا أم لا. يهيأ لي أن أمي تصرخ، وتستغيث: حرامي… حرامي. وتنادي على أبي مفزوعة:أحمد ..الحقنا يا أحمد.أسارع رغم حرارة الجو، والرطوبة العالية، والهواء الثقيل الجاسم فوق الرؤوس بفضاء الغرفة، بسحب الملاءة على جسدي.أدفس رأسي فيها،وأظل متيقظًا، ومتوجسًا. يتملكني القلق، والخوف. أحسد أختيَّ ـ هيام وغرام ـ النائمتين في طمأنينة على السرير إلى جواري.أنتظر أبي حتى يعود. دائمًاما تهاجمني الهواجس وهو بعيد عني.أتوقع تحركاته. أحسبها.أتخيله الآن. يقوم من كرسيه، يغادر جلسته مع أصدقائه في حديقة منزل الأستاذ إبراهيم في حي السودنة، ويركب عجلته الصيني الزرقاء، تظلله أشجار الأكاسيا، والهجليج، والسدر، والدليب، ونخيل التمر، والدوم. تملأ أنفه رائحة اللبخ الجافة المبللة بالمياه والمتسربة من الجداول. يمر على الكنيسة، ومدرسة الأقباط المصرية، واستاد عطبرة. يلقي السلام على عم عمر، وهو يغلق ضلفتي باب دكانه.يقطع الشوارع الترابيةالمظلمة، غير المستوية.يسير بحذاء الخور الممتلئ بمياه الأمطار.ينحني عند ناصية شارعنا. يدفع الباب حاملًا معه بَسْطَةعم إسماعيل الحلواني، سداسية الأضلاع،حلوة المذاق.نقفز من أسرتنا حوله. نأكلها معه.أظل أترقب هذه اللحظة.تخيب حساباتي كثيًرا، وتصدق قليلًا. لكنني لا أمل من تكرار هذا الطقس كل ليلة.من أيام مرت، فاق تأخره كل توقع.جميعنا لم ينم، ظللنا ساهرين، ولم تنهرني أمي. كانت تنظر لي وكأنها تستمد مني قوة تعينها على مقاومة القلق، والخوف، اللذينتسربا إلى قلوبنا. تمسح بيدها الدافئة ظهري،ثُم تداعب خصلات شعري. تنظر بعينيها العسليتين، المرتعبتين في عينيَّ، وتعيد على مسامعي: أنت رجلنا.ليس لدينا في هذا البلد الغريب من أحد نتكئ عليه. لا أقارب أو جيران نثق فيهم. وسط لحظات الترقب والقلق فتح أبي الباب. دخل ممسكًا بمقود عجلته الصيني الزرقاء. أمالها إلى جذع شجرة الجازورين القائمة على يمين باب البيت. صفق الباب خلفه.انفجرت فيه أمي زاعقة:تأخرت كثيرًا الليلة .. متنا من الخوف عليك.لم يرد أبي. واصلت أمي:ما الذي حدث؟ـلا… لا… لا شئ.ـ لونك مخطوف وصوتك متغير.ـأصل… أصل الأستاذ إبراهيم… تعيشي أنت.سمعت حديثهما، لا أدري مدى معرفتي بالموت، لكنني شعرت من كلامه بالخوف. الأيام التالية كنت ألاحق أمي بالأسئلة. أذكر بعض أجاباتها من قبيل الصعود إلى السماء، والذهاب إلى الله، والسفر.ينتابني من يومها الإحساس بالخوف والقلق كلما خرج، أو سافر أبي. لاأستقر، أو أهدأ حتى يعود، وينام بالبيت، ولازمني هذا الإحساس بعد أن كبرت، ولم يفارقني،إلا بعدما تيقنت من صدق نبوءتي، يوم عاد أبي من غربته على طائرة شحن، مكفنًا داخل صندوق خشبي.

**********

ترفعني الأيدي بدربةٍ. تضعني برفق على طاولة حديدية، تكتسي بجلد أسود محشو. أُسلم ظهري المتعب ـ شبه مغيب ـ لطراوتها.أشباح خضراء تتحرك بحرص في فضاء ضبابي.الرؤوس مغطاة بطواقي ورقية، زرقاء. الأفواه مكممة. لا يظهر من الوجوه غير عيون ونظارات طبية. الأيدي مرفوعة لأعلى في قفازات جلدية، تتجنب الاصطدام بما حولها.تتداخل الأصوات.تتناغم، وتختلف. وقع خطوات، همسات مكتومة، صفير أجهزة، احتكاك أدوات معدنية. عن يميني ويساري أنابيب وخراطيم تمتد من أجهزة، وزجاجات معلقة فوق حوامل معدنية.يد طرية تسحب يدي. تفرد ذراعي على مسند جانبي. تحكم أعلى كوعي بشريط مطاطي. أشعر بوخزة حادة، وشئ ما يتدفق داخل عروقي، ومرارة تصل إلى حلقي. دائرتا الضوء الأصفرتتشوشان. تختفيان من فوق رأسي.كنت أسقط في فضاء بلا نهاية. أترقب ارتطام جسدي المنهك بأرض صلبة، ولا تأتي اللحظة. كنت أنتقل من فضاء مظلم لآخر، وما بينهما دهاليز أكثر ظلمة. أتخبط ـ كخفاش أعمى ـ في جدرانها، ومثله أحاول التشبث بأظافري بأي منها. الجدران ثلجية، ملساء وباردة. تضيع محاولاتي معها عبثًا. تتلاحق أنفاسي. أضع يدي على صدري. يحل بي همود مفاجئ.ألتمس لحظة هدوء. وقفة مع الذات. تطمئن معها النفس.يظهران لي. بوجهيهما الجامدين، الحياديين، وعيونهما المتحجرة التي لا تتحرك، أو ترمش. يمسككل واحد منهما بإحدى يديَّ، كلص تم القبض عليه، وأنا محاصر بينهما،ومستسلم لهما. أمتثل لأوامرهما. يدفعان بي يمينًا، ويسارًا.يُدخلاني ساحة فسيحة، كمسرح روماني قديم يحيط بها من كل جانب مدرجات حجرية، تمتلئ عن أخرها بألوان من البشر. أجلساني على مصطبة حجرية وسطها. كان المتفرجون حولي يحملقون إليَّ في صمت. قال لي الذي على يميني: لقد حان الآن موعد الحساب.يمر بعقلي شريط حياتي مثل برقٍ لمع في السماء، ثم اختفى، كاملًابلاانقطاع، أو نقصان. الحلو، والمر. الجميل، والقبيح. الصواب والخطأ. الحسن، والسئ.تنهال عليَّ الأسئلة. تحاصرني أصداؤها من كل صوب، عن يميني ويساري، من أمامي، ومن خلفي، من فوقي، ومن تحتي. تنهمر عليَّ كالطلقات النارية، بكل أدوات وعلامات الاستفهام.أرتعد من الخوف.أتلجلج، وأفأفئ، وأتهته.تختنق في حلقي الكلمات. يصيبني البكم.لكنها ـ كعادتها معي ـ تباغتني. تتجلى لي. تمد يدها الحانية بنعومتها، ودفئها. تربت كتفي، وتهدئ روعي. تنتشلني من الظلمات إلى نور حضرتها.ينطلق لساني. يفتح الله علىَّ ـ استجابة لدعاء أمي الدائم لي: يفتح عليك ربنا يا عبد الله يا ابن بطني. أجد لكل سؤال جوابًا. يتراجع الصدى. يتباعد.تخفت الأسئلة. تنتهي. يطلقان يديَّ. يصفق الحضور بحرارة. أغلق ورقة الامتحان، وكلي ثقة في النجاح.تضغط نور يدي بامتنان: أحسنت. أرنو إلى عينيها الزرقاوين، الفرحتين: أحبك. يكتسي وجهها بحمرة الخجل، وتضحك كطفلة. تجذبني من يدي. تقفز بي تحت ظلال الأشجار العالية، المتشابكة. نصل إلى نهر رائق، يتدفق ماؤه من أعلى جبل أخضر. آخذ منه غَرفة بيدي. أسقيها، وتسقيني منه غَرفة بيدها. جلسنا على صخرة في مواجهة النهر، نظرتْ بعيدًاإلى الضفة الأخرى، ثم قطعت الصمت الذي طال بيننا:إنه قادم…دعنا ننتظر.رأيته على الجانب الآخر. يلتف جثمانه بالأحمر والأبيض والأسود، ومحمولًا على عربة مدفع، تجرها الخيول، وتحيط به أطواق الورود، وسعف النخيل، وأمامه يمشي ضابطان بخطوات عسكرية منتظمة ومتئدة، مرفوعي القامة ومشدودين. يحملان أوسمته ونياشينه، نالها في العمليات والحروب التي خاضها، 67، واليمن، والاستنزاف، واكتوبر، وفي الخلف حشد كبير من المشيعيين، لا أرى أوله منأخره. أهل، وأقارب، وجيران، وناس أعرفهم، وأخرون لا أعرفهم، بعضهم بالزي العسكري، والأغلب بالزي المدني، بدل، وقمصان، وجلابيب.على حافة النهر توقف الركب، وعلا صوت رجل ذي لحية بيضاء: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم ابدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب النار. أمَّنَ وراءه الواقفون. حملته الأيدي، ووسدته داخل قارب خشبي، وفكوا الحبل المربوط منه إلى وتد بالأرض.نرقب ـ أنا ونور ـ القارب يبحر بلا مجدافين، أو ملاح، تدفعه قوى خافية، يتجه حثيثًاإلينا.التفتتْ إلىَّ،وبصوت يقفز الفرح بين حروفه، همست لي: ها هو قادم ..افتقده …واشتاق إليه.

********

سور عالٍلا تدرك عيناي نهايته، لا يبدو منه إلا قمم الأشجار المقصوصة، وأبراج الحراسة الموزعة على مسافات متساوية. تمر الساعات، وأنا أدور حوله. أبحث عن بوابته. فجأة تتكشف لي بوابة خشبية ضخمة،أمامها متاريس حديدية،يعلوها قوس من الأحجار الجيرية، مدهونة بلون أصفر، باهت،بفعل الزمن، وعوامل التعرية، كأنها إحدى بوابات القاهرة القديمة: باب النصر، أو زويلة، أو الفتوح. أمامها وعلى جانبيها ينتصب حراس مدججون بالبنادق الألية. اقتربت منهم. رفعوا أسلحتهم في وجهي،وتقدم أحدهم نحوي، وبصوت حاسم زعق فيَّ: ماذا تريد؟ـ الدخول … دخول القصر.ـ هل لديك تصريح؟ـ عندي ميعاد.ـ بطاقتك.أعطيته بطاقتي. ناولها لأخر يجلس خلف مكتب خشبي في غرفة صغيرةقائمة على أحد جانبي البوابة. بحث في دفتر أمامه، ثم سمعت صوته يناديني بلهجة آمرة: حان دورك.دخلت من باب صغير، بالكاد عبرت منه بعد أن أحنيت رأسي. استقبلني حارسانممشوقا القوام، قويان. قاما بتفتيشي ذاتيًا، ثم أمرني أحدهم أن أدخل غرفة لأتهيأ للمقابلة: ستجد كل شئ معدًا بالداخل.استبدلت بدلة بيضاء وقميصًا أبيض بالملابس التي أرتديها. رجوتهم أن آخذ عكازي المعدني معي: لا أستطيع المشي بدونه. أشار أحدهم: ستمشي في هذا الاتجاه.ممر طويل مبلط بالبازلت الأسود غير المستوي، مرصوف على الجانبين بالرخام،تحفه أشجار عملاقة، معمرة، ينزل من فروعها جذور هوائية، تلتف حول بعضها كضفائر امرأة فرعونية، بعضها معلق، والأخر يكاد يلامس الأرض. حل الليل،وأضاءت جانبيه فوانيس ملونة.كنت أسير كمن يمشي في حلم، فلا أسمع غير صوت الهواء، يتخلل أوراق الأشجار، وطنين ذباب، وحشرات، وصوت نقرات عكازي يخبط الأرض بقوة، لأسرع من خطاي. فجأة ومن بعيد التقطت أذناي نفس الصوت الملتبس عليَّ، يصدر عنه غناء حزين، أنين موجع، بكاء مكتوم.انحرفت عن الممر. أفتش عنه. أتنصت عليه. أتتبعه.اخترقت غابة من الأشجار المتشابكة، وبركًا من الأرض الموحلة. لم أعبأ بالأتربة والأوراق الجافة التي علقت ببدلتي البيضاء النظيفة، ولا بهذه الحشرات، والديدان التي تزحف عليها، ولا بالطحالب الخضراء التي غطت حذاءي اللامع، ولا بالفروع المدببة التي تخمش وجهي، وتسحج يديَّ المكشوفتين. أدفع بعكازي أمامي. أتوكأ عليه، لأتجنب التزلج، أو السقوط.انتهيت إلى بساط من النجيل الأخضر، متسعًا كملعب للجولف. وعلى مرمى بصري رأيت منزلًا من دورين. ينير شبابيكه العالية ضوء واهن، مرتعش، كضوء كلوب قديم أو لمبة جاز نمرة 10. اتجهت إليه. الصوت الملتبس يزداد وضوحًا. تتشكل نبراته، وملامحه. أكاد أعرفه. اتقدم. أقترب. الصورة تملأ عينيَّ. البيت يدخل حدود الصورة.إنها لوحة بيت جدتي. رسمتها من الذاكرة، وتصدرت معرضي الأخير بأتيليه القاهرة. حوائط سميكة من الحجر الجيري، شبابيك عالية من جزءين، سقف من عروق الخشب، مكسوة بألواح خشبية، وباب ضخم يغطس جزء منه تحت الأرض. البيت قائم عند ناصية شارعي الكوبري، والمديرية. يشف من وراء الضباب. أمامه طفل صغير يشبهني، يركب دراجة بثلاث عجلات، وطفلتان جميلتان ـ هيام وغرام ـ تلعبان “الأولى”، وامرأة عجوز ـ هي جدتي، بأخاديد تكسو وجهها، وعينين زرقاوين، وطابع الحسن بذقنها، تستند بيديها، وتنظر إليهم من ضلفة الشباك نصف المفتوحة. رفضتُ كل الاغراءات ببيع اللوحة.كنت أمشي فوق النجيل الأخضر، فتغوص قدماي وينغرز عكازي فيه:النشيج قادم من بيت جدتي. ألهث تعِبًا أمامه. أنزل عددًا من الدرجات المنحوتة في الأرض. أدفع بوابته. بئر السلم مظلم ورطب. أصعد الدرجات الحجرية الضيقة. كنت أصعدها في زيارتنا الإسبوعية لها كل خميس.أطرق الباب. تفتح خالتي الكبرى علية. فزعتْ: عبد الله … ما هذا؟ وأشارت ليدي اليمنى: ما الذي حدث لك؟ابتسمت: عكاز.احتضنتها، وقبلت خديها. اتجهت إلى غرفة الجلوس. صدمتني جلستها، تتوسط الكنبة البلدي، تضع جبهتها فوق كفيها. يصلني نشيجها أكثر وضوحًا، وحدة. رميت عكازي، وجريت إليها كما كنت أفعل وأنا طفل صغير.احتضنتها، وقبلت يدها: مالك يا جدتي؟ رفعت رأسها نحوي: لماذا بعتم البيت؟ فتحت فمي دون اجابة. ماذا أبرر !!سُويَّ البيت بالأرض. عربات الكارو تحمل عروق الخشب، والأحجار الجيرية. ظل مكان البيت أرضًا فضاء لعدد من السنين حتى جاء العمال. حفروا بعمق ليرتفع مكانه برج العناني. عشرة أدوار. عيادات أطباء. مكاتب محامين ومحاسبين. مقلاة، وحاتي، ومحلات أحذية وملابس.نظرتُ إلى عينيها الدامعتين، وربتُ ظهرها. أهدئها. ضحكت لها: لقد رأيتنورًا … إنها تشبهك. ضيقت عينيها فزادت تجاعيد جبهتها: نور بنت عادل. هززت رأسي: نعم يا جدتي. أردت أن أُسَرِّي عنها. أدخل البهجة إلى قلبها الذي أدمته جراح السنين. أكملتُ: لقد جئت لك بهدية.مددت يدي. تناولت لفافة كبيرة. لا أدري هل كانت معي أم من أين أتيت بها؟ فككت الشريط المربوطة به.فردت اللوحة بحرص، وحذر. تلك التي لم أفرط فيها لأحد، وقررت فور انتهائي من رسمها ـ وكنت وقتها ما زلت طالبًا بكلية الفنون الجميلة ـ أن أهبها إلى جدتي. قلت لها:انظري.تأملتْ اللوحة طويلًا، كأنها تتذكر، ثم شدت يدي إليها، لتحتضنني. دفستْ رأسها في صدري، ثم علا نشيجها من جديد.

**********

رواية بقع زرقاء لـ حاتم رضوان

كأنني إحدى المومياوات الفرعونية ترقد في متحف داخل صندوق زجاجي،الأبخرة المنبعثة من الأفواه تتكاثف عليها،تضبب رؤيتي، تحيل وجوه الزائرين إلى أشباح، يصعب علىَّ التدقيق في ملامحها، وتمييز بعضها من البعض.بين لحظة وأخرى تطلالممرضة النحيفة، داكنة السمرة من خلف الستارة المسدلة.تحني عنقها الدقيق، الطويل، وتنظر إلىَّ بعينيها السوداوين، الواسعتين. تتيقن إن كنت متيقظًا أم لا. أفتح عينيَّ المغمضتين. أناديها: عزة .. أقصد نفرتيتي. تبتسم، فتبين أسنانها مع اسمرار وجهها ناصعة البياض، وتميل إلى أذني، فأحس بحرارة أنفاسها. تطبع قبلة على خدي،وتهمس:فيه زيارة … تحب تشوفها. أومئ لها بالإيجاب. تزيح الستارةعن آخرها. تطالعني الوجوه من وراء الحاجز الزجاجي، شاخصة عيونها نحوي. تنطق نظراتها حزنًا، وألمًا، وشفقة. نفس النظرات التي كنت ألمحها في عيون الأطباء، والممرضات، والعاملين كلما مروا بي، أو نظروا إليَّ. الدموع حبيسة خلف غلاف رقيق لامع. ألتفت إليهم مبتسمًا.أهم لأحرك شفتيَّ تعبيرًاعن شكري لهم. يرفعون أيديهم إليَّ إشارة على السكوت.تداهمني موجة كهربية مفاجئة. ينطلق المارد من داخلي. قوة لم أحسبني أمتلكها. أتحامل على نفسي أمامهم. أتجلد. أصبر. أتجاهل هذه اللسعات والآلام المتزايدة. أتفحص الوجوه. أعرف بعضها، والبعض الأخر لا أعرفه، أو لا أتذكره.من بين الواقفيناسترجعتُ وجه نور، مختفيًا خلف نقاب أسود. تلمع عيناها الملائكية، بنظرة مريم العذراء، وغموض الجيوكندا: الشمعة المحترقة. كانت تتوسط أبي، وجدي الكبير خضر،وجدي عبد الله، وخالي علي، وجدتي فاطمة، التي كانت تمسك بيد أختي الصغيرة “حب”.أدقق فيهم أكثر. وجه يشبه وجهي يقف مكانهم. عيناه الضيقتان تنظران من وراء اللوح الزجاجي. ترى وجهه الباهت بوضوح. كان نائمًا مثلي تمامًا، ممددًا فوق سرير كسريري، في عنبر كبير، تتراص فيه الأسرة، لدرجة التلاحم. يرقد عليها مرضى بائسين، بوجوه يصعب علىَّ نسيانها. يرتسم على كل منها أمارات ألم مختلف. تراودني فكرة تخليدهم في لوحة. كان بينهم صديقي القديم، وزميل الدراسة ـ طارق فراج ـ بوجههالمنمش، ونظرة عينيهالمنكسرة.صدمتني هيئته. كان كزعيم مخلوع يمتلئ رعبًا من مطارديه. ينزوي في سريره. يتكور جسده. ظهر محني، وركبتان مثنيتان، وذراعان مضمومتان. يكابد ذكريات جبروته المولي، وسلطانه الضائع.تابعت لقربي منه ـ تجاورت غرفتينا في السكن الجامعي ـ تحولاته المفاجئة. ودع كل أشكال تمرده القديم. حدة اللسان التي تعود عليها، كلمات الشتيمة والسباب التي يلوكها، كاللزمات وسط حديثه، لا مشاجرات، أو مشاحنات. فقط كنت أراه يضع يمناه وراء ظهره المائل إلى اليسار، يسنده،كمن يقيمه قبل أن يسقط. يمشي متباطئًا أثناء ذهابه للوضوء، أو للصلاة بمسجد المبنى. يكتم آلامه. فشلت جميع المسكنات التي عرفها، أو وُصفت له، في السيطرة عليها. بدأ دورة نهايته. أطباء، روشتات علاج، أشعات، تحاليل، روشتات. لا نتيجة. تزداد آلامه حدة. يتم حجزه بالقصر العيني. فحوصات متقدمة. عينة نخاع من عظمة القص. فجعته النتيجة ـ نوع نادر من سرطان الدم. انتشر سريعًا بفقرات الظهر، والنخاع الشوكي. هاجم الرئتين، والكبد، والمخ. لأخر مرة في حياته كنت ـ أنا ـ وصديقي عمرو أبو العيون في زيارة له.رأيناه من وراء اللوح الزجاجي.كان مكومًا في غيبوبة عميقة، بركن شبه مظلم، على أحد أسرة الرعاية المركزة. يعلو صدره ويهبط في انتظار الموت.

**********

غشى جدتي السُبات، أم فاضت روحها على كتفي؟تحاملت على آلامي، ووقفت على قدم واحدة. حملتها بين يديَّ،ووسدتها الكنبة البلدي. تمددت عليها في سكون عميق. مسحتُ خديها بيديَّ المرتجفتين. جففتُ دموعها المنهمرة.اختفت الأخاديد المحفورةبطول جبهتها، وزالت تجاعيد الزمن عنوجهها. كانت قسماتهتشع بشرًا، ونورًا، وسكينة. بشرة ندية، متوردة،وشفتان ترتسمان بابتسامة هادئة، مطمئنة، وطابع الحسن يزين ذقنها. كأن الزمان قد عاد بها عشرات السنين إلى الوراء.عروس جميلة في الخامسة عشر. تجلس في ليلة الحنة.تتوسطالصديقات، والأقارب، والجيرانببيت أبيها في المنصورة. يدقون على الطبل البلدي، ويغنون، ويرقصون. تتعالى زغاريد النساء في كل مكان. تنتظر لحظةزفافها إلى جدي عبد الله. أمسكت بيدها. أثر الحناء بكفها، لم تجف. انحنيت على جبينها، أقبله، ثم غطيتها بملاءة بيضاء.انتابتها في أيامها الأخيرة نوبات متفرقة من التوهان. تختلط عليها الأسماء، والأشياء. تتداخل التواريخ، والأزمنة، والأماكن. لا تذكر أي شئ من الأحداث الجارية. زوجات أبنائها الملتفين حولها. أزواج بناتها. أحفادها. أقاربها، أوجيرانها.تسترجع حكايات قديمة. مضى عليها عشرات السنين. تبكي من أمر تافه، ثم تضحك في نفس الوقت. تتكور كجنين في بطن أمه خائفة من خاطر يعبر بخيالها. تستغفر الله، ثم تنخرط مرة أخرى في بكاء مرير. تغرب عيناها:اياك يا علي تدخن الشيشة … لسه بتكح دم. تنادي على جدي: وحشتني يا عبد الله.تنتهي نوبة توهانها، لتغيب. يعلو شخيرها. توقظها أمي، لتناولها طبقي الشوربة، والمهلبية. تزيح يدها نصف مغمضة: نور .. عملتي كده ليه. يتحشرج نَفَسُها المتسارع. رغوة بيضاء كالزبد تخرج من جانب فمها. ينقطع صوتها الواهن. يستوي صدرها. يسكن. لا صعود أو هبوط.تنظر أمي إلى عينيها الزرقاوين. الحدقتان متسعتان، ومثبتتان إلى الفراغ. صعدت روحها إلى ملكوت السماء، وتبعها البصر. سبلت أمي عينيها، وسحبت ملاءة السرير على وجهها:ارتاحت وريَّحت. علا صوات زوجات أخوالي الملتفين حولها. شقت خالتي علية ثوبها، وجرت نحو الشرفة. أمسكها خالي عادل. جرجرها إلى الداخل. نهرها، ولطم خديها.امتلأ بهو البيت، وغرفة الجلوس بالمعزين، وكسا السواد كل شيء، وانطلق صوت الشيخ الحصريخاشعًامن الكاسيتالذي أتي به خالي محمد معه من ليبيا، وهو يتلو سورة الرحمن.أعطيت جدتي لوحتها التي رسمتها من أجلها، ثم أفلتُ من حضنها. لم تحتمل أعصابي المرهفة مرارة بكائها.أمسكت بعكازي المعدني، ونزلت مسرعًا. لحقت بي خالتي علية. أتاني صوتها يرن في بئر السلم المظلم: رايح فين يا عبد الله… الأكل جاهز. رفعتُ رأسيإليها: سأعود فيما بعد. جذبت البوابة الخشبية، وصعدت الدرجات الحجرية.كنت كمن يخرج من كوة مقبرة فرعونية مظلمة، هواؤها مكتوم وفاسد إلى الوادي الفسيح، المفتوح على السماء، والنور، والبراح. سكنت مكاني للحظات. أشم نسماته النقية، وأملأ صدري بها. وقبل أن أهم بالرحيل، درت بحسرة للخلف. ألقي نظرة حنين أخيرة على البيت بمن فيه. لم أجد غير ضباب كثيف، وبساط أخضر مفرود حتى نهاية الأفق. فكرت في الرجوع حيث كنت. أتلمس علامات الطريق. اختفت.ضللت عنها، أم انمحت بفعل فاعل؟تلاشت غابة الأشجار، ولم أعثر على الممر البازلتي. فقدت اتجاهاتي، ولم أصل إلى البوابة التي دخلت منها.وقفت حائًرا كطفل تائه فقد أمه.تبزغ نور في سمائي. تسطع في ظلام حيرتي. تدلني إلى الطريق الذي فقدته.تنتشلني من هذا التيه. سوف تظنني مهرجاً، أو لاعب سيرك عندما تراني بشعري الأشعث، المغبر، وبدلتي البيضاء التيتهدلت، واصطبغ كل جزء منها بلون. ستستلقي على ظهرها من الضحك، وأنا أحجل بعكازي المعدني مثل طائر كُسرتْ ساقه.سأحكي لها عن دخولي القصر، ومغامراتي في غابة الأشجار والطحالب.طنين الذباب، والحشرات، والديدان التيالتفتْ حولي،وكادت تلتهم جسدي.زيارتي للبيت الكبير، واختفاؤه، رؤية جدتيبعد غيبة طويلة. لن أخبرها بموتها على كتفي. سأدعوها لنأكل معًامن يد خالتي علية:هل تسمعينها إنها تناديني .. لقد وعدتها .. تعالي معي ..إنها تنتظر.

**********

يراوغني مرج الأشجار. يظهر لي جليًا، ثم يختفي.تُدمى قدميَّ في سبيل الوصول إليه دون جدوى. لا أجده. أظنه وهمًا من نسج خيالي، أضغاث أحلام، أو هلاوس مريض في مرحلة الإفاقة من التخدير، وهو ملقى على سرير أبيض بين الحياة، والموت. ينقطع أملي في العثور عليه. أدعو الله أن يهديني إلى طريقه المفقود.ينكشف لي الحجاب. يعم النور من حولي. ينبثق المرج أمامي. واحة في قلب صحراء، صفراء، جرداء، ممتدة بلا نهاية.أدخل إليه. تستقبلني نسماته الطرية.تنزل عليَّ بردًا من لفح الشمس الحارقة، وسلامًا من لسع الرمال الساخنة. أتوغل فيه. أدبُ بقدمي. تتفجر تحتها عيون من ماء رائق. لم أذق أعذب منه،وتبينفي الأفقبحيرات، وشلالات، وأنهار، وظلال أشجاروارفة.يلعب تحتها أطفالأبرياء كالملائكة.أقترب منهم. أدقق فيهم.أختي الصغيرة “حُب” تقفز بينهم. لم تتم بعد عامها الرابع.عينان خضراوان، وشعر كخيوط الذهب.وجه ملائكي أبيض كالحليب المصفى،مضئ كالقمر ليلة اكتماله.تترحم خالتي علية عليها: من يوم ولادتها وهي بنت موت.عند العامين كانت “حُب” كواحد منا تتكلم، وتناقش، وترد على الأسئلة. تعرف قاموسًاطويلًا من المفردات الإنجليزية. تحفظ الفاتحة، وقصار السور.تفرد سجادة الصلاة، وتصلي بجانبي. تردد الأغاني التي تسمعها. تميز طرقاتي على الباب. تجري إليه. يصلني صوتها من ورائه: عبدو .. عبدو.أدخل، فتتعلق بي. أضع شنطة المدرسة، وأعطيها ما بجيبي من حلوى.يأتي على لسانها ذكر شخص ما، بعيد، لا يمر اليوم إلا ونجده أمامنا.تتوقع حدثًاما، فيقع.أطلقنا عليها “الشيخة “حب”.في أحد الأيام ارتفعت درجة حرارتها، وراحت تهذي بكلمات متباعدة، وغير مترابطة، وطفح جلدها ببقع زرقاء متفرقة.لم تنم أمي، وظلت ساهرة إلى جوارها.تغمر رأسها بكمادات الماء البارد. اليوم التالي ذهبنا بها إلى الدكتور أنور إبراهيم.قام بفحصها، وملأ الروشتة بأصناف من الأشربة، والتركيبات، أعدها لنا الدكتور صفوت، صاحب الصيدلية المواجهة لجامع عصفور. ورغم مداومتنا على اعطائها العلاج بدقة، وفي مواعيده المحددة، كانت درجة حرارة “حُب” ترتفع ليلًا كل يوم. فقدت شهيتها. لم تعد تتناول سوى رشفات قليلة من الماء، والعصائر.هزل جسدها، وعلا وجهها الشحوب، وبرزت عظامه.صارت تمشي كامرأة عجوز. خفتت حركتها الدائبة، وغاب مرحها الذي كانت توزعه في كل أرجاء البيت.لففنا بها على أطباء مدينتنا، ومستشفاها العام. سافر بها أبي إلى القاهرة، وعاد دون أن يصل إلى أي نتيجة. التشخيص مجهول، والعلاج لا يجدي.كانت “حب” تذوي كزهرة تم قطفها. شهور مرت كنت فيها حزينًا. أخفي دموعي أمامها. أحاول أن أروَّح عنها. أعمل لها بهلوانَ لكي تضحك. أحضر لها الحلوى التي تحبها. تبتسم في وجهي، وتضعها جانبًا. لا تتناولها.وصباح يوم لن أنساه، السادس والعشرين من رمضان، نزلت “حُب” من سريرها.كان وجهها يمتلئ نضارة، وبشرًا. كانت تقفز في كل مكان حولنا.طلبت مني أن تخرج معي لأشتري لها الحلوى من دكان البمبي. كنت فرحًا لشفائها. نزلنا معا. درت بها في الميدان، وشوارع المدينة. تمشي لمسافة، وأحملها لمسافة أخرى. تجول بعينيها في كل ما يحيط بنا، وكأنها تشاهده لأول مرة.اشتريت لها علبة الملبن الصغيرة الذي تحبه من حرفوش. قبضت عليها بيدها. رفضت أن تأكل منه. قالت لي أنها صائمة.كانت يدها الأخرى تمسك بيدي،وتكاد تقفز من السعادة، عندما توقفت،ورفعت رأسها إليَّ: عبدو .. عبدو. ثم سكت، وكأنها تفكر.قلت لها: نعم يا “حُب”.أكملت: أنا ماشية.ـ ماشية فين ؟!!ـ أنا ماشية خلاص.قاربت الشمس على المغيب، ومازلنا نجوب الشوارع. تحلَّقنا مع غيرنا حول الحاوي. تمشينا على الكورنيش. تفرجنا على واجهات المحلات، وركبنا المراجيح، التي كانوا ينصبونها من أجل العيد القادم.كانت “حُب” تتكلم دون توقف. تعلق على كل ما تراه.تضحك من الحاوي، وهو يخرج الأرنب من البرنيطة الفارغة. تضع يدها على صدرها في ترقب، وهو ينفخ النار من فمه عاليًا في الهواء.تصرخ فزعة، وهو يرمي بالثعبان علينا.نظرت ـ فجأة ـ إلى السماء، ثم التفتت إليَّ: ماما .. عاوزة أروح البيت.عدنا، كانت أمي بالشرفة بانتظارنا، وعند دخولنا وقبل أن تنفجر أمي في وجهي بادرتها “حُب”:متزعقيش لعبدو .. أنا السبب. وجرت إلى حضنها. تقبلها، ثم جلست على رجلها حتى نامت.انطلق مدفع الإفطار، وعلا أذان المغرب. صلينا،وحمدنا الله على شفاء “حُب”، ثم أكلنا أنا وأبي وأمي وأختيَّ هيام وغرام.كنا في إجازة الصيف، وكما تعودت، صليت التراويح بمسجد المحطة، وسهرت، أقرأ القرآن، حتى موعد السحور. كانت “حُب” مازالت نائمة، ولم نشأ إيقاظها. وقبل الفجر دوت صرخة أمي. جرينا إليها. كانت تبكي إلى جوارها بحرقة: “حُب” بتموت .. “حُب” بتموت. كانت أنفاسها ضحلة ومتسارعة. وضعت يدي على جبينها البارد، المغمور بالعرق. نظرت إليَّ: أنا بحبك يا عبدو. كنت مختنًقا بالدموع:خلاص ماشية يا “حُب”. أومأت لي بالإيجاب، ثم أغمضت عينيها. كانت تحرك شفتيها المكتنزتين بكلمات، وكأنها كانت تنطق بالشهادتين. خرجت إلى الشرفة، لا أعرف ماذا أفعل؟ رأيت كأن السماء قد انشقت عن طاقة من النور المبهر، وتعالت في السكونأذانات الفجر من كل مكان حولنا.**********

صوت أنثوي، رقيق، هتف بي: حمد لله على السلامة.انطفأت دائرتا الضوء الأصفر، المعلقتان بالسقف فوق رأسي.دفعتني الأيدي، القوية، الخشنة، وركلتني الأقدام بأحذيتها المصفحة، بقسوة لم أعهدها من قبل.لم ترحم ضعفي، أو عجزي.تلفتُّ ـ كالتائه ـ حائرًاحولي. كنت للتو خارجًا من بوابةالقصر. فقدت طريقي على الممر البازلتي، ولم أحظَ بشرف المقابلة، التيأعددت نفسي طويلًامن أجلها، ولم أذق طعم الثمار التي حلمت بقطفها، والاستمتاعبحلاوتها، تلك التي يدوم مذاقها بالفم.كنت أسمع عن النعيم الذي يتمتع به ساكنو القصر، فأُمني نفسي بدخوله، وبعد أن وجدتني مكومًا على بابه. يمتلئ كل جزء من جسدي ببقع زرقاء، عيناي متورمتان، وقدمي المهشمة تؤلمني. تيقنت أنني كنت واهمًا، وأن كل ما قيل عن القصر لا يربو عن كونه أساطير وخرافات. يتناقلها الناس. سقطت عن عينيَّ الهالة، المنسوجة حوله، وفقد رونق سحره الذي طالما داعب خيالي.تحاملت على ما بي من أوجاع، لأقف. فتشت عن عكازي. لم أعثر له على أثر. عرفوا حاجتي إليه، فصادروه. رفعت رأسي إلى اليد الممدودة، تأخذ بيدي. تساعدني على القيام. وقفت على قدم واحدة. جاهدت لكي أحفظ توازني. فتحت عينيَّ المتورمة ـبالكادلأرى. كنت أنا وهو وجهًا لوجه: أبي.كدت أحلق فرحًا في السماء. طالت غيبته، وأحزنني فراقه. هممت لأحتضنه. لكنهوكأنني غريب، سحب يده من يدي. تركني وحيدًا، أترنح، ومضى إلى مدخل القصر، ينتظر. ناديته: أبي. لم يرد. علا صوتي الباكي: هل أنت غاضب مني ؟!!كان المنادي ينطق باسمه: لقد حان دورك. ابتلعته البوابة القوس.سوف يستقبله الحراس، وسوف يأمرونه بالدخول إلى غرفة تغيير الملابس.سوف يلبس البدلة البيضاء النظيفة، لكي يتهيأ لمراسم المقابلة. سوف يمشي على الممر البازلتي الطويل. لن ينحرف مثلي عنه. لن تشغله صرخاتي وراء الأسوار، ولن يلتفت إلى أنين جدتي الآتي من خلف غابة الأشجار.فاتني أبي وحيدًا. أواجه مصيري بدونه. أبحث عن عكاز أتوكأ عليه. للمرة الثانية يتركني رغم علمه بهواجسي، والخوف الذي كان يملأني كلما غاب، أو ابتعد عني.سافر وراء أحلامه.بيت يبنيه بالبلد. فدان أرض ملك. زواج بناته، وسترهن. تعليمي. كانت أمنيته أن أدخل كلية الطب. أصبح طبيبًا، ويفتح لي عيادة بالبيت الذي سيقوم ببنائه.كنت أبكي، وأتساند إلى سور القصر، وكل عدد من الخطوات، أقف، وأخبط بيدي الدامية عليه، لعله يسمعني: هل أنت غاضب مني؟تعلم أني لم أحقق حلمك، وأدخل الطب. أعتذر لك. مجموع درجاتي، وولعي بالألوان، واللوحات، والطين والأحجار، ساقني إلى الفنون الجميلة.كنت أود أن أدعوك لتشاهد بعض اللوحات التي أكملتها. ستعجبك، وتسامحني عندما تراها. عرفت معنى مخاوفي، وقلبي المقبوض، وأنت تحتضنني، وتودعني قبل سفرك الوداع الأخير.كنت أحجل أم أتدحرج على الرصيف، فيظنني المارة شحاذًا، يستجدي عطفهم ونقودهم. أصرخ فيهم:أنا لا أريد مساعدة… أنا فنان ساقه بترت وليس يده… أرسم بيدي لا ساقي.طردني حراس القصر.ضربوني بالأيدي، وركلوني بأقدامهم. قالوا لي أن الأمور تشابهت عليهم،وأنني دخلت بطريق الخطأ، وقذفوا بي إلى الخارج، لأواجه أبي قبل أن تبتلعه بوابة القصر، مثلما ابتلعته كوة القبر، التي سدت عليه بالطوب والطين.كنت أرسم طريقه الطويل إلى الموت في عقلي فقط، دون أوراق أو ألوان. إسم اللوحة “وما تدري نفس”اليوم جمعة. فجرت رأس حسام حسن فرح المصريين في بغداد، وفجرت رأسه رصاصة.كغيره من المصريين خرج إلى شارع الرشيد. يحتفلون بالصعود إلى نهائيات كأس العالم. يرفعون الأعلام، ويهتفون بإسم مصر.اقتحمت سيارة مسرعة يقودها شاب عراقي جموع المصريين. مات أحدهم، وأصيب العديد بإصابات خطيرة. هاج المتظاهرون. حطموا زجاج السيارات، وواجهات المحلات. حاصرت الشرطة العراقية منطقة المربع. أغلقت الشوارع الجانبية والكباري المؤدية إلى شارع الرشيد. تطاير الرصاص في الهواء،واستقرت رصاصة في رأس أبي.وصل جثمانه مكفنًا داخل صندوق خشبي. تحمله طائرة شحن، كغيره من النعوش الطائرة التي كانت تتوافد إلينا من العراق في تلك الفترة، ومرفق معه بطاقة الهوية، وورقة صغيرة مبهمة، مكتوب فيها سبب الوفاة “كسر بالجمجمة نتيجة طلق ناري”.

**********

اللحظات الفارقة في حياتي قليلة، أستعيدها لحظة بلحظة. أمسك بها في محاولة لتجسيدها، وتخليدها فوق قماشي المشدود على الإطار الخشبي. أعيد اكتشافها من جديد. أتأملها عن بعد، خارج الزمان والمكان. أصوغها بالشخوص، والظلال، والألوان، دون تخطيط مسبق، وبلا تنميق، فتخرج بِكْرًابلا أقنعة، لهاموسيقاهاالخاصة، وطعمها، ورائحتها. تطفو اللحظة من الذاكرة. تواصل إلحاحها عليَّ. أقاومها حتي تختمر، فأجدني مدفوعًاإلى فرشاتي، وبالتة الألوان. كالمنوم مسلوب الإرادة، أترجمها إلى خطوط وألوان، وظلال.يطغى اللون الأحمر على مساحة اللوحة، كدمي النازف مني، وأنا ممدد فوق الطاولة باستقبال المستشفى، تقلبني الأيدي، يمينًا، ويسارَا، وأنا مستسلم لها، لا حول لي، أو قوة. يسكبون المحاليل على جسدي. يغسلون الجروح، والبقع الزرقاء المتفرقةفي كل جزء منه. يزيلون الرمال، والأتربة، والشوائب العالقة به. يحكُّون بالفرشاة الشحوم، وآثار عجلة السيارة الملتصقة بساقي.كنت واقعًاتحت تأثير المهدئات، والمورفين. أراقب ما يحدث لي في منطقة بين الوعي واللاوعي. أرى وجوهًاجادة، وجامدة،وسيقان مهرولة. تسعى هنا وهناك. تلبي ما يصدر إليها من أوامر، وتصل إلى أذني كلمات متناثرة. تقطع فترات الصمت. تأخذ كل كلمة منها إتجاهًا مختلفًا:ـ الحالة خطيرة.ـ أوقفوا النزيف.ـ جهزوا العمليات.ـ احضروا جهاز الأشعة المتنقل.تتمازج الروائح في أنفي، دماء، مطهرات، بنج، أعشاب بحرية، سدر، كافور، تراب ناعم، طين لزج،أخشاب محترقة، تخترق حواجز الماضي.طفل صغيربعيدًاعن الأعين ـيجلس القرفصاء على كرسي خشبي واطئ بزاوية الحجرة، يشاهدـواجمًا ـمن بين دموعه، جده عبد اللهمسجى في استسلام على لوح خشبي، فوق سرير معدني بلا مرتبة، مغطى بكوفرتة قديمة، وتحته طست غسيل كبير، وإلى جواره دلوان مملوءان بالماء.يضيف الشيخ مندي لأحدهما مقدارًا من السدر، ويفرك في الأخر الكافور. يعلو صوته:ـ الموت علينا حق…وحدوه …ـ لا إله إلا الله.ـ أكثروا من ذكر هادم اللذات…ـ إن كان لعبد الله دينًا فلتؤدوه.يسمي الشيخ مندي الله.يُدخل يده من تحت الكوفرتة القديمة.يجرد جدي عبدالله من ملابسه، ثم يقوم بتأدية طقوس الغُسل بحركات آلية، يحفظها عن ظهر قلب.يوضئه كوضوء الصلاة. يغسل رأسه برغوة السدر. يقلبه يسارًا ويمينًا. يغسله بالسدر، ثم الكافور، والماء البارد. يدخل طبقات الكفن الثلاث من تحته يحكمها بنظام عليه، ثم يعقده بسبع عقد عند كل طرف. يسكب فوقه زجاجة كولونيا خمس خمسات. ثم يرفعونه فوق الخشبة.يقوم الممرضون بوضعي على الناقلة المتحركة، يدفعونها عبر ممرات المستشفى، ينفتح باب المصعد، يدخلون بي إلى جناح العمليات، استسلم لوخزات الإبر. حقن، عينات دم، محاليل. ترفعني الأيدي. تضعني برفق على طاولة، تكتسي بجلد أسود. أتمدد. أُسلم ظهري ـ شبه مغيب ـ لطراوتها.

**********

في رحلة السقوط والدهاليز المظلمة، كنت على شفا جَرف سحيق. أمشي على مدق ضيق. تكاد قدمي أن تنزلق. أغمض عينيَّ. كنت كلما نظرت لأسفل، يصيبني الدوار. يختل توازني. أهوي في هوة عميقة. تسبقني صرخة رهيبة.هل كانت الصرخة لي أم لها ؟!! كنت أنا من يسقط، أم هيَّ ؟!! أحِل في نور، تحِل فيَّ. أعيش احساسها المفجع بالسقوط. أنظر لها. تنظر لي، ونحن معلقان بين السماء والأرض، هائمان، نبحث عن قرار. أناديها. تمد لي يدها. تعيدني إلى المدق الضيق على شفا الجرف. أستقيم عليه معتدلًا، وواثقًا. لا أميل يمينًا أو يسارًا، مهتديًابنورها. ليس بها غضب عليَّ.رأيت نورًا، وقد نبتَّ لها من ذراعيها جناحان. رفرفت بهما عاليًا في الفضاء.كانت تطير من شجرة إلى شجرة، حتى أوت إلى قنديل معلق فوق نخلة باسقة، لم أر لعلوها من قبل مثيلًا.تجاوزتُ مرحلة الخطر. البوابة القوس مفتوحة بلا حراس. أدلف منها إلى مرج الأشجار. أهرول عبر الممر البازلتي، لألحق بموعد نور عند النهر. تقابلنا بشوق عاشقين، باعدت بينهما السنين. احتضنتُ يديها بين كفيَّ،وجلسنا متجاورين على صخرتنا.همست لي: اشتقت للنهر .. أود أن أحتضن مياهه بجسدي. استرسلت بصوت أقرب إلى الموسيقى من كلام البشر. حكت لي عن حبها للسباحة، واجادتها لها: كانوا يلقبونني بالفراشة. انضمامها لفريق نادي الشمس. التدريبات الشاقة خارج وداخل حمام السباحة. اشتراكها في البطولات. صورتها الأبيض في أسود المنشورة بجريدة الجمهورية، مكتوب تحتها “نور عادل سباحة نادي الشمس تفوز في سباق 100 متر حرة ببطولة الجمهورية للناشئات”. أخبرتها بأنني أحتفظ بقصاصة للخبر.ضحكت مني وأنا أعترف لها بخوفي من الماء، وتجاربي الفاشلة في تعلم السباحة،العقدة التي لازمتني منذ صغري.كنا على شاطئ رأس البر، حملني أبي، وابتعد بي في المياه. فرد جسمي على سطحها، وتركني. وجدتني أغطس. حركت رجليَّ ويديَّ في حركات هستيرية، وأحسست بيدين قويتين تنتشلاني. كان أبي. بكيت في وجهه: لا أريد أن أتعلم العوم .. رجعّْني للشط.كانت نور تسمعني باهتمام، وابتسامة طفولية تملأ وجهها. أسكت فتكمل، وتسكت فأتكلم. أسأل وترد، وتسأل فأجيب. تستقصي عن حالي فترة غيابها.نجحت في إمتحان القدرات، ودخلت كلية الفنون الجميلة بالزمالك. حكيت لها عن ذكريات 8 شارع إسماعيل محمد: طارق فراج، وعمرو أبو العيون. موتهما الصادم لي، والندبات العميقة التي تركاها بقلبي.تخرجت من قسم التصوير.أعمل الآن مدرسًا للرسم،بمدرسة خالد بن الوليد الأعدادية. حولت غرفتي إلى أتيليه صغير. أنام وأصحو وسط اللوحات ورائحة الألوان.أختيَّ ـ هيام وغرام، تزوجتا.أختي الصغيرة حب التي ولدت بعد رحيلك، أصابها مرض غامض، وصعدت روحها إلى السماء في ليلة القدر.أخبرتها عن أبي الذي قتلته رصاصة طائشة ببغداد، وعودته ملفوفًا برقائق معدنية داخل صندوق خشبي. أعيش وأمي كغريبين في بيت واحد. أغرق داخل غرفتي في لوحاتي والألوان، بينما تجلس أمي أمام التليفزيون، تعاني الوحدة، والإكتئاب، حتى تنام مكانها على الكنبة.أغلق التليفزيون، وأوقظها. تتحامل على يدي حتى غرفة نومها،لترقد بمفردها على السرير الواسع، البارد.بدأت قبل الحادث رسم بورتريه لك من خيالي، لم أتمه. تنقصه بعض الرتوش. كنت أبحث عنها في وجوه كل من عرفتهن، أو كل من أتأملهن ـ وأنا سائر ـ في الشوارع، ولا أجدها.من حين لآخر أعود إلى لوحتك، وكأنني أرفع النقاب عن وجهك، أنُحي عنها غطاءها. أتأملها طويلاً، وأسأل نفسي: ما الشئ الذي ينقصها؟!!أتمنى لو كنت إلهًا أو صانع معجزات. أنفخ فيها، فتخرجين من إطار اللوحة. تقطعين علىَّ وحدتي. تتحركين أمامي. ترقصين. تغنين لي.تتكلمين معي. تحكين لي أخبارك طوال السنين الماضية.صورتك الماثلة أمامي وضعتني في مأزق. كنتِفيها نموذجًا لفتاة أحلامي التي تمنيت أن أعثر عليها. صورة مستحيلة انتهت بي إلى عدم الزواج.لم أستسلم لإلحاح أمي. قائمة طويلة من العرائس: جارات وأقارب ومعارف. يئستْ من رفضي المستمر. لم تعد تفاتحني في أمر الزواج. كانت فقط تدعو لي كلما رأتني: ربنا يهديك يا عبد الله يا ابن بطني.

**********

تعددت الأبواب. تشابهت. وأنا مكاني حائر، أتردد، بأي باب أقف؟! وأي باب أطرق؟!تخذلني الذاكرة. من أي منها دخلت؟! وأي منها أغلق دوني؟!دخلت، وخرجت، وما بين لحظتي الدخول والخروج زمن منسي، طال أم قصر مرَّ بي كاملًاكلمح البصر ـوأنا على حافة الجَرف، بين الحياة والموت، بين الوعي واللاوعي.أنظر إلى دائرتي الضوء المعلقتين فوقيببؤرتيهما المركزتين على قدمي وساقي. تومض حياتي في عينيَّ، كفلاشات كاميرا، بكل ما عبر بي من أحداث وصور. دوائر مضيئة، وأخرى مظلمة.أضع قدميَّ على نقطة البدء. أدور في دواماتها، لأنتهي حيث بدأت، لأكمل من جديد.تتعقد الدوائر، وتتداخل.تتقاطع. تتماس، وتتباعد، وتمضي حياتي بينها دون توقف، في تحرك دائم، مستمر. شلة صوف ملبكة بين رسغي يديَّ، وطرف الخيط بيد أمي، تلفه على نفسه، في دوائر متداخلة، وأنا أحرك يديَّ لأعلى ولأسفل، في محاولة لتخليص الخيوط الملتفة على بعضها، لتصير شلة الخيط كرة بين يديها،صالحة لشغلها بإبرتي التريكو.الدوائر تملأ فراغات عقلي، تسيطر على أفكاري، تنعكس على لوحاتي، تحرك فرشاتي عليها في خطوط منحنية، ودائرية، تتناثر فيها الألوان كحجر يسقط في بركة مياه ساكنة. وجه نور المريمي. الشمس المنطفئة خلفها، وقوس قزح المعلق في السماء فوقها.لوحاتي السابقة التي رسمتها ما بين أتيليه التصوير بكلية الفنون الجميلة وغرفتي، أو في الأماكن المفتوحة. الدوامة، غازل الصوف، العابرون، بائعة السميط، بيت جدتي، وغيرها.لا أذكر اللحظة التي أمسكت فيها بوجه نور الهارب من خيالي، وبدأت رسم بورتريه لها، صورة من لحم ودم، استوحيتها من الصورة الفوتوغرافية الأبيض في أسود وهي طفلة صغيرة، ومن الكلمات التي تغنت ببياضها، واحمرار خديها، وزرقة عينيها، ولون شعرها البني اللامع. لم أستوعب إلا متأخرًا، أنني كنت ألقي بعضًا من روح نور على كل بورتريه لمودل،أرسمها، فكانت صورة كل واحدة منهن إنعكاسًا لصورة نور داخلي، وكانت نور سيدتهن جميعًا، والملكة المتوجة عليهن. جمعت أجمل ما فيهن من ملامح، إضافة إلى غموضها المحير.كنت أترك لوحتها لأيام وأحيانًا بالشهور، لكنني كلما عدت إليها، أقف أمامها بالساعات، دون أن أضيف إليها أي رتوش، مكررًا على نفسي السؤال: ما الشئ الذي ينقص هذه اللوحـة ؟!!

**********

الملامح المنسية تطفو إلى السطح، تفرض وجودها على حيز الذاكرة، تتضح لي بصعوبة، تتشكل من جديد، تعيد رسم وجهه القديم، شعر أسود لامع،وكثيف، مدهون بالفازلين، ومُسَرَّحٌ إلى الخلف،جبهة عريضة، تتوسطها بقعة بنية، خشنة،من أثر السجود، وعينان سوداوان، واسعتان، تشعان بالطيبة، والإيمان.لم تفته صلاةُ جماعة بالمسجد. يعرفهكل مرتادي جامع عصفور، بصلاحه، وتقواه. وقاره، وكرمه الشديد. يغدق على الفقير، ويحنو على الصغير.آخر عهد لي برؤيته، كان قبل أن أسافر مع أسرتي بصحبة أبي إلى السودان.كنا نمر عليه ـ ونحن ذاهبون ـ أنا وأختي الكبرى هيام ـ بصحبة أمي. نراه جالسًابقهوة “قضا” على نفس هيئته. يلبس جلبابًا أبيض مكوي، وفوقه جاكتة بدلة.أمامه كوب الحلبة الحصى، وبيده لي الشيشة. تتواصل سعلاته الحادة، العالية، بين شدة نفس، وآخر. يرانا من بعيد، فيزيح المنضدة النحاسية المستديرة، وينحي الشيشة جانبًا، ويقوم عن كرسيه الخشبي المجدولة قاعدته بجريد النخيل. يتجه إلينا. يسلم علينا، ويعطينا قطع الشيكولاته.تحمل الرسائل أخباره إلينا، ألمح الدموع في عينيّ أمي، أسألها عن سبب بكائها: خالك “علي” تعبان ونقلوه المستشفى. تدهورت حالته الصحية، سعال مزمن مستمر، ينتهي ببصقه دماء حمراء. برزت عظام وجهه، وهزل جسده، ولم نعرف خبر موته بمستشفى الصدر إلا بعد عودتنا من السودان.على طول الطريق من المطار إلى البيت، كانت أمي تضع يدها على صدرها. أخبرتنا أن قلبها مقبوض، وعينيها ترفان، كنا نقرأ علامات الحزن في عيون كل من يقابلنا.نسأل، فتنحني الرؤوس، وتهرب العيون، وتتكسر الكلمات بين الشِفَات.كنت أرى، وأسمع، وأحس، وأعي، كان على نفس هيئته التي رأيته عليها مرارًا، الجلباب الأبيض، والجاكته، والمداس الأبيض، كان شابًا، ممتلئ الوجه، متورد الخدين، يشع جبينه نورًا، يركب فرسًاأبلق، وخلفه رجال بيض، سيماهم على وجوههم، عليهم ثياب من حرير أخضر، وبأيديهم رايات خضراء، يركبون على ظهور خيل بلق، لا تفتر شفاههم عن ذكر الله، والتسبيح بحمده،وهو سابق أمامهم، يكبر الله. رآني،فأشار للركب. توقفوا،وترجل عن فرسه.اتجه إليَّ، كما كان يفعل وأنا مازلت طفلًا بالصف الأول الإبتدائي. دس يده في جيب جلبابه الأبيض المكوي، وأعطاني بعض الحلوى. سألته:ـ طالت غيبتك؟!!ـ الرحلة بعيدة والسفر طويل.ـ ما هذا الذي قَدُمتَ فيه؟!!أشار إلى الفرس:ـ هذا عملي الصالح.ـ بماذا تأمرني؟ـ الصبر على البلاء والرضا بقدر الله.دعى لي بالشفاء،ثم التفت عن يمينه، ويساره، وأكمل: أبلغ الأهل السلام. ثم ربت كتفي،وصافحني، وقفز إلى فرسه، نخزه بكعبه في جانب بطنه، فانطلق، يصهل. تابعته.كان يصعد في موكبه إلى جبل من نور.تحفه على جانبي الطريقوجوه كأنها الشموس. يجلسون على مد البصر، وفجأة سمعت صوتًا يدوي، من فوقي، ومن أسفل مني: من هذا الروح الطيب؟!!ردَّ الجالسون: هذه روح علي بن فاطمة… اللهم أرزقه أهلًا أحسن من أهله .. وأبدله دارًا خيرًامن داره.

**********

أستعيد ما حدث. ماذا جرى؟!! الذاكرة تخونني. هل فقدتها ؟!! أي حادث أصابني، حملني إلى هذه الغرفة، ممدًا فوق هذا السرير، بملاءاته وأغطيت البيضاء؟!!كنت للتو قد دخلت دائرة الميدان.تمثال صاحب نهضة مصر الحديثة كما اعتدت رؤياه، ـرابضًا وسطه. مكتبة مدبولي تفترش الرصيف أمامها بالكتب، والجرائد، والمجلات. المشاة في كل في اتجاه، وأنا تائه بينهم بلا اتجاه، أو هدف.أتلكأ أمام واجهات المحلات، وأتفحص المارة.ربما أستوحي منهم فكرةللوحة جديدة.التعبير المرسوم على الوجوه ما يهمني. ماسح أحذية أمام قهوة. شحاذ محني الظهر، يركن إلى جدار.بائع عقود فل بإشارة مرور. طفلة صغيرة بيد أمها.فتاة بسيطة تتأمل واجهة محل. رجل عجوز يتوكأ على عصاه.لا أدري من أين أتاني اليقين أن ما رأيت هو وجهها.نور نزلت من سمائها إلى أرض الميدان. تسير على الرصيف المقابل وسط زحام المارة. اندفعت نحوها، أعبر الطريق، وكصفعة تنزل على خدي دون أن أدري من أين تأتي، طرت في الهواء، لأسقط. أرتطم بالأرض.تدهس عجلة السيارة قدمي، وساقي. أفيق من الصدمة على صوت بوق عربة الإسعاف. أرفع جفنيَّ المرتخيين، وكأنني أرى من وراء الضباب جمع من الناس يلتفون حولي. تتحرك شفاههم بكلمات لا أتبينها. برفق تدحرجنيالأيدي فوق الناقلة الخشبية. يبتلعني باطن عربة الإسعاف.فاجأني، قفز إلى جواري، وجلس عند رأسي، متأنقًا كما كان دائمًا. يلبس قميصًا، وبنطلونًا مكويين، ورابطة عنق عقدها باتقان. يضع يدًا على جبهتي، ويمسك بالأخرى يدي. يشد عليها. ينصحني بعدم اليأس، والاستسلام للضعف، والتمسك بالحياة مهما أصابنا منها، لأنها أولى أن تُعاش.كان يدعو لي، ويقرأ آيات من القرآن. يحاول أن يطمئنني.يسكت، وينظر إلى وجهي. يرى علامات الألم عليه. يتصنع ابتسامة عريضة، وبخفة ظله الموسوم بها، يلقي عليَّآخر نكتة. أفتح عينيَّ فلا أرى غير رجال الإسعاف.جمعتنا الغربة لسنوات على الفن، والأدب، والشعر. تلازمنا بالسكن الجامعي، والكلية.كنا نجوب شوارع حي الزمالك الراقي، بمبانيه العريقة، قصر الماريوت، مبنى اتحاد الكتاب، حديقة الأسماك، سفارات البرازيل، وألمانيا، وتونس، ولبنان، متحف الفن الحديث، متحف محمود خليل،برج القاهرة.كنا ندور على مسارح الدولة، الطليعة، والغرفة، والسلام. يأخذ كل منا حامل اللوحات، والأوراق، والألوان، ونتجول في القلعة، وحي الحسين، والأزهر، وخان الخليلي، ووكالة الغوري، والجمالية، وباب الفتوح،والمتحف المصري. كنا نتبادل معا كتب الفن التي نستعيرها. تعلمنا أصول الرسم، ابتداءً من القلم الرصاص، والفحم، وألوان الباستيل، والألوان المائية، والجواش، إلى الألوان الزيتية، والأكرليك.تعددت مواهبه،وأحبه جميع الزملاء، والزميلات. كانوا يلتفون حوله، يضحكون من نكاته. يغني لهم بصوته الجميل أغنيات عبد الحليم حافظ التي عشقها. يستعيد عليهم آخر قصيدة كتبها.في السكن الجامعي كنا نصعد في الليل إلى سطح المبنى، نفترش الأرض منا إلى السماء. نشرب الشاي، ونتسامر. يحكي لي عن البلد، بنت الجيران التي يحبها، ويكتب فيها قصائده.سكنت أسرتها من وقت قريب في الدار المقابلة، ألف رؤيتها كل يوم، في ذهابها، وعودتها من المدرسة، أو عند صعودها إلى سطوح الدار.لا يستطيع تحديد متى تحولت هذه الألفة إلى حب. تمر به، فيشعر بفورة الدماء إلى وجهه. يجد نفسه مدفوعًاإليها. لو يحتضنها. يقبلها.شجعته نظراتها المرحبة، ومثل كل قصص الحب في الحياة والأفلام، تبادلا السلام، والكلام، واللقاءات العابرة، والقبلات المسروقة.عندما نجح في الثانوية العامة، وتسلم جواب مكتب التنسيق: كلية الفنون الجميلة بالزمالك، كان سعيدًا ومهمومًا، حلم حياته تحقق. سوف يتعلم أصول الفن الذي عشقه، لكنه نفس الوقت سوف يبتعد عنها، لن يراها كل يوم.تمنى لو اختطفها، وحملها معه إلى هذه المدينة، يمسك يدها. يمشيان على كورنيش الزمالك. يأكلان الترمس والحمص، وكيزان الذرة المشوية.تطلق ضحكتها المنغمة، الرائقة لكلماته المرحة. يجلسان بكازينو النهر.يشربان عصير البرتقال”الفريش”.يصعدان إلى البرج. يلتصق بها في الأسانسير المزدحم. يلامس ثدييها النافرين. يستكين لهما. ينظران إلى القاهرة من أعلى، بمعالمها، مبانيها، ونيلها، ودخانها.صعقه خبر زواجها المفاجئ. أحس بصدره ينطبق، وروحه تنسحب. كأن جسده يسقط من فوق البرج، يرتطم بالأرض. لم يصدق. انهارت أحلامه في كلمتين: سارة تزوجت.أين ذهب عهدها، وهي تغني له: أنا لك على طول. كان يردد بتهكم: كلام أغاني.خلع الدبلة الفضة من بنصره، رمى بها في الهواء،وسافر إلى البلد.عاد منها شخصًا آخرًا.أطلق لحيته التي كان يحرص على حلاقتها كل يوم. صار حبيسًا لغرفته. لايخرج منها إلا للذهاب إلى الحمام. لايتناول إلا القليل من الطعام. اعتزل الزملاء، وقل كلامه.انخدش شئ ما داخله، وفارقته خفة روحه التي عهدناها فيه. لا قفشات، أو نكات. توقف عن الغناء.لم تعد علاقته بي كما كانت. انقطعت جولاتنا التي اعتدنا عليها. المرة الوحيدة والأخيرة التي رافقني فيها كانت زيارتنا لطارق فراج ـــــــــ زميلنا بالسكن الجامعي ــــــــــــ بمستشفى القصر العيني. بانت على وجهه علامات التأثر والحزن الشديد.فشلت في اخراجه من هذه الحالة. كان يكرر كلمات عن جدوى الحياة، ولماذا نحن دائمًا في حالة انتظار!! ننتظر ما يأتي به المجهول إلينا، زلزال يهدم المدينة فوق رؤوسنا، طوفان تغرقنا موجات مده، شق تنفرج عنه الأرض، يبتلعنا، رجل غريب يأتي من الخليج، يخطف حبك الوحيد، مرض خبيث يفاجئك، يسلب منك حقك في الحياة. كان يتساءل لماذا نحن سلبيون وغير فاعلين؟!! يجب أن نكون أكثر شجاعة. علينا أن نقتحم الموت، لا أن نجلس في انتظاره. اعترف لي بندمه الشديد على وقته الذي أمضاه في الغناء، وإلقاء النكات،فالطرب، والضحك يتطابقانتماما والحشيش، كلاهما يلعب بعقولنا، ويغيبنا عن قتامة الحياة التي نعيشها.فارقنا عمرو أبو العيون لأيام طويلة، ربما شهور. لم تصلنا عنه أي أخبار. حيَّرنا اختفاؤه، وفشلت كل تكهناتنا، حتى عاد إلى السكن الجامعي ذات يوم.رأيت فيه روحًا ممزقة، وعينين منكسرتين. التففنا حوله، نسأله عن سبب غيبته. كان صامتًا، لا يجيب. تركنا وجرى إلى غرفته. حاولت اللحاق به. أغلق بابها في وجهي.صباح اليوم التالي صحوت على صوت ضجة شديدة. هببت مفزوعًا من سريري. فتحت باب غرفتي، واتجهت نحوها. كان عدد كبير من الطلبة، والمشرفين يتزاحمون أمام باب غرفته. اخترقت جمعهم. رأيت صديقي الكسير، معلقًافي سقف غرفته، تلتف حول رقبته رابطة عنقه، ويتدلى رأسه المحتقن بالزرقة إلى جانب، وقد خرج لسانه من فمه المفتوح.

**********

مثل دودة القز التي أحبتْها، وكانت تضعها في علبة من الكرتون مخرمة. تتأملها في أطوارها المختلفة. تأكل ورق التوت. تدور حول نفسها.تنسج حولها خيوط عزلتها، وتدخل شرنقتها، وكلما زاد دورانها، زاد بعدها عن الخارج، لتموت مختنقة داخل كفن من حرير.كانت نور تختبئ خلف جدران غرفتها، خائفة من شئ ما. حبيسة تنتظر التحرر. تتوق للخروج من شرنقتها فراشة ذهبية. تتنقل بحرية بين الزهور، والأشجار.الفارق أيام قليلة بين نور التي كانت تلبس التنورات القصيرة، والقمصان المفتوحة بلا أكمام، والبنطالونات الضيقة، طالقة شعرها الطويل مموجًا،وسائبًا، وراسمة شفتيها المكتنزتين، بأحمر خفيف. تذهب للنادي، وتنزل حمام السباحة بالمايوه، وبين نور التي ترتدي الخمار، ثم نور التي حاربت أباها، وأمها لتغطي وجهها الملائكي بالنقاب،الذي رفعتُه عن اللوحة في لحظة من لحظات الحنين التي كانت تراودني من حين لآخر، لأتأملها، وأضيف إليها بعض الرتوش.فكرت في سر التحول الحاد في حياتها، وتدهور حالتها النفسية، وموتها المفاجئ الذي حط على رؤوسنا كالطير. كنت أنظر في العيون، وأنا على يقين بأن ثمة ما يخبئونه عليَّ.لم أجرؤ حينها على السؤال، لكنه الفضول ما يدفعني بعد مرور كل هذه السنين، للبحث والتحري.أستقصي الحقائق، وأصل إلى الدلالات، والاستنتاجات.كان بداخلي إحساس أن لوحة نورستكتمل، لحظة الكشف عن الحقيقة. سألت أمي. خالتي علية. جمعت بعض الجرائد القديمة. قرأت الكتب. هدفت لمعرفة خلفية الفترة التي رحلت نورفيها عن عالمنا.آخر السبعينات من القرن الماضيازدهرت الجماعات الإسلامية.جماعة المسلمين المعروفة بالتكفير والهجرة. الجهاد أو الجماعة الإسلامية، وغيرها. انتشرت أفكارهم بين طلبة المدارس،عن طريق بعض المدرسين، والطلبة، والطالبات.راجت بينهم كتبهم، ومطبوعاتهم، وشرائطهم.رسالة الحجيات، رسالة التوسعات، كتاب الخلافة، رسالة الهجرة، كتاب الثمرات الزكية في العقائد السلفية.حكت لي أمي عن ثورة أم نور، وغضبها، عندما أخبرتها أنها سوف تلبس الملابس الفضفاضة والخمار، وتغطي وجهها بالنقاب. صرخت فيها: هل أنت مجنونة؟ ماذا سيقول عنا الناس؟ دراستك!! مدرستك!! حذرتها: لا نقاش… الأمر منتهي. حاولت إقناع أبيها. كان أكثر حزمًا، وحسمًا معها: الواحد يبعد عن طريق ربنا خالص يا يتدين ويتشدد ويتجن … انسي هذه الفكرة تمامًا.كان يخشى على مركزه في القوات الجوية،وضياع الترقية الوشيكة، والمنصب الكبير المترشح له. كان يعلم بالتحريات الدائمة عن الضباط بالمراكز الحساسة والرفيعة، وأن أمرًاكهذا سوف يهدد مستقبله العسكري.دخلت نور غرفتها، شرنقتها، تحبس نفسها داخل جدرانها، وتبكي بجنون.يدخل أخواتها البنات عليها، وهي صامتة، لا ترد عليهن. يفشلن في إثنائها عما يدور برأسها. ينفجرن فيها: إن حدث مكروه لأمنا أو أبينا ستكونين أنت السبب.كانت على اقتناع تام بما ستقدم عليه. انقطعت عن مشاهدة التليفزيون. توقفت عن سماع الأغاني.واظبت على الصلاة، وقيام الليل. تحفظ سور القرآن. تقرأ كل ما وقع تحت يديها من الكتب السلفية.اكتشفها خالي عادل مخبأة بأحد أدراج مكتبها. لم يتمالك أعصابه. ثار عليها، ولأول مرة في حياته ضربها بشدة: من أين أتيت بها؟!! هل تريدين أن تأتي بمباحث أمن الدولة إلى بيتنا؟!! صادر الكتب، وقام بحرقها.كانت آلام نور النفسية أقوي آلاف المرات من آلام البقع الزرقاء المنتشرة بجسدها الشمعي، الأبيض. انتابتها حالة هستيرية. ألقت فيها بالكتب والكراريس والكشاكيل من الشباك. سقطت على الأرض. تشنجت عضلاتها. غربت عيناها. عضت لسانها، حتى نزف دمًا.سال اللعاب من جانب فمها. أصابها ما يشبه الصرع. التف خالي عادل، وأمها، وأخواتها حولها. لا يعرفون ماذا يفعلون.فجأة ارتخت عضلاتها المشدودة. كانت في حالة انهاك شديد. حملوها إلي سريرها، وسحبوا عليها الغطاء. راحت نور في نوم عميق.

**********

رغم يقظتي الكاملة كنت كمن يمشي في حلم. لا أصدق ما أراه. كنت كالمحموم، يقشعر جسدي، ويرتجف. صديقي ـ ربما الوحيد ـ عمرو أبو العيونـ معلق في سقف غرفتة. رحت أهذي، وأبكي بحرقة. أتحسس رقبتي بيدي، وكأن رابطة عنقه تلتف عليها، وكأنني ـ أنا ـ المشنوق، ليس هو.كانت كل أوراق لعبة الحياة والموت بيده. كان المتهم، والمجني عليه، والقاضي، والمنفذ. وقف عاريًا أمام مرآة ذاته.يحاسب، ويحاكم، ويصدر الأحكام. فتح الملفات، وفرغ الشرائط، واستعاد الأحداث. انكساراته، وهزائمه. اللطمات التي تلقاها، والصدمات التي حلت به. كان قاسيًا مع نفسه. لم يشفق عليها، أو يرحمها. وبلا مداولات أصدر حكمه الجائر عليها: الحرمان من الوجود.أربع سنوات من الدراسة، ولم يكمل الخامسة.كنت فيها قريبًا منه.ضمتنا غرف السكن الجامعي. تجاورنا بمقاعد المدرجات، وغرف الرسم، وجلسنا معا تحت برجولات الكليةالمقامة وسط حدائقها القليلة.كنت ألمس فيه رغم مرحه، ونكاته، وقفشاته، وانطلاقاته، شجنًا خفيًا. الألوان القاتمة التي تطغى على لوحاته، أغاني عبد الحليم الحزينة التي يدندنها، الأفلام، والمسرحيات التي يختار أن ندخلها.ورغم أن كليتنا كانت تتبع جامعة حلوان، إلا أننا كنا ننضم إلى زملائنا في جامعة القاهرة. نشاركهم في المظاهرات. اجتياح لبنان. مذبحة صبرا وشاتيلا. الانتفاضة الأولى. لائحة اتحاد الطلاب. كنت أرقب حماسه الشديد، وهو يهتف بأقصى صوته: فلسطين عربية … مش ولاية أمريكية. … مش هنخاف مش هنطاطي … احنا كرهنا الصوت الواطي.عرفنا طريق عطفة حوش قدم، المتفرعة من شارعحوش قدم، المتفرع من شارع الغورية، خلف جامع السلطان الغوري، بحي الحسين. نستمع لغناء الشيخ إمام عيسى، وعزفه على العود.نستمتعبألحانه الجميلة السهلة، وكلمات أحمد فؤاد نجم، ونجيب سرور. كلمات حادة، نارية، كطلقات الرصاص، يمتزج فيها الحس الشعبي، بالسخرية، بالأسى، بالشجن، بالعروبة، بحب مصر. يعلو صوت الشيخ إمام:البحر غضبان مابيضحكشأصل الحكاية ماتضحكشالبحر جرحه مابيدبلشوجرحنا ولا عمره دبل.يرتفع صوت عود الشيخ إمام ونحن نردد خلفه:والبحر بيضحك ليهوأنا نازلة أدلع أملا القلل.كنا مسحورين بالجو الاسطوري، وعبق التاريخ للقاهرة المملوكية، ونحن نقطع شارع الغورية العتيق، بمساجده، وأسبلته، وبيوته، وحواريه.البوابات والقباب، والمآذن، والمشربيات، والملاءات اللف.بعد زواج سارة، وصدمته الأخيرة، أغلق عمرو أبو العيون يديه المفتوحتين للحياة، ومباهجها.أدار ظهره للمدينة بميادينها وشوارعها، ومعالمها، بصخبها، وناسها، وايقاعها السريع. انقطع عن الصلاة، والذهاب إلى الكلية. كان كثير السرحان، والشرود، والتوهان. انفصل عمن حوله. عاش حالة من الاغتراب الوجودي المدمر، سبقت فترة اختفائه، ثم عودته.انتهت به إلى هذه الموتة البشعة، تاركًا وراءه رسالة مطوية.وضعها في صدر مكتبه، بين أوراقه، وكتبه، وألوانه. أتذكر كل كلمة فيها، وكأنها أمام عينيَّ، أقرأها الآن، وأستعيد الملحوظة التي ذيلَّ بها رسالته: أبلغوا عبد الله أنني أرجوه ألا يغضب مني.كنت مثبتًا إلى النقالة الخشبية بأحزمة تلتف حول جسمي الذي تسري إليه اهتزازات الطريق. جفناي ثقيلان. أسمع صوت بوق، يأتي من أعماق بعيدة. يختلط عليَّ الزمان، والمكان. لم أوقن إن كنت في سيارة اسعاف، أم داخل عربة لنقل الموتى!!كان جالسًاعند رأسي، أم كنت ـ أنا ـ من يجلس عند رأسه، ونحن في الطريق لقريته!! نودعه إلى مثواه الأخير.تكشفت لي حقيقة غيبته الأخيرة، وأسرارها التي أغمضت علينا.سافر إلى رفح المصرية.تسلل إلى الحدود. حاول اقتحام الشريط الشائك. كان يشتم، ويسب، ويرشق الجنود الإسرائيلين ـ المحتمين بالأبراج البعيدة العاليةبالحجارة، لكي يطلقوا عليه الرصاص. أراد ـ حسب قوله في رسالته الأخيرة ـ أن يموت بشرف.قبضت عليه إحدى دوريات شرطة الحدود.تم سجنه، والتحقيق معه بمعرفة أمن الدولة. تعرض لشتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، وبعد سلسلة طويلة من البحث، والتحريات في قريته، والكلية، والسكن الجامعي، وفي كل مكان طرقه، أو ذهب إليه، أطلقوا سراحه. عاد إلينا حطامًا. فقد نضرته. كان كشجرة يابسة، سقطت عنها أوراقها.**********

نفق مظلم، وطويل، يمتد في فراغ، لا نهائي.أسبح فيه بلا سيطرة على أطرافي، خارج نطاق الزمان، والمكان، وقوانين الطبيعة:القوة الطاردة المركزية، والجاذبية الأرضية، والنسبية.لا أدرك البداية، ولا أرى عتبة للنهاية، لأقف عندها. فضاء سرمدي، وأنا فيه ذرة متناهية في الصغر، هائمة بلا مدار، أو مسار، لا مستقر لها، أو قرار، مفتوح العينين، أو مغمض، لا فارق، تتعاقب عليَّ حياتي في مشاهد متتالية، وامضة، منذ كنت جنينًا ناضجًافي رحم أمي، الميلاد، الطفولة، السفر والعودة.أيام المدرسة، وكلية الفنون الجميلة. الرحلات، والإجازات. التخرج، والعمل. لحظات الفرح والحزن. الحياة، والموت.وجوه كل من قابلت في حياتي، الأحياء منهم، والموتى.كنت أنسحب من جسدي، أحلق فوقه، أتحسسه، فأجده قد تحول إلى كائن آخر. مخلوق أثيري يسبح في الفضاء، متخطيًاسرعة الضوء. أدركت غاية كل شئ. ألممت بالمعارف الإنسانية، العلوم، الطب، الهندسة، الكيمياء، الطبيعة، وما وراءها. صرت عالمًا بلغات البشر، والحيوان، والنبات، والجماد، على اختلافها، فهمًا، ونطقًا، وكتابة.تهبط عليَّ نفحات علوية، لحظات من الجلاء الروحي، من الصفاء، والشفافية. تبدو لي فيها نهاية النفق قريبة.دائرة من الضوء المبهر، تتوسط مرجًا، ممهدًا ببساط من السندس، ومرصعًابأشجار البرتقال، والليمون، وموشى بأنواع متباينة من الزهور، والورود، والرياحين،وفي الخلف نهر العطبرة، أو الأتبرة كما يسميه السودانيون.دعكت عينييَّ من أثر الضوء. دققت فيهما. أبي يلبس جلبابًا أبيض، وإلى جواره رجلأبيض البشرة، مشرق الطلعة، ظاهر الوضاءة. وجهه كقطعة من القمر، جبينه كضوء سراج متوقد، شديد سواد الشعر، يعلوه الوقار، أكحل العينين، واسعهما، مستقيم القوام، أشم، وسيم، قسيم، لا بالطويل، ولا بالقصير. وقفت مشدوهًا، كالمسحور، لا أنطق، أو أتقدم.أرنو إليه باعجاب. لمح أبي في عينيَّ التساؤل. بادرني: هذا عمك إبراهيم .. رفيقي وزميليهنا،وفي الغربة. سكت لبرهة.تبسم فيها عمي إبراهيم، فبانت أسنانه مصفوفة كلؤلؤات متفرقات، والتفتْ إلى أبي: إبنك .. عبد الله. أومأ له بالإيجاب. أكمل: بارك الله لك فيه .. وشفاه.أشار لي أبي بيده في حركة دائرية: هذه حديقة بيت عمك إبراهيم.بعد عودة أبي من المدرسة، وغدائنا، والقيلولة، يصحو. نتناول شاي العصاري.يسحب عجتله الصيني المسنودة إلى جذع شجرة الجازورين القائمة إلى يمينباب البيت، ويذهب إليه. ينضم إلى مجموعة من الزملاء، والأصدقاء ـ مصريين وسودانيين ـ بحديقة بيتعمي إبراهيم. تدور عليهم أكواب الشاي الساموطي،ويستمتعون بمنظر غروب الشمس على نهر العطبرة، ودخول الليل، وتحول لون مياهه المتوهجة بحمرة الشمس إلى الأزرق الداكن.ينعمون بنسمات الهواء الطرية، التي تلطف من حرارة الجو. يقضون أمسيات رائعة. يستعينون بها علي ليالي الغربة الطويلة. يتحدثون، ويتناقشون، ويثرثرون، وتتردد أصداء ضحكاتهم العالية.يتناقلون أخبار مصر التي يحملها إليهم الراديو عبر موجته القصيرة، أو يقرأونهابالصحف، والمجلات، تأتي إليهم متباعدة، ومتأخرة أيامًاعن صدورها. كانوايشترونها من مكتبة دبورة.كانوا يستمعون لصوت عمي إبراهيم المنغم، الرائق، وهو يتلو، أو يرتل عليهم آيات القرآن.يرددون عند وقفاته:الله .. الله عليك يا شيخ إبراهيم. ويستعيدونه.كان بحكم دراسته الأزهرية حافظًا للقرآن الكريم، عالمًا بقراءاته، وتفسيره، وأحكامه، وأسباب التنزيل. ملمًا باللغة، وعلوم الحديث، والفقه، والسيرة.حافظًا للشعر، والحكم. مطلعًا على التاريخ، وأمور السياسة. كان القلب من المجلس.يبسَّط لهم الشروح، والمعاني. يسرد عليهم قصص الصحابة، والأولياء، والصالحين. يبدي لهم تعليقًا عابرًا. رأيًا ثاقبًا.كانت رأسه مليئة بالحكايات، والنوادر.لا أنسى وجه أبي الممتقع، يوم أتى متأخرًا، يجيب على سؤال أمي: الاستاذ إبراهيم .. تعيشي انتِ. كان ـ كعادته ـ يجلس وسطهم، وكان نهر العطبرة يردد صدى ضحكاته. فجأة أمسك عمي إبراهيم بصدره. أصابته أزمة قلبية مفاجئة. نقلوه إلى الاسبتالية. كانت يد الموت أسبق من كل الأيدي الممدودة. فقد أبي متنفسه الوحيد في الغربة، واكتسى وجهه بحزن شفيف، ومن يومها ولسنين بعدها، كانت الكوابيس تفاجئه من وقت لآخر، فيقوم منتفضًامن نومه. يبسمل، ويحوقل، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.حاولت التقدم نحوهما. أريد أن أضمهما إلى صدري. مد عمي إبراهيم كفه في وجهي، وبلهجة حاسمة، قال لي: عد .. لم يحن وقتك بعد.**********

عالم رمادي قائم بذاته، يقع على الحافة، ما بين تخوم الحياة والموت.ضمت حدوده جسدي الممزق، بجروحه، وبقعه الزرقاء.في فضائه تعلقت روحي.كنت واقفًامكاني كما أنا، لا أستطيع التوغل فيه، ولا أستطيع الرجوع. تسبح حولي أشباح، وجسيمات، وكائنات أثيرية. أراها، ولا تراني. الأرض تعود إلى أصلها، سديم أولي من غازات كثيفة، وغبار كوني، ينتشر في فراغلا نهائي. لا انقباض، أو انبساط، توقفت دقات قلبي. لم أحتمل سريان المخدر في دمي.انسلخت من جسدي، خف وزني، علوت فوقه، ارتكنت إلى سقف الغرفة. كنتُ في مجال رؤيتي، ممدًا على طاولة العمليات، مسبل العينين، شاحب الوجه، بلا حراك. تصرخ حنان ـ ممرضة العمليات:المونيتور يا دكتور أسامة. ينسحب دكتور أحمد عماد ومساعدوه، الجالسين عند قدمي المغطاة بملاءات خضراء. يبتعدون عن الطاولة. يترقبون من بعيد.وفي لمح البصر يقفز طاقم التخدير. يحيطون بي. يكسرون أمبولات. يحقنون يدي، وقلبي بها.يضغط دكتور أسامة بيديه المضمومتين أسفل صدري ضغطات قوية متوالية. تدفع دكتورة سلوى الهواء من بالون أسود منتفخ، ومتصل بإنبوب داخل فمي.تنظر إلى المونيتور. يعلو صوتها:لا فائدة.تأمر. يأتون بجهاز، يتحرك على أربع عجلات. يمسك دكتور أسامة بقطعة من الحديد لها يد تشبه المكواة. يبتعد الجميع عن طاولة العمليات. يضعها على صدري، فيصدر عنها صوت مدوي، وتسري إلى جسدي صعقة كهربية مفاجئة، يرتج لها بشدة. أرتج.أعودُ إليه.يدق قلبي من جديد.يندفع الدم داخل شراييني إلى رأسي، وأطرافي الباردة. يتدفق الهواء إلى صدري.يعلو صوت أنفاسي. يتحول إلى شخير منتظم، ورتيب. تتسارع حركة عينيَّ، وراء جفنيَّ المغلقين.تتراءى لي أشكال تتحرك، وظلال ترقص. ضباب كثيف، وسحب دخان، وغبار.امتطيت إحداها، أم حملني عفريت من الجن، أم أقلتني مركبة فضائية؟!! عبرتُفضاءات لا نهائية. كنت أنتقل كل طرفة عين بين عوالم متغيرة، ماض، وحاضر، ومستقبل.الميلاد، والموت، وما بينهما.حططت على مشارف صحراء مترامية الأطراف.تطوقني الجبال من كل جانب. كنت مرتديًا ملابس الإحرام، وكنت أسير في جموع من البشر، تلبس مثلي. يدفعني تيارها الجارف في طريقها دفعًا. دعكت عينيَّ. كنت أطوف معهم حول الكعبة. زاحمت، وعانيت، وجدتني منكفئًا على وجهي، دامع العينين، أقبل الحجر الأسود. أحسست بيد على كتفي العاري. التفتُ: من؟!!ـ جدك الكبير.ـ جدي خضر.أخذ بيدي لأقف، وابتسم:تمنَّ يا عبد الله.لم أستطع أن أكف دموعي المنهمرة.رجوته: أريد أن أراه.أعطاني منديلًا أبيض من القماش، يفوح برائحة المسك:امسحها. وأشارإلى الدموع على خديَّ. دفست وجهي في المنديل.رفعته. اختفى جدي خضر. تاه في الزحام، وجرفه طوفان الطائفين بعيدًاعني.مات قبل أن أولد بسنوات طويلة. استجمع حكايات جدتي فاطمة التي لا تنتهي عنه.مطبوعة بذاكرتي. أستدعيها حية أمامي. أسرح معها، وأتخيلها. نوادره، وكراماته.جسده المهيب، وطوله الفارع. وجهه المشرق، وزبيبة الصلاة على جبينه. شعره الأشيب، وذقنه الطويلة، البيضاء. رقته المتناهية، وعدله مع زوجاته الأربعة.أتاه الرسول في المنام، وسلم عليه. عزم النية، وأقسم ألا يبيت. حزم الأمتعة، وجهز المؤن.الخبز الجاف، والجبن القديمة، واللحم المحمر المدفوس في الدهن السائح.ودع الأهل، والجيران، وشد الرحال من بركة الحاج،لتلحق بأحد القوافل المتجهة إلى الحجاز. لم ترده المخاطر، والمشاق.قلة الطعام، والماء. الأفاعي، والعقارب. السباع، وقاطعو الطريق. قطع الأراضي، والصحاري الموحشة.شمس حارقة، وبحور من رمال بيضاء، ناعمة،وغزيرة.يستعينون بالأعمدة الحجرية المشيدة، تهدي خطاهم على طول الطريق. تغرب الشمس، ويحل الليل. يرون القناديل المضاءة بالزيت، ترتفع على أعمدة خشبية فوق المنازل، والمناهل، فينخون الجمال المتعبة. ينزلون عنها. يستريحون. يغسلون وجوههم المغبرة، وينهلون من عيون الماء العذب، ويسقُون جمالهم. يُصلون جماعة، ثم يتناولون عشاءهم. ساعتين وتدوي طلقة مدفع. يتأهبون لمواصلة المشي على ضوء المشاعل، وعند منتصف الليل يأخذون قسطًا آخر من الراحة. يستمرون بعدها في مسيرتهم حتى الفجر، ومابين طلقات المدفع، والمسير، والراحة، يواصلون رحلتهم،لأيام طويلة تتعدى الشهر. يمرون فيها على مدن، وقرى، وصحاري، وعيون، وأسواق، وخانات، وآثار من الماضي.حصون، وقلاع صخرية، وبيوت خاوية على عروشها، وقبور لحجاج قضوا نحبهم.عبروا وادي النار أو درب الموت من العقيق إلي ينبع النخل. مكثوا بها أربعة أيام، يستردون قواهم المنهكة، ويستعيدون عافيتهم. توجهوا بعدها إلىالمدينة المنورة.قضى بها أيامًاً مليئة بالنفحات الروحية.صلى، وبكى إلى جوار قبر الرسول. سمع صوتًا علويًا يناديه: ياخضر.لم يسمع اسمه رائقًا، ومنغمًا بمثل هذا الإحساس الجميل من قبل. صوت له حلاوة، وعليه طلاوة. تلفَّتَ حوله في كل اتجاه. لم يدرك مصدرًا له. أكمل الصوت مطمئنًا: أبشر فمن رآني فقد رآني.توجهت القافلة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق توقف الركب عند الحديبية. ترجل عن جمله. قبض حفنة من ترابها. تشممها، ثم تمتم، ودموعه تنهمر على ترابها: والله لأشم رائحة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر. وصل مكة، ودخل الحرم من باب السلام. طاف طواف القدوم بالكعبة، وسعى بين الصفا، والمروة في خشوع ضارع، وبكاء خفي. بسط كفيه إلى السماء يناجي ربه في صمت، وصدق، ورهبة: رب اغفر وارحم، واعفو وتكرم، وتجاوز عما تعلم، وما لا نعلم. إنك أنت الأعز، الأكرم.ثم جلس على عرفات، يلبي الله، وفوقه كما كان يدعوه، لبى نداءه. فاضت روحه، ودُفن إلى جوار صحابة رسول الله بالبقيع.سحابة الدخان تتشكل من جديد، تضيئ بنور وامض، براق.شف عنه. تجلَّى لي. لن أخُطئه.إنه يقينًا هو.رأيته من موقعي، في زاوية سقف غرفة العمليات، كان يضع يده الكريمة على قلبي المتوقف. سمعته. قال له: عُد حيا، منيبًا. وجِلًا. تقيًا.سليمًا. معاف. فعاد قلبي إلى الحياة. طمأنني، ثم ودعني، وقال لي:أبْشِرْ.

**********

ظلمة من بعدها ظلمة،ومن ورائها ظلمة، وأنا خلف الظلمات حبيس ينتظر أمرًا بالافراج. أناجي السماء المعتمة، وأتطلع لبزوغ قرص الشمس الغائبة. تخرج لي أفعى رقطاء، لها ألف رأس، يتدلى من كل رأس لسان مشقوق، يلمع جلدها المبرقش في الظلام بضوء فسفوري، تفح في وجهي بالكلمات عارية، بلا مواربة، أو خجل، أو تنميق.-هذا كذب… افتراء.-إنها الحقيقة… كل الحقيقة.ـ -لا… لن أصدق.كانت تتلوى أمامي، فتشي حركات يديها، وتعبيرات وجهها، بأنها تحكي عن واقع عاشته، وعاينت أحداثه، تتكلم عن حقيقة مؤكدة، غير قابلة للجدل، وكانت كلماتها المكشوفة تخترق قلبي الموجوع كنصال خناجر مسنونة، تدمي جراحها روحي، المعلقة بين السماء والأرض.في رحلة قطار الذكريات، والسيارة الأجرة، والبحث، والتحري لم أصل إلى يقين. تعبت، وهدَّني التعب. تهت، وكدت أفقد الهدف. ضللني المارة عن قصد، أو غير قصد، لولا احساسي الداخلي، وإشارة الرجل الذي يشبه خالي علي، ما كنت لأصل. سرتُفي نفس طريقها. الشوارع نفسها التي كانت تقطعها من البيت إلى المدرسة: القبة الثانوية بنات. قابلتُجيرانًا، وزميلات، ومدرسات قدامى،عجائزَ، تقدم بهن العمر. كنت أعيد عليهن السؤال عنها، فيشيح بعضهن دون تفكير علامة عدم التذكر، ويعتصر البعض جباههن بين السبابة، والإبهام، ثم يضحكن لا أدري بتهكم، أم أسى: نور.كانت كل واحدة منهن تجود عليَّ، بما تجود به الذاكرة عليها، وأنا مبهوت، ومصدوم مما أسمع.العلاقة المبهمة بينهما، نور بنت السابعة عشرة، والاستاذ رمضان، قارب على الأربعين. طوال حصة الكيمياء تتابعه بولهِ مراهقة تتفجر مشاعرها للمرة الأولى، لاتخفض عينيها عن وجهه ـ كما تقول:يشبه عمر الشريف. يقف أمامها فيتلجلج، وينقطع خيط الشرح. يندفع إلى السبورة، يداري فيها حمرة الخجل، يكتب عليها عناوين،وقوانين، ومعادلات. تلتفت البنات إلى نور، ويكتمن ضحكاتهن.كان الاستاذ رمضان مأخوذًا باللمعة الغامضة في عيني نور الزرقاوين، وقوامها الرياضي الممشوق، وصوتها الدافئ، الخفيض. الزهرة الندية الموشكة على التفتح، الحائرة بين عتبتي الطفولة، والأنوثة. فِراشةُ نادي الشمس هامت به، وهام بها. كانت تقتحم خلوته بغرفة المدرسين، تتحجج بعدم فهم معادلة ما، أو جزء من الدرس، فيفرح بها كطفل وجد لعبته. يطيل لها، ويسهب في الشرح، وكأنه لا يريد أن ينتهي حبل الكلام الواصل بينهما.بين يوم وليلة أطلقالاستاذ رمضان لحيته، ولم يره أحد إلا وهو يمسك بالمصحف، يقرأ فيه بين حصة، وأخرى. يعلو صوته بأذان الظهر من مسجد المدرسة الصغير. أيام قليلة ولبست نور الملابس الطويلة، الفضفاضة، وغطت رأسها بالخمار. غاصت بفكرها، ووجدانها في الكتب التي كان يعيرها لها. تلك الكتب التي اكتشفها خالي عادل مخبأة بدرج مكتبها، وقام بحرقها.عندما جاءت على لساني سيرة الحجاب، والحرب الضارية التي شنتها نور في سبيله، تجرأت إحدى زميلاتها، وأخبرتني وكأنها تلقي بحقيقة مؤكدة: كانت نور تداري فيه بطنها المنتفخ.كنت قد التقيت بها في الحفل السنوي الذي تنظمه خريجات دفعتها بالمدرسة الثانوية، عرفت أنها تعمل طبيبة أمراض نساء وتوليد بمستشفى منشية البكري،لم ألمح في يدها خاتمًا للزواج، وكان وجهها الدميم، المتواري خلف طبقة سميكة من المساحيق، ينطق بالحقد: مرَّ عليَّ بالمستشفى كثيرات مثلها.صرخت فيها حتى أفزعتها: كفى .. نور سيدتكِ .. وسيدة الكون جميعه.وسط آلام الروح، والجسد، والظلمات الثلاث، انزلقت رأسي فيما يشبه المخاض، لأرى النور، وقد عمَّ من حولي. طالعني عالم غير العالم. صف من الرجال، وبينهم الاستاذ رمضان بوجهه المصري الأسمر، ولحيته النابتة، كان كل رجل منهم ـ مثل ساحر، يمسكبعصا. جلسوا على بساط النجيل الأخضر. وضعوا عصيهم أمامهم. حلقت حمامة بيضاء في الفضاء، ورسمت نصف دائرة في السماء، وحطت على عصا الاستاذ رمضان، ثم طارت مرة ثانية.نور الطاهرة، البريئة، الجميلة، تسند ظهرها إلى جذع نخلة يابسة. كانت في ردائها الأزرق الفضفاض، وكان شعرها البني الناعم سائًبابلا غطاء. يمر بجانبها جدولٌتشقق مجراه، وجفت مياهه. رفعت يديها عاليًا إلى السماء. لمستْ جذع النخلة، فاخضرَّ جريدها. هزته فتساقط البلح ناضجًا. مسحتْ حافة الجدول، فجرى بالماء باردًا، وعذبًا. أكلت حتى شبعت، وشربت حتى ارتوت.……………………………………………………….وبعد رأسي انزلق جذعي، ثم قدميَّ. وجدتني وليدًا بين يديها. أنعم بنظرة عينيها الحنون، ودفئ صدرها البض.

************

تنعكس أضواء المشاعل المرتعشة على سلاسلمن الجبال، والتلال. ترقص فوقها أشجار الصنوبر، والبلوط، والسنديان،ويحيط قوسهابسور المدينة الطويل، المتعرج، العالي، المشيد من حجارة يميل لونها إلى الحمرة، بأبراجه المربعة، وبواباته الخشبية،الضخمة، العتيقة، وخلفي يترامى بساط ممتد من رمال الصحراء.هبطت الوادي المنبسط بينهما.كان القمر في ليلة اكتماله، وكان عليَّ الاختفاء، والتسلل إلى الداخل. راقبت الحراس المدججين بالسيوف، والرماح، المحتمين بالأبراج، والراجلين أمام البوابات، والراكبين خيولهم. يدورون في نوبات حراستهم الليلية حول السور.انشقت الأرض، وقفز عمرو أبو العيون من حفرة بباطنها. كان يقذف رؤوسهم بالحجارة، ويركض كمجنون تجاههم. أمطروه بسهامهم، ورماحهم. كانت تخترق جسده، دون أن تصيبه بأذى.حاصروه. كان يفلت من أيديهم كالماء. انطلق كأحد سهامهم. لم يدركوه. وفي ومضة عين تسلق خفيفًاالسور الشاهق الارتفاع. أشعل النار في الراية الغريبة، المرفرفة عليه.وآتانيصوته،كأنني أسمعه في المظاهرة بالأمس:فلسطين عربية .. مش ولاية أمريكية. يرن صداه عاليًا. يملأ الدنيا حولي، بينما كان طيفه يتلاشى وراء الأسوار.أمسكتُ بحفنة من التراب، وسميتُ الله. نثرتُها على وجوه الحراس الحمراء، المنتفخة، فكان من بينهم سدًا، ومن خلفهم سدًا. أصابتْ عيونهم غشاوة. لم يروني، وأنا أتقدم وسطهم، بلا عكاز، ساقي اليسرى ـ كما كانت قبل الحادث سليمة، لا أشعر بأي ألم، أو عرج بها.أعبر بخفة من أول بوابة، مررت عليها.استقبلتني رائحة زهور البرتقال، التي لا أخطئها وطالعتني أشجار التين، والزيتون،والمشمش، وبساتين الكروم. قطعت دروبًا ضيقة، ملتفة،ومبلطة بالبازلت، ومضاءة بقناديل الزيت. تكتظ ببيوت عتيقة، أغلبها من طابق واحد، يعلو الطابق الأرضي، ومبنية من الحجر المنحوت، والمسوى، ولها شرفات خشبية مغطاة. أطلت نور من إحداها عليَّ، بوجهها المريمي، البرئ.لمحت في عينيها نظرة لوم، وعتاب. هزت رأسها، تحييني بابتسامتها الغامضة، ثم اختفت.واصلت سيري وحيدًاتحت بوائكها. كانت أبواب الحوانيت الخشبية، على الجانبين مغلقة، والأسواق ذات القباب فارغة من الباعة، والمشترين. دلفت من درب إلى درب. عبرت جسورًامن خشب الأرز. خرجتُ إلى ساحة فسيحة. كانت العمائر الغارقة في ضوء القمر تتباعد خلفي، بصوامعها،بقبابها، ومآذنها، بأجراسها، وأبراج كنائسها،لتدخل في الصورة ـ أمامي من بعيد ـ ربوة عريضة.رأيت فوقها قبة ضخمة، عالية، منحوتة من الحجر، مقامة فوق بيت، ذي شبابيك طولية، مستطيلة. عجبت كيف رُفعت هذه القبة ـ هكذامن مكانها.نسمات السَحَر الباردة، تلف جسدي الضعيف.اقتربتُ. اتسعتْ زاوية الرؤية. تظهر نور من جديد. تقف فوق السطح أمام القبة. تحيط بها غلالة من الضوء الشفيف الأبيض. ينعكس على وجهها، وجسدها، فتبين وكأن النور ينبعث منهما. تغطي رأسها بطرحة فضية، تتلألأ كالنجوم في الظلام، المخيم حولها، وتلبس رداء له زرقة السماء. كانت تضع يدها على صدرها، وتحني رأسها لأسفل، علامة على الحزن. تحركت ببطء، كشخص يسير أثناء النوم. اقتربت من الحافة. خفت عليها أن تسقط. لن تسقط مرة ثانية. أسرعت نحوها، أحذرها، أتلقفها بين يديَّ إن هوت. تبدد نورها في الفضاء. تلاشت.قوة خافية كانت تدفعني. تشدني لأعلى،فأصعد التل لاهثًا. تنفتح لي زاوية أخرى للرؤية.يبدو لي من بين ثناياها مسجد عجيب، فائق الحسن، لم أرَ في حياتي مسجدًا أكبر منه، له أبواب عديدة، مموه بالذهب، ومطلي بأصباغ رائقة، كأنها جفت للتو. تنتصب عند زواياه أربعُ مآذن شامخات.ما إن وضعت قدمي على عتبة بابه الشرقي، حتى استقبلني صبيان جميلان، أمردان. ناولني أحدهما إناءً من اللبن. شربته لآخر قطرة، ثم أعطاني سبع تمرات، قال: تعيذك من السحر، والأذى. أكلتها، ووضَّأني الآخر بإبريق ماء دافئ، ثم أفسحوا لي الطريق إلى الداخل. رواق أوسط، فسيح، مزين بفسيفساء بديعة، وآيات قرآنية، نقشت على جدرانه المرمرية، وفي نهايته قبة عظيمة الهيئة، والمنظر، كروية الشكل، ومغطاة بألواح من الرصاص، تقوم على أربع دعامات حجرية.كان أذان الفجر يعلو بصوت جليل من إحدى المآذن، يتردد بعيداً في الفضاء، تهتز خلايا جسدي، تخشع جوانحي، تغوص قدماي في أبسطته العجمية، أنتحي جانبًا إلى جوار منبر، أشم فيه رائحة خشبه المحروق. أصلي ركعتين، أنتهيت منهما، وكَمُنتُ مكاني.تسلل إليَّ صوته الجميل -عمرو أبو العيون ـ يرفع الاقامة. التفت إلىالوراء، اتسعت حدقتا عينيَّ.اتضحت لي وجوههم على الضوء الشحيح للقناديل الزيتية المشتعلة. هبَّوا واقفين، وأنا معهم. تراصوا في صفين. في الوسط رجل أشيب الشعر، زبيبة الصلاة تنير جبينه العريض، طويل الذقن، أبيضها، بلا شارب، دققت فيه. من؟!! جدي الكبير خضر!!وقف خاشعًا عن يمينه جدي عبد الله، وخالي علي، وخالي عادل، وعن يساره وقف أبي، وعمي إبراهيم، وفي الميمنة طارق فراج، وعلى الطرف الآخر عمرو أبو العيون، وفي الخلف اصطفت جدتي فاطمة، ونور، وأختي الصغيرة حب.وضع جدي خضر كفه على ظهري. دفعني برفق، وقال لي: تقدم… أنت إمامنا. كنت ألبس سروالًا أبيض، وقميصًاأبيض، وفوقهما عباءة مزركشة، برسومات من القصب الملون، لفروع، وأوراق أشجار.كان صوتيالمتبتل، الخاشع يتهدج في الركعة الثانية، فتنهمر دموعي غزيرة، وأنا أتلو الفاتحة، ثم سورة النصر.