من فترة طويلة لم نشاهد الحدث الفلسطيني يحتل شاشات الأخبار كما فعل في الأيام القليلة الماضية فقد انقسمت هذه الشاشات، ولنقل بعضها بشكل أدق، لتغطي ذلك ليس في القدس فقط، في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وإنما أيضا في رام الله وغزة بل في حيفا والناصرة كذلك هذه المرة.مرة أخرى، يثبت الفلسطينيون أنهم هم، وليس أحد غيرهم، من يحرك قضيتهم ويعيدونها إلى صدارة الأحداث والأجندة الدولية وليس تمتع هذه القضية بالعدالة والمشروعية في وقت رغب فيه كثيرون في أن تتوارى هذه القضية للأبد.لنتخيّل أن ما جرى ويجري هذه الأيام كان أيضا على خلفية إجراء الانتخابات الفلسطينية التي كانت مقررة في 22 من هذا الشهر لاسيما وقد كان من المفترض أن تكون هذه الأيام أيام حملات انتخابية للمجلس التشريعي بعد 15 عاما من الغياب. كان يمكن لتحركات المقدسيين المختلفة أن تكون بعناوين مختلفة ومتكاملة: ضد انتهاك حرمة المسجد الأقصى في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان وضد سياسة التهويد والاستيطان في القدس على غرار ما يجري في حي الشيخ جراح وكذلك ضد مصادرة حق المقدسيين في ال في الانتخابات ترشيحا وتصويتا وحملة انتخابية، وبالتالي يتشابك النضال الوطني بالنضال الديمقراطي تحت عنوان عريض هو القدس عاصمة لدولة فلسطين التي ستظل شوكة في قدم الاحتلال.لو كانت الانتخابات التشريعية الفلسطينية، التي ألغيت بسبب رفض إسرائيل السماح بإجرائها في القدس، جزءا من «حزمة التصعيد» الحالية لكان من الممكن أن يجد المقدسيون من القوة والجرأة ما يجعلهم لا يعدمون أي حل مبتكر لل في الانتخابات، رغم أنف الاحتلال، كوضع صناديق الاقتراع في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة. كان القمع الإسرائيلي سيكون مفضوحا بصفته ضد تطلعات الفلسطينيين الوطنية والديمقراطية في آن واحد.
الزيارة التي أداها وفد من القناصل والدبلوماسيين الأوروبيين إلى حي الشيخ جراح صباح أمس الثلاثاء للقاء الأهالي المهددين بالاقتلاع والطرد من منازلهم ظلما وعدوانا كان يمكن أن نشهد مثيلا لها إذا ما أقدمت قوات الاحتلال على اقتحام المسجد الأقصى وكنيست القيامة لمصادرة صناديق الاقتراع وتشتيت الناخبين. صحيح أن ذلك سيجعل من هذا التصويت مستحيلا ولكن صورة إسرائيل وهي تركل الصناديق وتكسرها وتعتدي على مدنيين جاؤوا لانتخابا ممثليهم ستكون صورة قوية الأثر للغاية في عالم يرى من الطبيعي أن يصوّت الناس في كنف الأمن والأمان.على أية حال، الوقت الآن ليس للتحسر على فرصة ضائعة كهذه بقدر ما هو وقت استغلال العودة القوية للموضوع الفلسطيني للسعي لتحقيق جملة من الأهداف الأساسية أهمها:أولا أن القدس قضية مركزية واهم من يعتقد أن رئيسا أمريكيا موتورا مثل ترامب قادر على أن يقرر مصيرها على مزاجه فيمنحها عاصمة لإسرائيل رغم اعتراف كل العالم تقريبا بأنها جزء من الأراضي المحتلة وبأن معظمه لا يرى القدس إلا مدينة موحدة يكون جزءها الشرقي عاصمة دولتهم المقبلة.ثانيا، إظهار أن المسألة الفلسطينية وحدة واحدة ومترابطة سواء في القدس أو الضفة الغربية أو غزة بمعنى أنه لن ينعم الإسرائيليون بالأمن في أي من هذا المناطق إذا لم تتخلص كل هذا المناطق مجتمعة من الاحتلال وفق قرارات الشرعية الدولية. هذا سيقضي بالكامل على أوهام البعض في التفكير في غزة كموضوع منفصل، وكذلك الضفة أو القدس.ثالثا، إقناع كل الدول العربية التي تورطت في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل أنها لم تحسن صنعا على الإطلاق وانها ستجد نفسها باستمرار في موقف شديد الاحراج وهي توطد علاقاتها مع دولة تحوّلت عمليا وبوضوح إلى دولة فصل عنصري كاملة، مثلما أعلنت ذلك منظمة «هيومن رايتس واتش» العريقة. وفي الوقت الذي كانت فيه أغلب دول العالم تقطع علاقاتها مع دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى سقط نظامها البغيض مطلع تسعينيات القرن الماضي، من المخجل حقا أن نرى دولا عربية تسارع في مد اليد إلى إسرائيل وهي في أسوأ صورة دولية عوض تكثيف ال في مقاطعتها وعزلها حتى تقبل بتسوية عادلة، على الأقل وفق القانون الدولي وليس أي شيء آخر.رابعا، التوجه إلى إدارة الرئيس الأمريكي بايدن برسالة مفادها أنه من العبث وعدم الانصاف أن تواصل التعامل مع الفلسطينيين بتلك النظرة المتحاملة التي تؤيد إسرائيل على الدوام وتجاملها على حساب معاناة شعب كامل أو في أحسن الأحوال تساوي بين ما تفعله بحق الفلسطينيين وما يفعله هؤلاء للدفاع عن أنفسهم. هذه الإدارة التي رغم بعض خطواتها الأخيرة لتصحيح إجراءات ترامب تجاه الفلسطينيين لم تظهر بعد ما يفيد أن القضية ليست مساعدات مالية وإنسانية للفلسطينيين وإعادة دعم لوكالة غوث اللاجئين (الأونروا) بل هي قضية تصفية استعمار لم يعد ممكنا أن يستمر لفترة أطول.على كل لن يحدث كل ذلك في النهاية منّةً من أحد بل الفلسطينيون هم من سيفرضونه فرضا بصلابتهم ووحدتهم وإصرارهم.
كاتب وإعلامي تونسي