البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية
الحلقة الأولى
تكتسب الحركات الإسلامية الحديثة مضمونها و مقوماتها في الوعي العام من عنوانها. فهذه الحركات الإسلامية تعتقد، كما يعتقد معظم الناس، أنها مبنية وفق قواعد الإسلام، و تقوم و تمضي وفق هذه القواعد. جل هذا الإعتقاد يستند إلى عنوان هذه الحركات و هو “الإسلام” المضاف إليها كنسبة و تعريف. لست من أعداء الإسلاميين. بل نشأت منذ نعومة أظافري على أدبياتهم و ترعرعت بثقافتهم. لكن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من دراسة و معاينة و بحث لهذه الحركات، ثم دراسة التأريخ الغربي في الغرب أكاديمياً، و دراسة التأريخ الشرقي كباحث، وصلت إلى تلك الخيوط التي تفسر لي كيف و لماذا نشأت هذه الحركات الإسلامية، في سياق له جذوره و أسبابه و منطلقاته. هذا السياق يمتد في عمقه في البروتستانتية المسيحية، التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا، و كذلك في التنوير و الحداثة الأوروبيين.
حتى يستطيع القارئ العربي تكوين نظرة واضحة للموضوع سأتحدث أولا عن السياق البروتستانتي المسيحي في أوروبا، ثم أتحث عن مرحلة ما بعد الحركة البروتستانتية التي عصفت بأوروبا. ثم بعد ذلك أفصّل في الحديث عن الإحيائية الإسلامية التي ظهرت إلى الوجود منذ القرن التاسع عشر تحت تأثير هذين الرافدين.
انطلقت المعارضة المسيحية المسماة بالبروتستانتية (تعني المعارضة)، في القرن السادس عشر الميلادي، في شمال أوروبا و تحديدا في ألمانيا على يد عدة رجال دين مسيحيين و أشهرهم هو مارتن لوثر (القسيس، بروفيسور علم العقائد، و الموسيقار 1483-1546). قبل ذلك، و تحديدا على مشارف نهاية القرن الخامس عشر، نشأت في شمال أوروبا قناعة عامة لدى الناس، أن إصلاح الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية (الرومانية) بات أمراً ملحاً لا مفر منه. و هذه المعارضة التي أفصحت عن نفسها، بدأت أول ما بدأت، برسالة لوثر التي تضمنت 95 نقطة مناقشة للإعتراض على الآداء الكنسي على المستويين الديني و السياسي. صكوك الغفران هي التي تسببت في ظهور هذه الرسالة الجدلية الإعتراضية للوثر، التي اتسعت في ما بعد و امتدت لتتحول إلى شرارة غيرت أوروبا تغييرا عظيما.
بدأت الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ببيع صكوك الغفران للمسيحيين، مقابل تقليل فترة الطهور في يوم القيامة. أي أن المسيحي الذي يدفع المال إلى الكنيسة سيحصل على غفران لذنوبه بقدر المال المدفوع، مما يجعل أمر خلاصه من العذاب في الآخرة أسرع و مرحلة عذابه أقصر. تطور الأمر لاحقا إلى السماح للمسيحيين بشراء صكوك الغفران لأقربائهم الأموات. كانت الكنيسة تحتج أنها تصرف هذه الأموال للعمل التبشيري و الخيري، كإعادة ترميم كاتدرائية القديس بطرس بروما. لكن أعضاء الكنيسة بدأوا يسمنون من هذا المال الذي وصفه الفن الأوروبي آنذاك في إطار ساخر، حيث رسم الفنانون صورة أعضاء الكنيسة و رجال الدين في هيئة السمنة وهم يأكلون لحم الأموات. من المفيد أن نشير هنا إلى أن نظرة الكنيسة اللاتينية إلى المال كانت نظرة سلبية، حيث اعتبرت الكنيسة المال ضمن دائرة “المدنس البشري Profane” وهو مصطلح يقابل “المقدس الإلهي Devine” لكن هذه النظرة السلبية تغيرت في نهاية مرحلة النهضة الأوروبية (الرينيسانس) التي ظهرت في إيطاليا مع بداية القرن الرابع عشر و وصلت إلى أوجها مع نهاية القرن الخامس عشر. لكن المفارقة كانت في التناقض بين نظرة الكنيسة السلبية إلى المال، و موقف الكنيسة و رجالها من المال الذي تجمّع في أيديها. هذا المال المتراكم في الكنيسة جعل رجالها أغنياء. تزامنا مع هذا، ظهر فساد من نوع آخر في الكنيسة و يُسمى بـ “الصايمونية”، وهي حصول رجل الدين الواحد على عدة وظائف في أكثر من كنيسة في المدينة و أريافها. و بما أن رجل الدين الواحد لم يكن قادرا على أداء عدة وظائف في وقت واحد، فكان يلجأ إلى بيع هذه الوظائف إلى رجال دين آخرين مقابل نصف راتب، و هذا ما أتاح للكثيرين من أعضاء الكنيسة جمع ثروة كبيرة من وراء هذا الإلتفاف، الذي اعتبره البروتستانتييون عملا يخالف تعاليم الدين المسيحي.
رد لوثر على الكنيسة بأنها وقعت في تناقض واضح، وهو بيع المقدس الإلهي (الغفران) بالمدنس البشري (المال)، أي أن المال الذي يعتبر مدنساً بشرياً، كيف له أن يشتري ما هو مقدسٌ إلهي (الغفران لفترة الطهور). ثم اتسعت معارضة لوثر للكنيسة حيث ضربها في الصميم، إذ دعا إلى العودة إلى النسخة الأولى من المسيحية (مرحلة السلف)، أي القفز على أسوار الكنيسة نحو الفهم الصحيح للمسيحية وفق رؤية و فهم الرعيل الأول من المسيحيين (المسيح و تلامذته و أتباعه). بهذا الجدال، فتح لوثر باب القضاء على إحتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، و فتح باب الفهم للناس كافة. و يعني هنا أن لوثر و الإصلاحيين البروتستانت، ما هم إلا دعاة سلفيين (السلفية المسيحية)، مع مفارقة واضحة جدا مع (السلفية الإسلامية) من جهة النتائج المترتبة على الدعوتين. فالدعوة السلفية المسيحية أدت إلى التخلص من التراث الكنسي المحدود و الجامد، و فتح باب الإجتهاد الذي لعب دورا كبيرا في تغيير أوروبا. لكن الدعوة الإسلامية السلفية أدت إلى الضمور و التخلف، لأنها طمست التراث الإسلامي الذي كان وليد إجتهاد عظيم، خلّف تراثا غنيا منفتحا و عميقا. سأعود لشرح هذه النقطة في الحلقات القادمة.
لم يهدف لوثر إلى شق الكنيسة الكاثوليكية، و إنشاء مذهب جديد، كما هو مشاع. لكنه كما صرّح بنفسه، أراد إصلاح الكنيسة و الفساد الذي عصف بها. لذلك رفض لوثر دعم ثورة ثوماس مونتسر الذي قاد الفلاحين في ألمانيا في حرب شهيرة ضد سلطة الأمراء في عامي 1524-1525. فاعتبر لوثر حركة مونتسر مخالفا للدين و السلطة التي هي ظل الله في الأرض.
كان أهم ما دعى إليه لوثر في معارضته هو أن الإيمان بالمسيح يكفي للخلاص يوم الدينونة، و ليس العمل هو الذي يخلّص المسيحيين. وهذه الرؤية شكلت خطرا واضحا على الكنيسة و ارتباطاتها مع الرعية، لأن شراء صكوك الغفران بدأ في التراجع، في ظل هذه الرؤية الجديدة للعقيدة المسيحية، مما كان يعني ضربة إقتصادية كبيرة للكنيسة. في إثر ذلك، أستدعي لوثر للمثول أمام محاكم الكنيسة، للرجوع عما بدر منه. تعنّتَ لوثر، فحوّل جلسات محاكمته منذ عام 1518 إلى إدانة للبابوية، واعتبرها بدعة غير منصوص عليها في الكتاب المقدس. في عام 1520، أصدر البابا ليو العاشر مرسوما بطرد لوثر و حرمانه الكنسي، حتى أعتبر بعد ذلك شخصاً خارج القانون.
البروتستانتية فتحت مسألة إنعتاق المسيحيين و إشعال معارضتهم للسطوة الكنسية، عبر الدعوة السلفية و هي العودة إلى الرعيل الأول و فهم الكتاب المقدس فهما صحيحا، و محاربة بدع الكنيسة التي قوّضت حرية المسيحيين و دينهم. كانت النتيجة مذهلة حقا، حيث كان هناك إصلاحييون معارضون للكنيسة معاصرون للوثر، كانوا قد أعلنوا معارضتهم على الملأ مثل جون كالفن، هولدريخ زفينكلي، كاثرينا شوتس زيل، مارتن بوسر، يان هوس …الخ. هؤلاء الإصلاحييون فجروا ثورة عظيمة في أوروبا، كتواصل مع تراث النهضة (الرينيسانس) لتفجر كوامن مرحلة التنوير و الحداثة في مراحلها اللاحقة، سَرَتْ عبر مخاضات عسيرة و دموية.
الحلقة الثانية
البروتستانتية المسيحية، أخرجت الدين من داخل الكنيسة إلى شأن عام وإختصاصٍ غير محتكر. كما أنها شرعنت تدين الأفراد خارج أسوار الكنيسة، و من دون العودة إلى رجال الدين و إلى الكنيسة نفسها. في البداية، لم يهدف مارتن لوثر إلى تأسيس كنيسة جديدة مغايرة للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، لكن الأحداث فرضت و حتمت هذا التأسيس كإشتقاق و إنفصال عن هذه الكنيسة بطبيعة الحال. فجريان الأحداث نحا تلقائيا نحو أن يجد البروتستانت أنفسهم داخل كنيسةٍ، غير معترف بها من قبل الكنيسة الكاثوليكية، فكان هذا بداية تأسيس شرعية منفصلة، توجت بإستقلال تام عن الكنيسة اللاتينية لاحقا. فأعطى هذا السياق الولادة لواقع جديد في أوروبا، عبر إنفصال دموي ملئ بالحروب بين جغرافيات موزعة بين عالمين أحدهما قديم و آخر جديد. فحدثت موجات كبيرة للاجئين بين الجغرافيتن، حيث هرب البروتستانت من السلطات الكاثوليكية، إلى تلك الأراضي التي كانت خاضعة للبروتستانتية، و العكس بالعكس هرب الكاثوليك إلى البلاد المحكومة من قبل الكنيسة الكاثوليكية. و لم يستقر الوضع إلى أن وقـّعت الدول و الإمبراطوريات و الأمارات الأوروبية المتحاربة، إتفاقية ويستفاليا في عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاما التي راحت فيها الملايين من البشر.
العالم البروتستانتي، كعالم مُضطهَد، تميّز بحراك ساخن حمل في أحشائه شروط تطوير حرية التعبير و حقوق الإنسان، ليس كسبب مباشر لإجتهادات المصلحين الدينيين البروتستانت، و لكن كنتيجة و تحصيل حاصل لما حدث. هناك نقطة مهمة جدا أدت إلى هذا الواقع، و هي مرتبطة بكيفية و هيكلة الكنيسة الكاثوليكية. كان هناك في الكنيسة الكاثوليكة طبقتان تشكلان جوهر الكنيسة و سلطتها. هاتان الطبقتان هما طبقة (الـكليرجي Clergy و طبقة الـسيكولر (Secular.
في القرون الوسطى، كانت الكنيسة الكاثوليكية هي مصدر تزويد البيروقراط للسلطات العائلية في أوروبا. طبقة الكليرجي كانت مختصة بالعبادات و الروحانيات، مع محدودية العلاقة مع العامة. لكن طبقة السيكولر كانت تتصدى للشؤون العامة، الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية. فرجل الدين العضو في الكنيسة، من دائرة السيكولر، كان يتمتع بصفات و مراتب رجل دين كنسي رسميا، و في الواقع كان موظفا ذو صلاحيات مرسومة له، حسب رتبته و وظيفته. حين انقسمت الجغرافية السياسية في أوروبا بين الكاثوليك و البروتستانت، لم تعد هذه التراتبية معمولة بها في الكنيسة البروتستانتية. فكما أسلفنا، فإن الحراك، في بلدان البروتستانت، الذي أدى إلى تطوير شروط الحرية و حقوق الناس، و في ظل التأكيد على أن الخلاص في الآخرة يكون بالإيمان فقط دون العمل (justification by faith alone)؛ فإن الشأن السياسي العام خرج عن نطاق الكنيسة إلى دائرة مدنية أوسع، فيما تحولت الكنيسة بمرور الزمن إلى شأن يخص الدين و العبادات. و من هنا، فإن هذا الإنقسام في تراتبية و صفات رجال الدين الكنسيين (السيكولر و الكليرجي)، تلاشى بطبيعة الحال دون رجعة. و من الملاحظ هنا، أن التفريق بين الشأن الدنيوي و الشأن الديني كان متأصلا في الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت أخرجوا الشأن الدنيوي من الكنيسة، و جعلوه شأنا عاما للناس الذين تجمعوا لاحقا على صيغة المواطنة، في جنيف و زرويخ أولا، ثم انتشرت الفكرة لتعم دولا أوروبية شمالية تأثرت بالزفينكلية و الكالفينية. بمفهوم آخر، وسّع البروتستانت نطاق الشأن الدنيوي ليتخطى مساحات الكنائس التي لم تعد وحدها مراكز للشؤون الدنيوية، بل تطور الأمر مع إنبثاق مراكز أخرى مدنية. و لكن لم تكن هذه المراكز المدنية مضادة للدين أو مؤسسة على أساس فكرة العداوة للدين أو التفريق بين الشأن الديني و الدنيوي، لأن هذا التفريق كان في الأصل موجودا في الكنيسة اللاتينية أو المعروفة بالكاثوليكية.
تزامنا مع الحركة الإصلاحية البروتستانتية (أي الحركة السلفية المسيحية)، أكتـُشِف العالم الجديد (أمريكا) برعاية مملكة قشتالة في إسبانيا، إبان النصر النهائي على المسلمين في عام 1492 في غرناطة الأندلس. إكتشاف أمريكا أضاف زخما معرفيا و دافعا قويا نحو إكتشاف المجهول، في ظل إرتخاء ولو بطئ لقبضة الدين و جوهره على الناس، خصوصا مع انتشار حركة التنوير الفلسفية و الثقافية التي ظهرت في بداية القرن الثامن عشر، ثم اندمجت بالثورة الفرنسية في عام 1789، في نفس القرن. هناك نقاش مستفيض بين المؤرخين و الفلاسفة، حول دور الحركة البروتستانتية في تهيئة الأجواء لحركة التنوير. و يأتي في مقدمة أنصار هذا الرأي، الفيلسوف الألماني ماكس فيبر 1824، الذي يعطي دورا رائدا للبروتستانتية. و في القرن الثامن عشر، ظهرت حركة أخرى مهمة جدا في تقرير مستقبل الغرب، ألا وهي الثورة الصناعية التي كانت وليدة محض الصدفة، وهي إكتشاف الفحم كمصدر للطاقة. إكتشاف الفحم أدى إلى تغيير كبير في الطاقة، و تطوير في آليات الإنتاج و النقل و الصناعة و العمران. لكن، ليس لإكتشاف الفحم أي علاقة بالإصلاحات البروتستانتية. ولكن حدث ذلك، تزامنا مع نتائج و عقابيل الإصلاحات البروتستانتية. مع هذا، ليس هناك جدال، بغض النظر عن الأسباب المختلفة، على أن الدول التي كانت هويتها بروتستانتية تطورت بسرعة كبيرة على مستويات شتى أكثر من تلك الدول التي ظلت كاثوليكية. هذا الواقع فتح باب النقاش بين المفكرين، لجهة إعادة السبب للبروتستانتية التي ألجأت الدول التي ظهرت تحت ظلها لاحقا، لوضع الدساتير و القوانين التي أتاحت حرية الفكر و الدين و الثقافة…الخ. و من هنا ربط الكثير من المفكرين و الفلاسفة، بين البروتستانتية كسبب، و بين حركة التنوير و الثورة الفرنسية اللتين مهدتا للحداثة و الليبرالية و الديموقراطية التي عمّت أوروبا منذ القرن التاسع عشر، بوتيرة صاعدة لا رجعة لها. في الواقع، فإن طروحات ماكس فيبر تفتقر إلى الموضوعية المترابطة، وهذا نقاش آخر يطول حديثه.
إذن، فإن الحركة البروتستانتية، نجحت بفضل العودة إلى الشرعية الدينية الأولى، وهي مرحلة السلف المسيحي (المسيح و تلامذته)، للإنطلاق من هناك نحو الوقوف بوجه بِدَعْ الكنيسة التي ظلت لقرون تثقل أعباء الشعوب الأوروبية. هذه البدع انحصرت في إحتكار الدين و تفسيره، و الإستحواذ على الشأنين الديني و الدنيوي معا في الكنيسة، و حصر الفكر و الرؤية و التفسير بتعاليم بسيطة كنسية، و ظلام و ظلم منتشرين مخيمين على أوروبا. أي أن بدع الكنيسة لم تكن ابتداعا في الدين، عبر إنتاج فكري و فلسفي وفير على المستوى الديني، بل كان إبتداعا مساوياً للإنحراف عن جوهر الدين الصحيح، الذي كان عليه المسيح و أتباعه من الأجيال الأولى. لهذا، فإن البروتستانتية التي هي حركة سلفية (العودة إلى السلف) انتصرت على بدع الكنيسة الكاثوليكية، فأنتجت الإبداع. وعليه، فإن عودة البروتستانت إلى سلفهم الديني صحح لهم مسار العلاقة بين الدين و السياسة، بينما إبتداع الكنيسة الكاثوليكية في الدين، ولّد التخلف و الظلم و الظلام الذي دام لحوالي ثمانية قرون في العالم الغربي، بدأ مع سقوط الإمبراطورية الرومانية و دام إلى مطلع القرن الرابع عشر أي بداية مرحلة النهضة الأوروبية.
و المفارقة الكبيرة و المحيرة حقا، بين حركة العودة البروتستانتية إلى مرحلة السلف المسيحي، و بدع الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، أنه على مستوى الفكر يبدو في الظاهر أن العودة إلى السلف تعني التخلف، بينما الإبتداع في الدين يعني التحرر و التقدم. لكن العكس حدث في أوروبا. و المفارقة الأكثر حيرة و ضحكة هي، فهم العالم الشرقي لجوهر هذه المعادلة المتشابكة و المعقدة. فالعالم الشرقي فهم الحركة البروتستانتية إنقلاباً على الدين المسيحي و تحررا منه، و عليه اشتق من هذا الفهم الخاطئ معادلة قياس قاتل، أنه من أجل تقدم العالم الإسلامي، على المسلمين أن يتحرروا من دينهم، وتبني ما أنتجه الغرب من فكر و فلسفة و قانون بعد الحركة البروتستانتية المسيحية. النتائج كانت عكسية. فإدعاء الحركة الإحيائية الإسلامية، بفتح باب الإجتهاد و التجديد في الدين، خلق الفوضى و الجهل. كما أن إدعاء أجنحة منها العودة إلى مرحلة السلف، أنتج التخلف و الظلام، و لم يحل أي أزمة من أزماتها. فكان الخراب الكبير. كيف ذلك؟ سأتناول هذا الموضوع في الحلقة القادمة.
الحلقة الثالثة
بعد مرور حوالي ثلاثة قرون على الإصلاحات البروتستانتية، شهدت أوروبا تغيرا عظيما على مستوى الفكر و الفلسفة و العلم و الثقافة. هذا التغير تجذر في المجتمعات الأوروبية بالتدريج، تحت هيمنة التيارات الفكرية و الفلسفية التي افترقت مع الدين بالكليّة، و لم تعد تهتم للدين بل و تعتبره جزءا من الخرافات و الأساطير البشرية. إذن دخلت أووربا القرن التاسع عشر في ظل تتويج الحداثة و الليبرالية و اللادينية. حدث هذا برفقة التفوق التكنلوجي و العسكري لدول أوروبا، و تزامنا مع رواج كبير لسلعتها و بضائعها و منتوجاتها المختلفة المادية و المعنوية لدى شعوب العالم. هذا التتويج أعطى إنطباعا عاما للناس في الغرب و الشرق، و لأوساط مختلفة، أن هذا التطور الغربي الهائل، و تفوقه العلمي و الثقافي الصاعد، و هيمنته التكنلوجية و العسكرية الجبارة، ليست سوى نتيجة منطقية للإصلاحات البروتستانتية في المسيحية، و من ثم الإنقلاب على الدين في عصري التنوير و الثورة الفرنسية، و من ثم موت الدين في عصر الحداثة، كما عبّر بذلك الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في مقولته الشهيرة أن “الإله مات”.
بوادر الإحيائية الإسلامية التي ظهرت في إسطمبول عاصمة الدولة العثمانية، في بداية القرن التاسع عشر، و في مصر في ظل سلطة محمد علي باشا و الخديوي إسماعيل، كانت إنعكاسا و محاكاة للسياق البروتستانتي المسيحي و نتائجه. يستطيع القارئ العودة إلى الحلقتين الأولى و الثانية لمعرفة هذا السياق الأوروبي. في القرن التاسع عشر، كان العالم الإسلامي قد أنهك و هو في طريقه نحو الإنحدار و التشرذم و الإنهيار. ففي القرن التاسع عشر، كانت النزعات الكيانية القومية و العرقية قد ظهرت في الدولة العثمانية، مما أدى إلى تهاوي الأطراف في جسد الدولة، وتحلل صمغ الإندماج بين مكونات الدولة التي ظلت متماسكة لثلاثة عشر قرنا في دائرة الدين. في هذه الأثناء، و تحت وطأة الأثقال التي هدّت كاهل الدولة العثمانية، و المكون الشرقي بشكل عام، ظهر في إسطمبول و في مصر تياران عكسا في مضمونيهما إنسجاما و تناسقا موضوعيين، كأنهما كانا وليدي إتفاق مخطط له. و هذا الإتفاق الطبيعي جاء بسبب منطلق التيارين، و المواضيع التي كانا بصددها، و البت في واقعٍ له نفس الحيثيات و العناصر و السياق.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ظهرت حركة التغريب في الدولة العثمانية بقيادة مثقفين كانوا قد انهلوا من الغرب ثقافته و انبهروا بها انبهارا عظيما. يأتي في مقدمة رواد حركة التغريب إبراهيم شناسي الذي تتلمذ على يد غربيين مثل ألفونس دي لامارتين، أرنست رينان، بافيت، دا كورتيلا و إيميلا لاتيرا…الخ. ثم يأتي نامق كمال كرائد للتغريب في الدولة العثمانية. كان نامق عضوا في حركة العثمانيين الشباب السرية (كان أحد أحفاد محمد علي باشا عضوا فيها و هو مصطفى فاضل باشا) التي تعد النواة الأولى لحركة تركيا الفتاة، و من ثم جمعية الإتحاد و الترقي التركية. أثــّـر نامق في كمال أتاتورك و تصوراته و أفكاره. حركة العثمانيين الشباب لم تكن راضية بالإصلاحات التنظيمية في الدولة العثمانية التي حدثت في عام 1839 و انتهت بفترة المشروطية الأولى في عام 1876 فكانت تطالب بتغريب أكثر في جوهر طلبها. كان توجه إبراهيم شناسي و نامق كمال، هو تحديث الدولة العثمانية وفق النمط الغربي على مستوى الفلسفة و الفكر و السياسة و الفن، و ما يتصل بتنظيم حقوق الأفراد داخل المجتمع. كلاهما عاش في الغرب، و كلاهما كان شاعرا، و من هنا نجد أن النزعة الرومانسية و الإنبهار العاطفي طاغيان على تصوراتهما و أفكارهما. بالطبع هناك شباب آخرون كثر، في الدولة العثمانية، الذين انبهروا بالصورة المهيمنة للغرب و المرحلة التي راهنوها في ظل التفوق الغربي. ما يجمع هؤلاء الشباب في توحيد موقفهم و رؤيتهم عدة مسائل و هي، أنهم جميعا كانوا في مرحلة مبكرة من حياتهم، ولم يكونوا أصحاب مقدرة علمية عميقة، بل كانت ميولهم نحو الشعر و الفن و بعض الثقافة الغربية الرائجة. فضلا عن ذلك، كان لديهم نقص كبير في المعرفة بالشرق و الغرب، تأريخهما و علومهما و بنيانهما. إلى جانب ذلك، تكونت لديهم عقدة النقص أمام الغرب الذي انبهروا به.
في مصر، و في ظل سلطة محمد علي باشا، حدث ما يمكن تسميته بالـ “النهضة العربية”. هذه النهضة كانت غربية السمة و المحتوى. فقام الرجل بإرسال بعثات طلابية إلى الدول الغربية، لتلقي العلوم و الفنون الغربية الحديثة. استمر هذا الأمر إلى زمن حفيده الخديوي إسماعيل. الكثير من هؤلاء الطلاب تأثر بثقافة الغرب المبلورة من عصري التنوير و الحداثة، حالهم حال أقرانهم في إسطمبول، الذين ذكرناهم آنفاً. كان من بين هؤلاء رفاعة رافع الطهطاوي، الذي بث في كتاباته صورة الغرب المتفوقة التي تؤثر في وجدان الإنسان الشرقي و ترديه مشلولا عاجزاً، أمام مدٍ تنويري، لا يمكن إلا طأطأة الرأس أمامه و الإنحناء لجلاله وكبريائه. ما يربط الطهطاوي بالآخرين من أمثاله في إسطمبول و في مصر هو الترويج لثقافة غربية، حيث أقصى الترويج يتجوهر في نبذ الدين كشرط أساس للنهوض و التطور، و أدناه هو تهيأة العامة لتحديث الدين و لوي عنقه، لينسجم مع التطورت الغربية الحاصلة في شتى المجالات. و التجديد هنا يعني “الإصلاح”، لذلك عُرف الكثير من هؤلاء بـ “المصلحين الدينيين” على غرار لوثر و إخوانه في أوروبا. و كلا السبيلان صب في نفس المجرى الذي حقق الهدف المنشود، و هو تحويل الوهم الكبير في لاوعي الناس إلى إيمان غير قابل للنقاش، و هو أن الغرب تطور بسبب تخليه عن الدين، و أن الشرق إذا ما أراد النهوض فعليه اتباع الغرب حذو النعل بالنعل. كانت المنظمة الماسونية السرية تروج لهذه الثقافة عبر طرق عدة، منها عبر شخصيات شرقية كبيرة، سياسية و علمية، و أخرى فكرية و فنية و مهنية.
هناك مفكرون و مثقفون كبار، قادوا هذا الترويج الذي فعل فعلته و حقق هدفه بدقة. من هؤلاء المفكرين و المثقفين يأتي جمال الدين الأفغاني (لم يكن أفغانيا بل إيرانيا من أسد آباد)، رئيس محفل كوكب الشرق الماسوني. إنضم إلى محفل أفغاني الماسوني جملة من كبار الشخصيات، منهم من كان تلميذا لدى الأفغاني، و منهم من أتى بعده متأثرا به. ومن هؤلاء و أولئك محمد عبده، توفيق باشا، قاسم أمين، سعد زغلول، سليم العنجوري، أديب إسحق و آخرون. كان الأفغاني مثل أقرانه الأتراك و المصريين (إبراهيم شناسي، نامق كمال و الطهطاوي) على إتصال مع شخصيات فلسفية و فكرية غربية، منهم أرنست رينان و إسحق تايلور و …الخ، و عاش في الغرب مثلهم. بينما كان الأفغاني يصرح لرينان أنه “عزم على قطع رأس الدين بسيف الدين نفسه”، كان ينسق مع تايلور من أجل تنظيم مؤتمرات “توحيد الأديان” و التأكيد على مفاهيم وحدة الوجود و الأديان، و تعريف النبوة كمكتسب بشري تميّز به عباقرة التأريخ، دون اتصال بالسماء. كان محمد عبده أكثر حماسة و تطرفا من استاذه الأفغاني، و ظل يجاهد في سبيل تحقيق قطع رأس الدين بسيف الدين، معتبرا هذا القطع سنّة قويمة لإمامه الأسد آبدي، وهي سنّة يطبقها هو و أتباعهما!
الحلقة الرابعة
لم يكن علماء الإسلام في غفلة عما يجري من قبل الإحيائيين (البروتستانت المسلمون)، لكنهم كانوا في حالة إنكسار و هزيمة، بسبب الهجمة الشرسة التي قادتها “حركة الإصلاح الديني” أي البروتستانتية الإسلامية التي شارك فيها “المسلمون المتنورون” الذين قدموا أنفسهم كمصلحين دينيين، و دعاة التجديد ونبذ الخرافة و الأساطير، و مقدمين لتفسير الإسلام تفسيرا عقلانيا ينسجم مع التطورات العلمية و الثقافية الغربية. كان جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده من أهم رواد هذه الحركة. من هنا نلاحظ بوضوح، تأثر كلا الرجلين بمارتن لوثر و رواد الإصلاح الديني البروتستانتي، و ليس من شك أنهما يتقمصان دور رواد الإصلاح البروتستانتي، و يقدمان طروحات ماهي إلا محاكاة لأعمالهم و أفكارهم في القرن السادس عشر. و انتبه إلى هذا بدقة، الشيخ مصطفى صبري، أحد أبرز علماء الدولة العثمانية معلقا على هذا الواقع بالقول “أراد جمال الدين الأفغاني و تلميذه محمد عبده أن يلعبا دور لوثر و كالفن، فلم يتسنّ لهما اختراع دين جديد للمسلمين، لذلك سعيا إلى دعم الإلحاد المقنع بالنهوض و التجديد”. كان هناك شيوخ آخرون، لديهم إطلاع دقيق على مضمون ما سمي بـ “الحركة الإصلاحية الدينية” في المشرق. من هؤلاء الشيوخ، نجد محمد زاهد الكوثري، حسن أفندي فهمي، بديع الزمان سعيد نورسي، محمد بن حسن أبو الهدى الصيادي …الخ.
أصبحت البروتستانتية الإسلامية تجد رواجا كبيرا في المشرق بفضل الدعم و الرعاية، من قبل الدوائر الغربية، و من قبل حكام و قادة اعتنقوا ما أسموه بالتنوير الإسلامي، و النهضة الإسلامية، و التحرر الإسلامي …الخ. هناك قادة شرقييون بارزون في تركيا و مصر و بلدان أخرى، وقفوا مع هذا التيار الذي لم يكن سوى إفراز للحضارة الغربية، تمثـّـلَ في الجلباب و العمامة. و على أساس طرح هذا التيار و فكره و تصوره، تأسست أحزاب و جمعيات شتى وطنية، و قومية و إسلامية. كان حسن البنا الساعاتي تلميذا للشيخ محمد عبده. تلقب كل من عبده و الأفغاني بلقب الإمام. و على غرارهما، أطلق حسن البنا لقب الإمام و المرشد أيضا على نفسه و هو إبن إثنين و عشرين عاما. تأثر البنا بهذا التيار الطاغي المهيمن، الذي قاده أستاذه محمد عبده و أستاذهما الأفغاني. لم يكن حسن البنا عالما أو فقيها، بل تلميذا في معهد حكومي لتخريج المعلمين، في قسم اللغة العربية. بسبب وقوع البنا تحت تأثير هذا التيار، و شعوره القوي بهيمنة و طغيان الغرب، قام يسلك سلوك أساتذته في تبني طرق و وسائل غربية من أجل خدمة الإسلام كما ذهب. أسس الشيخ أحمد السكري جمعية الإخوان المسلمون في مصر، كجمعية دعوية خيرية غير سياسية. قام حسن البنا في عام 1928 بما يمكن تسميته بالإنقلاب الأبيض على السكري، و استحوذ على هذه الجمعية و حولها إلى جمعية سياسية، بل حزب سياسي دخل معترك الصراع السياسي من أجل السلطة، ثم طرد السكري لاحقا. و هناك فضائح كثيرة ترافق هذا الطرد تتعلق بقريب من الشيخ البنا و هو عبدالحكيم عابدين.
أصول عائلة حسن البنا، و صعوده السريع، و إنتشار جماعته “الإخوان المسلمون” في مصر و دول أخرى بسرعة قياسية يكتنفها الكثير من الغموض و التساؤلات. فمن حيث أصول عائلته، تقول المصادر أن حسن البنا ولد في دمنهور بمحافظة البحيرة، من أبٍ هو عالم دين. لكن جد حسن البنا ظل مجهولا إلى يومنا هذا، رغم أن أحد عمالقة الفكر و الثقافة في مصر و العالم العربي، ألا وهو عباس محمود العقاد، تحدى حسن البنا و جماعته أن يثبتوا نسب الرجل، لكن دون جدوى. تحدي العقاد جاء بسبب معطيات عدة، منها لقب الساعاتي الذي يأتي من مهنة العائلة في تصليح الساعات. بحسب العقاد، فإن مهنة تصليح الساعات كانت حكرا على اليهود. لكن المصادر الإخوانية تؤكد أن والد حسن البنا كان عالما، و جده المجهول فلاحا، إذاً من أين أتى لقب الساعاتي، الذي غيره حسن الساعاتي إلى حسن البنا (قد يكون إنعكاسا لتأثره بالماسونية التي تسمى في العربية بالبنائين الأحرار، لا سيما و أن أساتذته كانوا أعضاء قادة في محفل كوكب الشرق للماسونية مثل عبده و الأفغاني)؟ و الأهم من ذلك، كيف استطاع شاب في بداية العشرين من العمر، تأسيس حزب سياسي، لينتشر بسرعة غير معقولة في مصر، و من ثم في العالم العربي، رغم أن وسائل التواصل لم تكن متطورة في ذلك الوقت، خصوصا لحزبٍ يدعي أنصاره أنه ظل ملاحقا و مطاردا من قبل السلطات المصرية؟
النصف الثاني من هذا المشهد، الذي يكمل إطار لوحة (الإحيائية الدينية: البروتستانتية الإسلامية)، هو ما حدث في الجزيرة العربية بقيادة محمد بن عبدالوهاب مؤسس الوهابية. من حيث النهج و الرؤية، من الممكن مقارنة بل مطابقة محمد بن عبدالوهاب بمارتن لوثر، مع مفارقة الدين بينهما طبعا. فمحمد بن عبدالوهاب كان يدعو إلى العودة إلى مرحلة السلف (الرعيل الأول، الرسول و أصحابه)، لمحاربة ما أسماه بن عبدالوهاب بالبدع و الشركيات و الإنحرافات التي عصفت بالمسلمين. لكنه اختلف مع لوثر في السياسة، حيث ظل الأخير يمارس عمله الديني دون الإنخراط في العمل السياسي و العسكري، بينما تحالف بن عبدالوهاب مع محمد بن سعود، ليقود الجناح الديني الذي استباح الخصوم و المناوئين من منطلق ديني (من المفيد الرجوع إلى تأريخ نجد لإبن غنام الذي كان تلميذا لمحمد بن عبدالوهاب. في تأريخ نجد، و تحديدا في فصل الغزوات يروي إبن غنام جرائم جماعية مروعة بحق سكان الجزيرة العربية، لكنه يبررها معتبرا هذه الجرائم جهادا ضد الكفار و المشركين و المرتدين). المفارقة الأكثر إيلاما، هي أن قفزة بن عبدالوهاب نحو مرحلة السلف، هي قفزة إلغاء لتراثٍ نبعَ من السلف، و تطور بتواتر و تناسق، ليتدفق كنهرٍ تعاظم كلما مرّ الزمن و هو يجري نحو المستقبل، ليشكل أغنى تراث إنساني على مر العصور. لذلك فإن قفزة بن عبدالوهاب، تحولت إلى قفزة كارثية و كوميدية في آن. فهذه القفزة، ولّدت الإستبداد و العنف و إلغاء الآخر إلغاءا مطلقاً، أدى إلى إعمال المجازر في الخصوم و الآخرين. فيما كانت قفزة لوثر، فوق الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، نحو مرحلة السلف المسيحي، قفزة فوق كنيسة مستبدة، احتكرت الدين و استغلته لسياسة ظالمة، و اختزلت الدين في طقوس و مفاهيم لا اتصال لها بسند معرفي متواتر مع مرحلة السلف المسيحي، بل ظل في حدود ضيقة لم تنتج معرفة تذكر. لذلك فإن قفزة لوثر نحو السلف المسيحي، حرر فعلا المسيحية من استبداد الكنيسة و تعسفها بحق الناس و الدين معا.
التحالف الذي وقع بين بن عبدالوهاب و إبن سعود، ثم لاحقا وعبر عقود من الزمن، تطور عبر علاقات لوجستية و إستراتيجية مع بريطانيا ثم أمريكا. هذا التحالف توّج بتشكيل جماعة الإخوان الأصولية في عام 1911 في ظل علاقات دولية، كانت الهيمنة الغربية في اتساع و تصاعد، مقابل ضمور و إنكماش الدولة العثمانية التي كانت جامعة للشعوب المسلمة. هذا المصدر، أي الوهابية، إلى جانب مصدر الإصلاح الديني بقيادة المتنورين من أمثال الأفغاني و عبده، شكلا نواة ميلاد فكرة الحزب بغطاء إسلامي، و أرضية تأسست عليها جماعة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة حسن البنا في عام 1928. أغتيل حسن البنا و هو شاب ذو 42 عاما. و رغم أنه لم يكن عالما أو فقيها كما أسلفنا، إلا أن الإخوان المسلمين مازالوا إلى يومنا هذا ينادونه بالإمام. و هو فعلا، إلى جانب محمد بن عبدالوهاب، إمام معظم الأحزاب و الحركات الإسلامية المعاصرة.
الحلقة الخامسةكان جمال الدين الأفغاني رجلا ذكيا، يعرف كيف يسوّق نفسه كمصلح ديني و رائد للأمة الإسلامية. فهو كشيعي و ماسوني في نفس الوقت، كان يحرص على لقب الإمام لنفسه، بين الشيعة، و عند السنة أيضا حين كان يقصدهم في إسطمبول و مصر. عند الشيعة كان يظهر بلباس رجل الدين الشيعي، و حين كان يأتي إلى أمصار السنّة يلبس لباس علماء السنة. كان إيرانيا، لكنه كان يعرّف نفسه كأفغاني في العالم السنّي. كان ماسونيا و متماهيا مع الفكر الغربي الإلحادي، الممتد من فلاسفة أمثال فريدريك نيتشه. و كان على إتصال مع البهائية، و يؤكد لزعماء البهائية أنه يعمل من أجل نفس الهدف الذي تناضل من أجله البهائية. كان محمد عبده متأثرا بإمامه الأفغاني، إلى درجة جنونية. ففي رسالة كتبها إلى الأفغاني، و استغرب رشيد رضا محتواها بعد نشرها في مجلة المنار، يصرّح عبده لأستاذه الأفغاني كل معاني العبودية و الإخلاص و التذلل (الرسالة موجودة في النت). لكن عبده حرص على لقب الإمام لنفسه كسلفه، و هو ما عُرف به أيضا، و قورن إسمه بلقب الإمام كأستاذه. و في هذه الدائرة، حذا حسن البنا حذو أسلافه و أطلق لقب الإمام على نفسه، و هو ليس بعالم أو فقيه، بل هو شاب في مقتبل العمر. و الغريب حقا، أن الإخوان المسلمون، رغم مرور حوالي سبعين عاما على إغتيال إمامهم، و مع ظهور علماء كبار في السن بينهم، لكن مازال هذا الشاب، معلّم اللغة العربية و الصحافي بالممارسة (أسس جريدة و كتب فيها مقالات) يحتفظ دون غيره بلقب الإمام، بينما صورته محفورة في ذاكرة و وجدان الإخوان إلى درجة تشبه صورة القديسين و المعصومين.
من الممكن القول، أن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت الدائرة التي جسدت الإحيائية الإسلامية و الحاضنة التي استقر فيها مجرى الإنطلاق، الذي يسمى بالإصلاح الديني أو التنوير و الحداثة و التجديد في الإسلام. ما يجمع في الظاهر، بين البروتستانتية المسيحية و البروتستانتية الإسلامية، هو فتح باب الإجتهاد. فالبروتستانتية المسيحية فتحت باب العلاقة بين الأفراد و بين الدين (لا سيما النصوص الدينية خصوصا بعد ظهور طبعات مترجمة للإنجيل بلغات أوروبية غير اللاتينية). و بهذا استطاعت البروتستانتية المسيحية، القضاء على إحتكار رجال الكنيسة و إدعائهم أنهم الوسطاء الشرعييون بين الأفراد و بين المقدس. أما الإحيائية الإسلامية (البروتستانتية الإسلامية)، اعتبرت تراث المسلمين الذي يحتضن مجرى تدفق الإجتهاد و الإبداع دون توقف، منذ بعثة الإسلام، وعبر الألوف من العلماء و المختصين في شتى العلوم، تراثاً جامداً و متخلفا يحتاج إلى التجديد و إعادة صياغته وفق قواعد غربية. و مضمون هذا التصور هو، أن تراث المسلمين لم يعد صالحا لهذا الزمان الذي يتربع الغرب فوق قمة إبداعه. و من هذه الزاوية، فتحت الإحيائية الإسلامية الباب على مصراعيه، للأفراد جميعا أن يقدموا اجتهاداتهم و تصوراتهم و أفكارهم و هذا ما أدى إلى ولادة جماعات تلو جماعات، و أحزاب وراء أحزاب من جماعة الإخوان بحجة التجديد و التحديث و التصحيح و الإصلاح. بإختصار، أخضع البروتستانتييون الإسلامييون الإسلام كدين خاضعا لأهواء و رغبات الأفراد و الجماعات. و عززت الوهابية (كدعوة عودةٍ إلى سلف أمة الإسلام) هذا التوجه الإحيائي البروتستانتي الإسلامي، لأن هذه العودة أمست من دون تلك الأدوات التي تصقلت لدى العلماء و الجمهور عبر قرون، مما حول العودة إلى فهم السلف عودة مجردة من أدوات العلم، ومقتصرة على فهم ساذج و ظاهري، خالٍ من الإمكانية العلمية و التراث الشرعي. وحين أختزلت العودة إلى السلف إلى هذا المستوى السطحي، و هو مستوى متخلف، فإن الإحتجاج الديني و الإستدلال بالسلف أصبح مبتذلا، و سهل التناول لدى أي فرد حتى و لو لم يكن ذو إمكانية علمية. لذلك، نجد شبابا في مقتبل العمر يتصدون للدعوة الإسلامية يظهرون في لباس مشيخة منفرة للطبع السليم، وهي “مشيخة” أشبه بمضمار مهرجانات المبارزة الشعرية. إذن، فإن هذا الإتفاق الظاهري، في إطلاق الأفراد نحو النصوص الدينية، هو شئ واقع بين البروتستانتية المسيحية و الإسلامية. لكن جوهر المعادلة، و من ثم نتائجها و عواقبها تختلف اختلافا جوهريا بين هاتين الدائرتين. فالبروتستانتية المسيحية مهدت للتعليم، و فتحت الباب أمام الناس للعودة إلى الإتصال بكتابهم المقدس، و حثتهم على إجتراح التفسير و الفهم الذي يطور حياتهم، و هذا ما تم خصوصا في إصلاح الوضع السياسي و القانوني المتصل بالأفراد و الجماعات. و كما ذكرت في الحلقات السابقة، أن النظام السياسي بدأ يتغير بإتجاه تحسين شروط الحرية و حقوق الإنسان، و بدأ ذلك في جنيف و زوريخ في ظل البروتستانتية، ثم انتشر بإتجا أوروبا الشمالية بإضطراد. لكن البروتستانتية الإسلامية، دفعت بأفرادها نحو الوقوع في هاوية الفراغ العلمي و الثقافي المتطلع إلى الخلاص، بحبل من ثقافة أجنبية و هي الثقافة الغربية، و بحبل من الوهم الذي صوّرته البروتستانتية الإسلامية أنه فهم معاصر وإصلاحي للإسلام. هذا بالنسبة إلى الإخوان المسلمين و الجماعات الإسلامية التي تفرعت منها. أما الوهابية و جماعاتها (و علينا أن نلاحظ مواقع الإندماج بين هذين المصدرين في جماعات إسلامية كثيرة)، فهي فضلا أنها دفعت الأفراد المسلمين، نحو هوّامات الإقتداء بالسلف، ليس عبر التواصل الذي امتد من تراث قرون متعاقبة، فإنها تركت هؤلاء الأفراد عرضة لجنون التطرف و الإرهاب كسلاح انتحاري عاجز عن الإستجابة لمتطلبات الأفراد، على مستوى السياسة و الإجتماع و العلم و…الخ.
لذلك كله، و لأمور أخرى تحتاج إلى تفصيل أكثر، تحولت جماعة الإخوان المسلمين و الحركات التي تفرعت منها، و من ثم الوهابية و فروعاتها ، إلى البديل الواقع للإسلام، بينما الإسلام الذي ظل المهيمن لقرون عبر تراث غني و متتابع تراجع إلى زوايا النسيان و الخجل. فأصبح التراث الإسلامي يعاني غربة مزدوجة، غربة الإنسان المسلم عنه بسبب الهيمنة الغربية، و غربة الإحيائية الإسلامية عنه و التي ظلت أعين المسلمين محدقة نحوها على اعتبارها الإسلام المفترض. لهذا نجد أن أشد الناس اغترابا في الإحيائية الإسلامية هم العلماء و الفقهاء الذين حوربوا بحجج كثيرة منها أنهم مذهبييون، متعصبون، متخلفون، متحجرون و موالون لأنظمة الإستبداد. و مصطلح الإستبداد (الديكتاتورية باللغة المعاصرة) هو من صنع البروتستانتية الإسلامية ليس ضد الأنظمة العلمانية كما تدعي، بل وجِد لمحاربة سلاطين المسلمين من أمثال السلطان عبد الحميد. و في هذا السياق جاء كتاب عبد الرحمن الكواكبي (أحد رواد الإحيائية الإسلامية) حول الإستبداد، لنقض شرعية الخلافة و العلماء الذين التفوا حولها. ثم لملم إحيائي آخر و هو علي عبد الرازق هذه المفردات ليعلن أن أساس الخلافة نفسها غير شرعي و أنه لا وجود لشئ إسمه دولة الخلافة. و الحال إستمر على هذا النحو، حيث يقول الإخوان ونُسَخِهم المتطورة أنهم يريدون دولة ديموقراطية مدنية. بينما على العكس، تستميت نُسخ الوهابية إلى إعادتنا الشكلية و المادية و الظرفية إلى ما قبل 14 قرنا بدعوى إقامة الخلافة الإسلامية.
الحلقة السادسة
كتبت هذه الحلقة وهي الأخيرة في 25 فبراير 2019
من هذا التراث البروتستانتي، حوّل الإخوان المسلمون دين الإسلام إلى حزب سياسي يصارع من أجل سلطة ديموقراطية و برلمانية و علمانية. و لكن كلما غدا الإخوان نحو هذا الهدف بكدٍ و مشقة، كلما اصطدموا بتوالي الأزمات التي تعرقل مسيرهم المنشود. وهم بهذه الحال، بدل أن يصلوا إلى ما وصلت إليه البروتستانتية المسيحية من إصلاحات سياسية، وجدوا أنفسهم على طريق آخر مغاير تماما، و هو طريق الكنيسة الكاثوليكية التي حكمت بإسم المسيحية، فوطدت أركان الإستبداد لقرون. وبهذا، يسجل الإخوان لأنفسم مفارقة، ربما تكون واحدة من أكثر المفارقات غرابة و إيلاما في التأريخ. في مقابل إستبداد الكنيسة الكاثوليكية، ليست هناك في التراث الإسلامي دولة تدار في المسجد أو الجامع، بل ظل المسجد مكان العبادة و العلم، و ظل العلماء يعملون في حقول العلم و المعرفة، بينما طبقة الساسة كانت تدير الدولة في القصر و الديوان و الوزارة. و لا عجب أن نجد على امتداد قرون الإسلام علماء مسلمين يواجهون السجن و النفي و التعذيب من قبل الدول الإسلامية.
الإخوان استخدموا المسجد من أجل نظام غربي معاصر، لكنهم فشلوا في الإستحواذ على السلطة، بينما نجحوا في إفراغ المسجد من محتواه عبر بتر أوصاله مع التراث الذي امتد لقرون. فلو تفحصتَ الألوف من شباب الإخوان المسلمين، في أي بلد إسلامي، تجدهم كأوعية فارغة، خالية من أي معرفة من معارف التراث الإسلامي. و يكاد تلقينهم و تربيتهم يقتصران على أدبيات قليلة أنتجها أئمتهم و قادتهم الإحيائيين. و جل ما أنتجوه لا يتجاوز تصورات فكرية منهلّة من معين الغرب الذي وصلت أمواج زبده إلى الإخوان، عن طريق أسلافهم الإصلاحيين، مثل جمال الدين الأفغاني و أقرانه و تلامذته في أرجاء العالم الإسلامي.
و ليس بمستغرب، أن تجد أن الإخوان و البروتستانت الآخرين هم الوحيدون الذين يدافعون عن “نقاوة” “الإمام” جمال الدين الأفغاني، و “الإمام” محمد عبده و أئمة آخرين من أئمة محفل كوكب الشرق الماسوني و البروتستانتية الإسلامية. على سبيل المثال هناك كاتبان من كتاب الإحيائية الإسلامية و هما الدكتور محسن عبدالحميد (مفكر كُردي من الإخوان المسلمين) و الدكتور محمد عمارة (مفكر مصري من الإحيائية الإسلامية)، يتناكفان و يستميتان من أجل الدفاع عن طهرانية هؤلاء الأئمة، و اعتبارهم أعلام التجديد و النهضة الإسلامية. و قام هذان الكاتبان بإستخراجات تبدو مضحكة، للإلتفاف على ما يخدش صورة أئمة البروتستانتية الإسلامية، و ما يطيح بنقاوتهم كإنتمائهم إلى الماسونية و الأفكار المرفوضة إسلاميا أو المشبوهة كالإلحاد، و توحيد الأديان، و تحرر المرأة على النحو الغربي، و تحليل محرمات دينية كالربا، و تفسير الغيبيات بمفاهيم مستقاة من نتائج العلوم التجريبة في الغرب، كتفسير محمد عبده لسورة الفيل أن الأحجار التي أهلكت جيش أبرهة و التي حملها طير الأبابيل، ما هي إلا الميكروبات و الأوبئة التي فتكت بأبرهة و جيشه.
و بما أن الإخوان المسلمين أصبحوا البديل المفترض و الواقعي عن الإسلام، لأتباعهم في العالم، و أئمتهم تحولوا إلى بدلاء حقيقيين لعلماء الإسلام و فقهائهم، و في ظل دعم و تهيئة كبيرين للدوائر و الأنظمة المعادية للإسلام التراثي، وجد الإخوان طريقهم نحو الإنتشار و التمكين المادي من أوسع أبوابه. ولو أمعن القارئ النظر في المقارنة بين حسن البنا و بديع الزمان سعيد نورسي، في بلد مثل كُردستان لوصل الإستغراب به أقصى حدوده. فحسن البنا الذي أغتيل في عام 1949 و هو شاب ذو 42 عاما، و هو ليس بفقيه أو عالم، تتبعه الألوف في بلد عجمي مثل كُردستان، و يُطلق عليه لقب الإمام. بينما سعيد نورسي، الذي أطلق عليه لقب بديع الزمان لولوجه أعماق العلوم و المعارف، و هو فعلا أحد كبار الفقهاء و العلماء في تأريخ المسلمين كله (كان يحفظ 93 مجلدا عن ظهر قلب)، لا يجد له أتباعا في داخل شعبه الكُردي سوى نفر قليل، يسعهم مسجد صغير في زاوية مهجورة من أقاصي الأقضية الجبلية في كُردستان. مع العلم، أن بديع الزمان ولد قبل حسن البنا بـ 29 عاما، و جاهد مدافعا عن الدولة العثمانية ضد الروس و أنقذ الألاف من العوائل الأرمنية من الحرب، و عاش بعد حسن البنا 11 عاما، قضى عمره كله في التأليف و الدعوة و العلم و خدمة الناس و مقارعة النظام العلماني، بعيدا عن الأحزاب و السياسة و حبائلهما الفتنوية.
و لكن ماذا قدم الإخوان و اقرباؤهم الإحيائييون أي الوهابية، في السياسة، منذ أكثر من قرن للوهابيين و أقل من قرن للإخوان؟ تفرّعت من كليهما جماعات تلو جماعات. و كلما ولدت جماعة جديدة لعنت أختها، إمعانا في الإيغال في العنف و القتل من جانب، و إصرارا على “الإتصال المتين مع السلف” أو تباهيا بالمزيد من الإحيائية و نبذ التراث والخضوع للتغريب من جانب آخر. ففي كلا المسارين ولدت جماعات و أحزاب كثيرة من رحم الإخوان و الوهابية. بالنسبة للجماعات الوهابية الوليدة، كانت الحجج و الدوافع للجماعة الجديدة تدور دوما حول أن الجماعة السابقة كانت مقصرة في التمسك بالسلف، أو متراخية في إتباعهم و الإلتزام بنهجهم، و متساهلة في إستعمال العنف ضد الأعداء (مثال ذلك داعش التي تطورت من القاعدة التي بدورها تطورت من المجاهدين الأفغان). هذه الجماعات تتجه نحو التطرف الأكثر و العنف الأشرس، كلما انفصلت عن سابقتها. و بالنسبة للإخوان، فكانت الحجج و الأسباب لولادة أحزاب و جماعات جديدة، هي المزيد من إصلاح الدين و تحديثه، و الإنفتاح الأكثر على الحداثة و منتوجاتها السياسية (مثال الإخوان المسلمين ثم حزب الوسط ثم الحركة الغنوشية في تونس و الحبل على الجرار). وهذه الجماعات الإخوانية، تتجه في نسخها الجديدة، نحو المزيد من الإبتعاد عن الإسلام.
هذان الضلعان (الوهابية و الإخوانية) اللذان يشكلان الإحيائية الإسلامية و البروتستانتية الإسلامية، تسببا في خراب و دمار كبيرين للعالم الإسلامي. كما تسببا في تراجع المسلمين و تخلفهم في ميادين شتى، و في مضمار السبق الحضاري على الخصوص. و في هذا السياق، تحولا، وهنا المفارقة المؤلمة و المضحكة، إلى دعم و سند للأنظمة القمعية و المتخلفة في بلدان المسلمين، من حيث كانوا ينوون محاربتها، و فعلا دخلوا في صراعات مريرة معها، كان الإسلام فيها الضحية الأكبر دون إنتصار واحد لهذه الجماعات و لو مرة واحدة. اليوم يدفع المسلمون أثمانا باهظة بسبب البروتستانتية الإسلامية التي قادها رفاعة رافع الطهطاوي، محمد بن عبدالوهاب، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، حسن البنا، إبراهيم ساتروفا، نامق كمال و آخرون كثر. و هذه الأثمان الباهظة، حصد مرارتها المسلمون في أفغانستان، الشيشان، العراق، سوريا، ليبيا، مصر و الكثير من بلدان آسيا و افريقيا، حيث ينتشر الدمار و الفقر و التخلف و التقهقر الحضاري.
و حتى لا يقع القارئ في أجواء التشاؤمية و اليأس، و لعله يسأل، ما الحل إذاً؟ أقول مضيفا إلى ما طرحته في مقالات سابقة على مر السنين التي مضت، إن أفضل خدمة تقدمها الأحزاب و الجماعات الإسلامية للإسلام، هو أن تقوم بحل نفسها و تتصالح في ما بينها من جانب، و بينها و بين الأنظمة من جانب آخر. على أن تتفرغ بعد هذه المصالحة لشؤون العبادة و العلم و الدعوة والعمل الخيري، كما كان الفقهاء و العلماء على مر عصور الدولة الإسلامية خلال قرون خلت.
إن التخلي عن المنافسة الحزبية من أجل السلطة بإسم الإسلام، هو إرتقاء بشأن الإسلام من جديد كدين مقدس، مُرّغ في أوحال التنافس الحزبي و السلطوي الذي أردى العلوم الشرعية و الدعوة بل و العبادة ضحايا مجانية، على غرار الملايين من البشر الذين تحولوا إلى لاجئين، بعد حظ موفور أنقذهم من أن يتحولوا إلى جثث تحت الركام، كملايين أخرى، على امتداد العالم الإسلامي. إن الطريق نحو النصر يبدأ في تخلي الإسلاميين عن المنافسات الداخلية مع مكونات شعوب المنطقة، لأن صراعهم مع هذه المكونات في حلبة السياسة و الميدان العسكري أدى إلى تسييس الدعوة الدينية التي أمست تلاقي رفضا كثيرا خصوصا من قبل الأجيال الصاعدة، بينما لم يحصد الإسلامييون أي إنتصار يُذكر في هذه الميادين سوى أنهم تحولوا إلى وقود للصراع و الفوضى و الخراب. هذا كله يجري في سياقٍ أبْعَدَ الإسلامييون مسار الدين نحو مضامين تختلف كليّة مع تراث 14 قرنا من إسلامٍ وصلنا بالتواتر، عبر سلسلة غير منقطعة من العلماء. ما فعله الإسلامييون الإحيائييون البروتستانتييون هو إغتيال شخصية العلماء، ليطرحوا أنفسهم كبدائل تجسدت في أيامنا هذه في صورتين:
الأولى: جسد ضخم يتشح بالسواد، تغطي محياه الخشنة شعر طويل و لحية كثة عريضة، يحمل السيف أو السكين ويذبح الضحية البشر مصدحا “الله أكبر” (هذه الصورة جسدتها القاعدة و داعش).
الثانية: إسلامييون “متنورون حداثييون” يستميتون في وضع مكياجات الحداثة و التغريب على صورتهم، و التخلص مما يعتبرونه أثقال التراث. في هذه الصورة نجد راشد الغنوشي يتفانى في نصرة برلمانه علمانياً و لادينياً، و نجد فقيهاً إخوانيا و هو أحمد الريسوني، يعتبر فقه الأولين غير صالح لزماننا، و يريد أن يقدم الإسلام إلى المسلمين عبر نتائج العلوم الإجتماعية الغربية و ما توصلت إليه الأبحاث الغربية في علوم الإجتماع و السايكولوجيا. و كارثة الصورة الثانية أشد من كارثة الصورة الأولى. وكلتا الصورتان تطبيق حذافيريي لمقولة الإمامين الإحيائيين جمال الدين الأفغاني و محمد عبده “لا تذبح رأس الدين إلا بالسيف الدين.”.
ولله في خلقه شؤون.