يمكن لطريقة قص الشعر أن تدلنا على هوية معينة، فنعرف النازيين الجدد من قصّات شعرهم، ويطلق عليهم اسم "حليقي الرؤوس" مع شعارات معينة يرسمونها على رؤوسهم، أو شعر الأفارقة الأميركيين الذين يتركون شعرهم متشابكاً كشعر المغني العالمي بوب مارلي مطلق موسيقى الريغي في العالم.
وهناك موديل الشعر الخاص الذي يطلقه أشخاص بعينهم ويتحول إلى موضة عالمية كشعر إلفيس بريسلي، أو شعر فريق البيتلز في كل تحولاتهم، أو شعر جينيفر إنستون في الحلقات الأولى من مسلسل "فريندز"، والذي أطلق هوساً عاماً بين النساء حول قصة الشعر هذه التي صارت موضة في أنحاء العالم لسنوات، وهي تقوم على شعر متموج حتى الكتفين مع غرة مرفوعة كموجة فوق الرأس.
وهناك شعر لاعب كرة القدم إبراهيموفيتش الذي يربطه كمحاربي الساموراي اليابانيين بخصلة أعلى الرأس تبدو كذيل حصان مرتفع. وقد انتشرت هذه التسريحة بين شباب العالم لسنوات أيضاً، أو قصّة شعر اللاعب البرازيلي الأسطوري رونالدو الذي ترك غرة في مقدمة رأسه، حالقاً شعر رأسه المتبقي على طريقة سكان الغابات الاستوائية. كما انتشر تقليد ذقن اللاعب الأرجنتيني ميسي أيضاً.
موضة الشعر والتغييرات الاجتماعية
يمكن للشعر أن يكون متوافقاً مع الموضة السائدة، أو مخالفاً لها كتعبير عن الاعتراض، أو تعبير عن الرفض لتحديدات اجتماعية معينة لشعر المرأة وشعر الرجل، كأن يكون قصيراً أو طويلاً بحسب التصنيف الجندري، فإذا قصّت المرأة شعرها قصيراً أُعطي اسم "غارسون" بالفرنسية، أي "الصبي"، ما يعني أن الشعر القصير للذكور بين الطويل للإناث، كما هو حال الرجال الذين يطيلون شعورهم في المجتمعات المحافظة في القرن العشرين، والتي حددت في ثقافاتهم أن الشعر الطويل للمرأة، والقصير للرجل، فيوصف صاحب الشعر الطويل بأنه "مخنّث"، أو "أنثوي"، أو في أحسن الأحوال يعامل كأنه يخرج عن الضوابط الاجتماعية.
بالطبع، فإن هذه الإشارات التمييزية تكون في زمن ومجتمعات محددين. فالشعر الطويل كان في فترات كثيرة من ميزات الرجل كما في العصور الأوروبية في القرن الرابع عشر، وصعوداً، حين كان الرجال الأوروبيون يفضلون "الباروكة" ذات الشعر الطويل ومتدرج الانحناءات، أما النساء فكن يتركن شعرهن الطبيعي ليطول، ولكنه غالباً ما يكون مضموماً ومرتباً في ضفيرات وجديلات فوق الرأس يعلوها المنديل.
وشعر المرأة القصير تحول إلى موضة أيضاً منذ الثورة الصناعية وعمل النساء في المصانع، ومن ثم بعد الحرب العالمية الأولى حين بات الشعر الطويل عائقاً أمام حركة المرأة العاملة في مصانع الأسلحة، أو في المستشفيات، أو في إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
لكن، برأي عالمة الاجتماع الأميركية روز ويتز فإن القاعدة الثقافية الأكثر انتشاراً في الثقافة البشرية العامة حول تسريحة الشعر هي أن شعر النساء يجب أن يختلف عن شعر الرجال، بغض النظر عن كيفية هذا الاختلاف وشكله.
وقصّات الشعر خلال القرون الماضية، وتحديداً خلال القرن العشرين، كانت تتأثر بالتغييرات الاجتماعية الكبرى والانقلابات الثقافية داخل مجتمعات وثقافات معينة ومختلفة. فموديل الشعر في بدايات القرن العشرين قبل الحرب العالمية الأولى كان للرجال والنساء مختلفاً عما بات عليه بعد الحرب، والأمر نفسه ينطبق على الحرب العالمية الثانية، وفي الفترة الفاصلة بين الحربين، وفي المرحلة التي تلتها مع الفنانين السورياليين والموسيقى الجديدة التي كانت تخرج من رحم الأزمات التي خلفتها الحروب والأوجاع والمرارة التي تركتها في ذاكرة البشر، أو من الغبطة المرتبطة بفترة السلام التي تلي الحرب. فتغيرت قصات الشعر وموديلاتها بحسب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية والفنية التي عايشتها المجتمعات المختلفة. فكانت موديلات الشعر المترافقة مع موسيقى البلوز، ومن ثم "البوب"، و"البيت"، و"التاون"، و"الروك أند الرول"، و"الهافي ميتال روك"، و"البريك دانس"، و"الديسكو"، ومن ثم "الراب" مع الأفارقة الأميركيين، وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، تغيرت تسريحات الشعر بما يتناسب مع نجوم تلك الفترة من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات في الأفلام الهوليودية، بعد أن باتت السينما وسيلة الترفيه والإعلام والإعلان الأولى في العالم. فكان الجميع يريدون شعراً كشعر إلفيس بريسلي أو كشعر جون لينين أو مايك جاغر ومادونا ومايكل جاكسون وكورت كوبين وبوب مارلي في مراحل لاحقة، والممثلين من آفا غاردنر وإليزابيث تايلور ومارلون براندو وبراد بيت وليونارد دي كابريو على اختلاف الأزمان والمراحل.
تسريحة اللاتسريحة لغيتس وزوكربيرغ وماسك
في عصر التقنية والعولمة والقرية الكونية، ما زال الشعر بلا موضة محددة يمكن نسبها إلى هذا الزمن، أو اعتبارها ميزة له، فالمراهقون في أنحاء العالم لم يحددوا بعد شكلاً جديداً للشعر يتميزون فيه عن أقرانهم في العقود الماضية.
وقد يكون انغلاقهم في عوالم وسائل التواصل الاجتماعي، وفي هموم أخرى متعلقة بالعالم الافتراضي تجعلهم غير مهتمين بإيجاد قصّة شعر مغايرة، أو توصمهم بها. حتى ليبدو الأمر وكأنها عودة إلى الشعر العادي غير المصفف أو الذي لا يملك روحاً وهوية خاصتين، كما شعر مارك زوكربيرغ وكل مساعديه الشباب المحيطين به، أو شعر بيل غيتس العادي، بل والذي يليق بشخص لا يملك الوقت للنظر في شعره أصلاً، أو كشعر رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون الذي يبدو وكأنه ينسى أن له شعراً يصففه فوق رأسه.
أما الإناث فمنحتهن وسائل التواصل قدرة كبيرة على تصوير أنفسهن بالشعر الذي يُردنه، وبأي لون وموديل يخترنه، ويضعن هذه الصورة في حساباتهن التواصلية على الإنترنت، وتصبح هي صورتهن الحقيقية.
وغالباً ما يكون شعر فتيات هذه المرحلة الزمنية ذا تسريحة بسيطة، ولا غرابة شديدة فيها، كما هو شعر كيم كارداشيان الناعم والمنساب، أو شعر بريتني سبيرز وشاكيرا ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، وهيلاري كلينتون وأنجيلا ميركل، أي تصفيف عادي وبسيط للشعر لا ينم عن أي نوع من التعبير المختلف إلا بما يدل على أن الإناث في هذا الزمن، يحاولن الظهور بمظهرين، أي الجميلات ببساطة، كما هو حال نجمات الإعلام والإنترنت من جهة، وبمظهر عملي بسيط يؤكد تخفف المرأة من عقد جمالها الخارجي، لتثبت بأنها قادرة على القيام بالمهام الموكلة إليها على أكمل وجه وفي أي موقع كانت من دون الحاجة إلى أن تكون من حيث الشكل جميلة بالمعنى الذي تطلبه السلطة الذكورية لجمال المرأة.
وبحسب عالم الاجتماع هربرت ماركيوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، فإن النساء اللاتي يتمتعن بالجمال المتوافق عليه كمثال يقاس بحسبه جمال الأخريات، لا ينعدم وجودهن في مرحلة من مراحل التاريخ والمجتمعات.
فهؤلاء النسوة يقدمن مثالاً عن فرادة جمال الأنثى والإحتفاء بهذا الجمال، كما هو الحال مثلاً مع مونيكا بيلوتشي، أو قبلها مارلين مونرو، أو صوفيا لورين، أو صوفي مارسو، وغيرهن الكثيرات من النساء اللاتي كان جمالهن يستخدم كمعيار يقاس عليه الجمال في الفترة التي يعشن فيها.
سوق الشعر الضخمة
عموماً، ترتبط تسريحة الشعر بالموضة السائدة، ومن يخالف الموضة يبدو مخالفاً للتوافق الاجتماعي، ولطالما اهتم البشر بهذا الشعر الذي يمكن أن يكون ميزة إضافية للجمال الخارجي للشخص، بل وسبباً لخفوت هذا الجمال المتوافق عليه إعلانياً وإعلامياً واجتماعياً في حالة الصلع، التي كانت غالباً سبباً للسخرية أو التندر على صاحبها في مختلف المجتمعات والثقافات.
وصار لهذا الشعر سوق، بل وعالم خاص، بدءاً بالمنتجات التي تغذيه وتقويه، وأنواع لا تعد من مساحيق غسيل الشعر، عدا عن صبغات الألوان المختلفة، ثم سوق المصففين والحلاقين الذين يصير بعضهم ذوي شهرة عالمية بتصفيفاتهم وقصّاتهم التي يستنبطونها، وهناك الآت ومعدات تستخدم في عالم موديلات الشعر وقصّه، ثم أسواق الباروكات أو الشعر المستعار، وعيادات زرع الشعر، ثم هناك صناعة تغطية الشعر من الإيشاربات والفولارات والقبعات، وغير ذلك من اقتصادات مختلفة تقوم على الاهتمام بشعر الرأس.
وعلى مر العصور، كانت تسريحات الشعر علامات ودلالات على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها صاحب التسريحة والهوية العرقية والمعتقدات السياسية، وكانت كذلك سبباً لخلافات جندرية (ذكر - أنثى)، أو لخلافات تقليدية بين الأجيال المتعاقبة.
في روما الإمبراطورية قبل الميلاد، كانت تسريحة شعر النساء عبارة عن كتلة مكورة أعلى الرأس ينسدل الشعر منها في صفوف من موجات، ويغطى بقبعات من الحرير المطعمة باللؤلؤ والأحجار الكريمة. أما الرجال النبلاء فكان شعرهم يتطلب اهتماماً يومياً من عديد من "العبيد" ومصممي الشعر. ومنذ ذلك الحين حتى العصور الأوروبية الوسطى، كانت النسوة يتركن شعرهن يطول بشكل طبيعي، ولا يُظهرنه في الأماكن العامة فيغطينه بالمناديل والقبعات. فالمرأة التي تخرج بشعر سافر وبلا غطاء أمام العامة هي من البغايا، وهذه علامتها في تلك الفترة المديدة من الزمن.
وفي القرن السادس عشر بدأت النساء في زخرفة شعورهن باللآلئ والأحجار الكريمة والشرائط والحجاب، واستخدمن تقنية "الربط" أو "الشريط" باستخدام الحبال أو الشرائط لربط الشعر حول رؤوسهن. وفي النصف الأخير من القرن الخامس عشر وحتى القرن السادس عشر كان خط الشعر المرتفع جداً عند الجبهة يعتبر جذاباً. أما الرجال الأوروبيون فكانوا يقصّون شعرهم المقصوص إلى الكتف، وكان من الشائع في إيطاليا أن يقوم الرجال بصبغ شعرهم.
أما الباروكة الأوروبية الشهيرة، والتي لطالما كانت الأسئلة حولها، أو عن سبب ارتدائها من قبل رجال لم يطاولهم الصلع، ولكن الأمر يعود إلى الملك الفرنسي لويس الثالث عشر (1601-1643) عندما بدأ الصلع يصيبه مبكراً قبل الأوان.
وروّج لهذه الموضة إلى حد كبير ابنه وخليفته لويس الرابع عشر، مما أسهم في انتشارها في الدول الأوروبية، بل وباتت تلك الباروكات بأحجام وأنواع وألوان مختلفة تضع الفارق الطبقي أو الوظيفي أو السلطوي بين مُرتديها. أما نساء منتصف القرن الثامن عشر فقد طوّرن نمط "البوف"، أو "الانتفاخ" في مقدمة الرأس باستخدام وسادة صغيرة يلف حولها الشعر كي يمنح شعوراً بالكثافة والارتفاع.
القرن العشرون والتصفيفات الغريبة
أما قصّة الشعر القصير للرجال فقد انطلقت بطريقة مثيرة للاستغراب عندما قرر السياسي الراديكالي فرانسيس راسل دوق بيدفورد الخامس في إنجلترا، قصّ شعره احتجاجاً على فرض ضريبة على مسحوق الشعر، وتحدى أصدقاءه أن يفعلوا كما فعل، فانتشرت هذه التسريحة في مختلف أوروبا بشكل سريع في بدايات القرن العشرين.
الحرب العالمية الأولى
خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت النساء في جميع أنحاء العالم في التحول إلى قصّات الشعر القصيرة لكي لا يعوقهن أثناء العمل. وكان شعر الرجال قصيراً، ويتم تصفيفه مع خط على الطرف أو في الوسط، وهذا الشكل استمر حتى بعد نهاية الحرب الثانية.
وفي ستينيات القرن الماضي اتبعت النساء موضة الشعر القصير، مثل "البكسلبينما" في السبعينيات، أما الشباب الثائر في أوروبا والولايات المتحدة في تلك الفترة فكان الشعر عموماً طويلاً حتى الكتفين وأملسَ مع قصّة للغرة للنساء وتركه مسترسلاً للرجال. أما الرجال والنساء الأميركيون من أصل أفريقي، فتركوا شعرهم يطول بشكل طبيعي، وعملوا على تجعيده بأدوات حجرية وأكباش من العظام كعودة إلى الجذور الأفريقية.
دور الدين
ويلعب الدين والإيمان دوراً مهماً في شكل شعر النساء والرجال. فمثلاً تقوم الراهبات الكاثوليك بقص شعرهن قصيراً جداً، أما الرجال الذين انضموا إلى الرهبانيات الكاثوليكية في القرن الثامن فتبنوا شكلاً خاصاً، وهو حلق رؤوسهم وترك بقعة صلعاء حول نقرة الرأس. والرهبان البوذيون يحلقون شعرهم عن آخره أيضاً. أما النسوة المسلمات المؤمنات فيغطين شعرهن بالكامل، وكذلك النساء اليهوديات اللاتي يتزوجن من رجال دين.
أما رجال ونساء الطبقة العاملة منذ الثورة الصناعية فكانوا يعتنون بشعرهم اعتناءً عادياً، أو من دون اهتمام، لكن الأمر تغير لدى الطبقة العاملة منذ أواسط القرن العشرين، حيث بات العمال في كل مكان إما يتبعون الموضة السائدة أو يختارون قصّات شعر خاصة بهم، مثل العمال المكسيكيين في المدن الأميركية، المعروفين بقصّة الشعر المنغولية، أي حلق الشعر كله باستثناء خصلة من الشعر في مؤخرة الرقبة، والشعر الأفريقي - الأميركي ذي الضفائر المتشابكة.