الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد الانتقال مما سمّاه "أكبر كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين إلى أكبر "تصحيح جيوسياسي" في القرن الحادي والعشرين. من انهيار الاتحاد السوفياتي إلى استعادة الفضاء الجيوسياسي والاستراتيجي الذي خسرته موسكو، وربحه الغرب بعد الانهيار.
لكن مشكلته أنه يحاول ذلك باللعب بين الدبلوماسية والحرب ومزيج من المكر والابتزاز. فمن الصعب تصور الغرب الأميركي والأوروبي يقدم لروسيا "الضمانات الأمنية" الخطية التي تطلبها وبينها "معاهدة" مع الولايات المتحدة الأميركية. وأبرز ما تطلبه، كما جاء في الرد الروسي على الرد الأميركي على المقترحات الروسية، هو "سحب صيغة بوخارست بأن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في "الناتو". رفض إنشاء قواعد عسكرية على أراضي الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وليست من أعضاء الحلف حالياً. وعودة الإمكانات العسكرية، بما في ذلك القدرات الضاربة والبنية والتحتية لـ"الناتو" إلى حالة عام 1997 عندما وقعت روسيا والحلف تفاهماً أساسياً يحدد العلاقة بين الطرفين".
ومن المستحيل إلغاء كل ما حدث بعد نهاية الحرب الباردة، إذ انضمت إلى "الناتو" أربع دول أيام الرئيس بوريس يلتسين و11 دولة أيام بوتين، بحرب حارة تشنّها روسيا على أوكرانيا. فالمطالب الروسية أوسع بكثير من المطالب بشأن أوكرانيا. والغزو لا يحقق أي مطلب.
ذلك أن الإمكانات العسكرية لغزو أوكرانيا صارت كاملة على ثلاث جبهات: روسيا، وبيلاروس، والقرم على البحر الأسود. ولا حاجة إلى الأسلوب الكلاسيكي المضحك في اختراع الذرائع. ولا خوف من صدام عسكري مع الغرب، الذي أعلن سلفاً بالجملة عبر "الناتو"، وبالمفرق في كل عاصمة، أنه لن يواجه الغزو بالقوة، بل بالعقوبات. وهو سبق لبوتين أن اختبره في جورجيا عام 2008، وفي القرم عام 2014، وفي سوريا عام 2015، ومارس نظرية لينين: "اضرب الجدار بنعومة، فإن كان صلباً تراجع، وإن كان ليناً، اضرب بقوة".
لكن ما يمنع بوتين من الغزو أو يدفعه إليه هو حسابات الربح والخسارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والدفاتر هنا مفتوحة. الغزو ليس نزهة عسكرية في بلد شاسع من أربعين مليون إنسان، لا لجهة الخسائر العسكرية الروسية، ولا لجهة حرب العصابات لاحقاً، ولا لجهة زرع الحقد بين شعبين سلافيين وحدوث اعتراض شعبي روسي مهما يكن محدوداً حتى الآن في إطار حزب "يابلوكو" الليبرالي و"جمعية ضباط عموم روسيا" برئاسة الجنرال المتقاعد ليونيد إيفاشوف. العقوبات تكرسح الاقتصاد الروسي الذي يصبح معزولاً عن السوق العالمية وشبكة "سويفت". والعزلة الدبلوماسية مرشحة لأن تكون كبيرة، بعد أن ذهب جميع قادة أوروبا إلى موسكو لمحاورة بوتين، وجرى حوار افتراضي أكثر من مرة بينه وبين الرئيس الأميركي جو بايدن لدفعه إلى التخلي عن الغزو. وما حدث من نشر قوات إضافية أميركية وتابعة لـ"الناتو" في البلدان التي يريد بوتين إخلاء الأسلحة منها سيشهد مزيداً من الوجود العسكري، ثم إن الغزو لن يحقق حلم بوتين بأن يجعل روسيا شريكاً للولايات المتحدة الأميركية على قمة العالم ضمن معادلة الند للند.
وفي المقابل، فإن التراجع عن الغزو عملياً، ولو بقيت القوات الروسية محتشدة على الحدود، يفتح باب الحوار الجدي حول الممكن واللا ممكن من المطالب. فلا الغرب يستطيع أن يتجاهل حاجات موسكو الأساسية إلى الشعور بالأمن. وليس من الصعب التوصل إلى تفاهم ما على إبقاء أوكرانيا وجورجيا خارج لائحة المرشحين لدخول "الناتو". ولا بالطبع الاتفاق على أحياء "اتفاق مينسك" لتسوية الصراع بين كييف والانفصاليين في لوغانسك ودونيتسك شرق أوكرانيا، فضلاً عن تطوير "معاهدة هلسنكي" للأمن الأوروبي بما يضمن الأمن الضروري لكل الأطراف.
يقول تيم وينر في كتاب "الحماقة والمجد: أميركا وروسيا وحرب العصابات السياسية"، إن "الحرب والسلم بالنسبة إلى روسيا ليسا أمراً مزدوجاً، بل هما متقابلان في نهاية أوعية متصلة". وهذا على الأرجح هو السيناريو في مسألة الغزو واللاغزو. وما يقرر، كما قال بوتين، هو "الوضع الحقيقي على الأرض".