حالة تكاد تكون فريدة في التاريخ:
ربما لا يوجد في التاريخ شعب يُنكر هويته ويرفضها، ويجد سعادة كبيرة في انتحاله الانتماء لهوية غيره، رغم أن هذا الغير لا يعترف له بذلك الانتماء، مثل الشعب الأمازيغي. فإذا كان اللبنانيون والأردنيون والعراقيون والسوريون والفلسطينيون واليمنيون والمصريون، قد تخلّوا هم أيضا عن هوياتهم التاريخية الأصلية والحقيقية، وانتحلوا الانتماء إلى العروبة، إلا أن الفرق بينهم وبين الأمازيغ هو أن العرب الحقيقيين، عرب الخليج، يقبلون بانتساب هؤلاء إليهم، عكس موقفهم من الأمازيغ الذين يعتبرونهم دائما شعبا غير عربي. ولهذا تبقى حالة الأمازيغ، الذين يصرّون على أنهم عرب، وأن مغربهم عربي رغم أن العرب الحقيقيين لا يعترفون لهم بذلك، حالة شاذة قد تكون فريدة في التاريخ، كما قلت.
وما يزيد من شذوذ وفرادة حالة الأمازيغ هذه، هو أنهم لا يكتفون بادعاء الانتماء إلى غيرهم من الشعوب وإنكار انتمائهم الأمازيغي الحقيقي وانتهى الأمر، وإنما يُرفقون ذلك، كشرط لصحّته، بنفور من الأمازيغية وتحقير لها، والنظر شزرا إلى المغاربة الذين لا زالوا متمسّكين بانتمائهم الأمازيغي ومعتزّين بهويتهم الأمازيغية الجماعية، مع استمرار الكثير من هؤلاء المنكرين لأمازيغيتهم في استعمال عبارات: “اللغة البربرية” و”الإنسان البربري”، قاصدين بذلك عمدا المدلول القدحي لكلمة “بربري”، التي تعني المتخلف والمتوحّش غير المتحضّر، والتي يقابلها في الفرنسية، barbare وليس berbère، كما يدعّون لتبرير شتمهم للأمازيغ باستعمال نعت “بربري”.
التفسير بمفهوم “التحوّل الجنسي”:
مفهوم “التحوّل الجنسي”، بمعناه القومي والهوياتي، يعطينا تفسيرا لهذا السلوك المازوشي كتعبير عن كراهية المتحوّلين إلى الجنس العربي لجنسهم الأمازيغي، حيث لا يحسّون بالسعادة إلا عندما يتماهون مع العرب، تماما مثلما يكره الشاذ أخلاقيا فحولته الذكورية ويرفضها، ولا يشعر بالسعادة إلا عندما يتماهى مع المرأة التي يتشبّه بها. الشيء الذي يجعل هذه الحالة من الشذوذ الجنسي ـ دائما بالمدلول الأصلي للفظ “جنس” في العربية، الذي يعني القوم والشعب ـ، الذي يعيشه العديد من المغاربة، بترا حقيقيا لعضو هويتهم، لا يختلف، على مستوى الوظائف والنتائج، عن البتر الجِراحي لعضو ذكورة الشاذ حتى يتحوّل جنسيا إلى أنثى، ويفقد رجولته الطبيعية والأصلية (انظر موضوع: «الشذوذ الجنسي للدولة المغربية هو المسؤول عن تطاول العربان على كرامة المغاربة» ضمن كتاب “في الهوية الأمازيغية للمغرب”).
إلى جانب التحوّل الجنسي، الذي يفسّر هذا السلوك العدائي للمتحوّلين المغاربة تجاه أمازيغيتهم، التي أصبحوا يرفضونها ويُنكرون الانتماء إليها، هناك عامل آخر ـ ولو أنه يُفضي إلى نفس النتيجة ـ يدعم هذا السلوك ويؤدّي إليه. إنه عامل الخوف من التحرّر الذي تمثّله الأمازيغية. لنشرح هذه المسألة بشيء من التفصيل.
الأفكار التصحيحية للحركة الأمازيغية تعطي أكلها:
فمنذ استنجاد الطبقة المخزنية في 1912 بفرنسا لحمايتها، تحوّلت، وبتدخّل فرنسي، الهوية الجماعية للمغاربة إلى هوية عربية، بعد أن كان هذا التحوّل، قبل 1912، مقصورا على حالات واختيارات فردية لا تمسّ الطابع الأمازيغي للهوية الجماعية للمغاربة. وسيتعزّز هذا التحوّل بعد الاستقلال من خلال سياسة التعريب، التي تعني، لغويا واصطلاحا، تحويل المغاربة إلى عرب. هكذا نشأت أجيال ما بعد الاستقلال مقتنعة أن المغاربة شعب عربي، وأن المغرب بلد عربي ذو انتماء عربي، بعد أن أترعتها المدرسةُ، والإعلامُ والأحزابُ ومؤسساتُ الدولة…، بأن عروبة المغرب والمغاربة شيء بديهي، لا جدال فيه ولا نقاش حوله.
لكن مع أواخر القرن الماضي، ستزرع الحركة الأمازيغية الشك في بداهة عروبة المغرب، وستثبت أن هذه الأخيرة مجرد بناء إيديولوجي وسياسي مفروض، تكذّبه معطيات التاريخ ووقائع الجغرافيا وحقائق الأنتروبولوجيا. وقد فرضت أفكارُ الحركة الأمازيغية، حول اللغة والثقافة والتاريخ والهوية، التراجعَ عن بداهة عروبة المغرب، كما يتجلّى ذلك في إقرار دستور 2011 أن المغرب ليس عربيا، إذ نص على أن الأمازيغية مكون رئيسي للهوية المغربية بجانب العنصر العربي، الذي هو فقط أحد مكوّنات هذه الهوية المتعددة بمكوناتها وروافدها (ليس موضوعنا هنا مناقشة المفهوم العامّي والخاطئ للهوية المتعددة التي لا وجود لها)، كما اعترف بالأمازيغية لغة رسمية للدولة.
فضلا عن هذه المراجعات الرسمية والدستورية لمفهوم الهوية، والتي كانت وراءها الأفكار التصحيحية للحركة الأمازيغية، هناك اليوم، نتيجة لهذه الأفكار التصحيحية، مراجعات للعديد من المفاهيم والبديهيات التي تخص اللغة والثقافة والهوية والتاريخ، حيث بدأت تلك المفاهيم والبديهيات تتساقط كأوراق الخريف أمام حقائق اللسانيات، والأنثروبولوجيا، وعلم التاريخ على الخصوص، وحتى علم التطوّر الوراثي للسكان la génétique des populations. وهو ما جعل العديد من المغاربة، وخصوصا المثقفين منهم، يكتشفون، مذعورين ومرتبكين، أنهم أمازيغيون في هويتهم وانتمائهم، وأن عروبة المغرب زيف وانتحال للصفة وتنكّر للذات، لا غير.
لكن بدل أن يسْعد هؤلاء المغاربة باكتشافهم لأمازيغيتهم، ويعلنوا اعتزازهم بها وانتماءهم إليها، ويضعوا حدا لشذوذهم الجنسي، أي القومي والهوياتي، تراهم متمادين، وبعناد وإصرار، في الادعاء أنهم عرب، رافضين الاعتراف بانتمائهم الأمازيغي. لماذا إصرار هؤلاء المغاربة على الاستمرار في رفضهم لأمازيغيتهم، وفي انتحالهم للصفة، بعد سطوع حقيقة أنهم أمازيغيون وليسوا عربا؟
الإدمان على مخدّر الوهم العربي:
يرجع ذلك إلى أنهم عاشوا منذ الاستقلال في “الوهم العربي” (العروبة وهم بشمال إفريقيا فقط، أما في موطنها وعند شعبها العربي الحقيقي فهي موجودة وحقيقية، نحترمها ونقدّرها وليس لنا معها أدنى مشكل) حتى ولعوا به وأدمنوا عليه كمخدّر إيديولوجي وسياسي وفكري، يعطّل ملكة النقد والمراجعة إلى درجة أصبح يشكّل معها هذا الوهم، بالنسبة لهم، علة وجودهم وحياتهم، به يفكّرون ويحلمون، من أجله يعيشون ويناضلون، منه صنعوا أبطالهم وأصنامهم القومية والعروبية، وهو الذي يعطي معنى لحياتهم ويجعلها تستحقّ أن تُعاش… أمام هذه السيطرة المطلقة “للوهم العربي” على أذهان ووجدان هؤلاء المغاربة، وخصوصا المثقفين منهم، بات واضحا أنه من الصعب التخلّي عنه والتحرّر منه، حتى بعد انكشاف أنه فعلا مجرد وهم، وحتى بعد سقوط أبطال وأصنام القومية العربية في مواطنها الأصلية بالشرق الأوسط، وحتى بعد الاعتراف بالأمازيغية كهوية جماعية للمغاربة بعد أن أصبح اليوم ذلك شيئا ثابتا ومؤكّدا. كيف سيتخلّون عن وهمهم العربي الذي عاشوا به ومن أجله، ويعودون إلى الأمازيغية التي قضوا كل حياتهم في شتمها والانتقاص منها؟ كيف سيتراجعون عن وهمهم العربي ويرجعون إلى أمازيغيتهم التي خذلوها طول حياتهم؟ كيف سيرتدّون عن الإيمان بوهمهم العربي ويؤمنون بالأمازيغية التي سبق أن كفّروها وكفَروا بها؟ كيف سيغادرون وهمهم العربي، الذي كان علة وجودهم وحياتهم كما كتبت، ويعودون إلى أمازيغيتهم ليفتخروا بالانتماء إليها ويدافعوا عنها بعد أن كانوا من المحتقرين لها والساخرين منها؟
إن ذلك أكثر من فطام قبل الأوان. إنه بمثابة انتحار حقيقي يفقدون معه حياتهم ووجودهم اللذيْن كان الوهم العربي علّة ومصدرا لهما، كما ذكرت. وإذا عرفنا، كما سبقت الإشارة، أن هذا الوهم ذو طبيعة تخديرية تنتج عن استهلاكه تبعية إدمانية، فسنعرف أن الإقلاع عنه أمر صعب جدا، إن لم يكن مستحيلا.
الموالي الجدد:
إنه شيء طبيعي أن يرفضوا الأمازيغية رغم أنهم مقتنعون اليوم أنهم، في هويتهم الجماعية، أمازيغيون حقيقية وليس وهما، ويتمسّكوا بالوهم العربي رغم أنهم مقتنعون اليوم أنه وهم وليس حقيقة. لماذا؟ لأن حياتهم، منذ الاستقلال، داخل ومن أجل هذا الوهم، الذي تربّوا في أحضانه ورضعوا من حليبه وعبدوا أوثانه، جعلتهم عاجزين عن التحرّر من تبعيتهم لهذا الوهم والتخلّص من الإدمان عليه، بعد أن أصبح يشكّل مأواهم ومسكنهم وعالمهم الوحيد، الذي ألفوه ونشأوا فيه وعليه، وأضحوا تابعين له، مغلولين به وإليه. ولهذا فهم يخافون من الأمازيغية لأنها تمثّل، بالنسبة لهم، التحرّر من هذا الوهم، وفكّ الأغلال التي تشدّهم إليه. إنهم يخافون من هذا التحرّر لأنه سيجعل منهم، كما يعتقدون بسبب إدمانهم على ذلك الوهم، يتامى بلا مأوى ولا مسكن.
إنهم مثال حي لما يُعرف في التاريخ العربي الإسلامي بـ”الموالي”، الذين هم في الأصل عبيد حرّرهم أسيادهم المالكون لهم، لكنهم يستمرّون في خدمتهم كما كانوا يفعلون عندما كانوا رقيقا. وما يهمنا، في هذه المقارنة بين حالة المغاربة المشدودين إلى الوهم العربي وحالة الموالي، هو الجواب عن السؤال التالي: لماذا يرفض الموالي الحرية التي يمنحها لهم مالكوهم، ويفضلون عنها الاستمرار في خدمتهم كما كانوا يفعلون وهم رقيق فاقدون لهذه الحرية؟ الجواب هو أن هذا المولى، الذي قضى الجزء الأهم من عمره، إذ غالبا ما يكون قد استُرقّ وهو طفل صغير كغنيمة حرب انتُزع قسرا من أهله وأسرته، لا يعرف ماذا سيفعل بهذه الحرية التي حصل عليها، لأنه لا يعرف أهلا يأوي إليهم، ولا أسرة تستقبله وتحتضنه، ولا دارا يلجأ إليها ويسكن بها. هكذا تصبح الحرية بالنسبة لهذا الشخص المُعتق بمثابة منفى، وعقوبة أشد مما كان يعيش فيه من عبودية. ولهذا فهو يخاف من هذه الحرية ويرفضها لأنها تعني له الضياع والتشرّد. ومن هنا يختار هذه العبودية ـ الطوعية هذه المرة ـ ويفضّل العودة إلى خدمة سيده على الحرية التي لا يعرف كيف يمارسها ويدبّرها، لأنه عاش طوال حياته وهو تابع ومأمور، ولم يسبق له أن تصرّف بحرية يقرّر بنفسه ما يريده لنفسه.
نفس الشيء بالنسبة للمغاربة الذين انتُزعوا قسرا من أمازيغيتهم منذ ميلادهم، فعاشوا “رقيقا” للوهم العربي طيلة حياتهم. فلم يعرفوا انتماء من غير الانتماء إلى نفس الوهم العربي الذي ظلوا تابعين له، يخدمونه بصدق وإخلاص، منه يستمدّون وجودهم ومعنى حياتهم، كما سبقت الإشارة. ولما اكشفوا اليوم حقيقة انتمائهم الأمازيغي، الذي يحرّرهم من العبودية للوهم العربي، ومن انتمائهم الزائف المنتَحل، يرفضون هذا التحرّر لأنه لم يسبق لهم أن عاشوا أحرارا، على المستوى الهوياتي، ولا يعرفون بالتالي كيف يستغلّون ما تمنحه لهم الأمازيغية من فرصة للتحرّر والانعتاق من أسْر الوهم العربي. إنهم يخافون من هذا التحرّر لأنهم يخافون أن يًطردوا من كهفهم الأفلاطوني (نسبة إلى أسطورة الكهف mythe – allégorie – de la caverne التي عرضها أفلاطون في كتاب “الجمهورية” ليشرح بها الفرق بين عالم الحقيقة الواقعية والحقيقة الزائفة) الذي عاشوا داخله طيلة حياتهم، حتى اقتنعوا، مثل القاطنين بكهف أفلاطون، أن الوهم هو اليقين وأن الزيف هو الحقيقة. لهذا يفضّلون العيش رقيقا للوهم العربي، على أن يعيشوا أحرارا ومستقلين هوياتيا، لأن هذه الحرية وهذا الاستقلال autonomie يخيفانهم نظرا إلى أنهم لم يألفوهما ولم يسبق أن مارسوهما، مثلما يخاف الموالي الحقيقيون من الحرية والاستقلال فيفضّلون العيش في العبودية على أن يعيشوا أحرارا مستقلين.
إنهم يخافون من هذه الحرية وهذا الاستقلال اللذيْن تمنحهما لهم الأمازيغية، ويرفضونهما إلى درجة أنهم يعارضون، كما يفعلون بخصوص الأمازيغية نفسها، أن ترتقي الدارجة إلى مستوى لغة تعليم ومدرسة، علما أنهم يقولون ويؤكدون أنها تنتمي هي أيضا إلى وهمهم العربي. لماذا يعارضون ترقيتها وتأهيلها على الرغم أنها جزء من وهمهم العربي؟ نظرا أن الدارجة لغة مغربية أصيلة، فإن تأهيلها لتكون لغة تعليمية وكتابية مثل العربية، يعني الاستقلال اللغوي عن الوهم العربي. وهذا ما يرفضونه رفضا باتا، لأنهم يخافون من كل ما يؤدّي إلى التحرر والاستقلال عن الوهم العربي، كما أشرنا.
هؤلاء هم الموالي الجدد، الذين يرفضون الحرية التي توفّرها لهم أمازيغيتهم، ويفضلّون العبودية للوهم العربي على أن يعيشوا أحرار، ذوي هوية مستقلة، وليست تابعة للوهم العربي. إنهم يخافون من التحرّر الهوياتي لشدة إدمانهم على العبودية الهوياتية للوهم العربي. وهو ما يحتاجون معه إلى علاج ـ ومعالجة أيضا ـ خاص يناسب داء فقدان المناعة الهوياتية.
خذلان المثقف وضرورة تدخل الدولة:
يُنتظر دائما من المثقّف أن يكون من أوائل الذين يتصدّون للأوهام والأساطير، ويحاربون الوعي الزائف، لينشروا، بدله، الوعي السليم السويّ. لقد كان يُفترض فيه دائما أن يكون ذلك هو مهمته الأولى، كقاعدة يلتزم بها ويعمل وفقها. لكن المثقّف المغربي سيشذّ، نتيجة شذوذه الجنسي الهوياتي، عن هذه القاعدة ويخلّ بهذه المهمة، إذ أصبح هو الناشر للوعي الزائف، والمدافع الشرس عن الوهم العربي، مصدر هذا الوعي الزائف، والرافض لانتمائه الأمازيغي الذي يرى فيه عائقا أمام انتشار وهمه العربي (انظر: “الأمازيغية والمثقفون المغاربة” ضمن كتاب: “في الأمازيغية والنزعة الأمازيغوفوبية”). وهذا راجع ـ وسبب له في نفس الوقت ـ إلى أن المثقفين المغاربة هم أكثر المتعاطين لمخدّر الوهم العربي والمدمنين عليه، نظرا لطبيعته الإيديولوجية والفكرية. ولأن الأمر يتعلق بالمثقف وليس بالمواطن غير المتعلّم، فإنه ينتج عن ذلك أن «أسوأ أنواع الاستلاب استلابُ المثقفين؛ ذلك أن استلابهم لا يقتصر عليهم، بل ينتقل إلى غيرهم» (الكاتب ميمون أمسبريذ، “صدى الإبداع” أو الجهل “العالِم”.
ولهذا إذا كان الوهم العربي لا زال يعرف انتشارا واسعا بالمغرب، رغم كل الحقائق التي تؤكد الانتماء الأمازيغي للمغرب والمغاربة، فذلك راجع إلى خذلان المثقفين وتخلّيهم عن دورهم التنويري، بعد أن تحوّلوا، بفعل مخدّر الوهم العربي، إلى مدافعين عن الشذوذ الجنسي ـ دائما بمعناه القومي الهوياتي ـ، وناشرين للوهم والزيف، ومروّجين للجهل “العالِم”، كما سماه ميمون أمسبريذ، ومحتقرين لكل ما هو محلي ومغربي أصيل، خائفين من التحرّر الهوياتي الذي تمثّله الأمازيغية. وهذا ما يجعلهم يفتقرون دائما إلى الشجاعة والنزاهة للعودة إلى أمازيغيتهم والاعتزاز بالانتماء إليها، كما فعل المثقّف الجزائري كاتب ياسين، الذي اكتشف، وهو الذي تربّى على أنه عربي لكونه ابن أسرة تتحدث العربية (الدارجة)، وتعلّم في المدرسة أن الوطنية تقتضي محاربة الأمازيغية لأنها ترتبط بالاستعمار وتدعو إلى التفرقة، (اكتشف) أن الشعب الجزائري ـ ومعه كل شمال إفريقيا ـ أمازيغي في حقيقته وانتمائه، فأصبح من أشرس المدافعين عن الأمازيغية بعد أن كان من المعادين لها كما يحكي عن ذلك (انظر موضوع: “متى يفعل المثقفون المغاربة مثل المثقف الجزائري كاتب ياسين؟” ضمن كتاب: “في الهوية الأمازيغية للمغرب”).
أمام هذا الدور الذي يلعبه المثقفون في نشر الوهم العربي وإبقاء المغاربة تابعين وخاضعين هوياتيا لهذا الوهم، وخائفين من فقدانه والتحرّر منه، كما في حالة الموالي، حسب ما سبق أن شرحنا، لا يبدو أنه يمكن للمغاربة المتحولين، جنسيا وهوياتيا، أن يتحرّروا تلقائيا من نظام الرقّ الهوياتي ويعوا ويعلنوا أنهم أمازيغيون مستقلون في انتمائهم وهويتهم الجماعية، دون خوف من التحرّر من هذه التبعية الهوياتية للوهم العربي، إلا إذا تدخلت الدولة من خلال سلطاتها ومؤسساتها وتعليمها، على الخصوص، لتحرير المغاربة من هذه التبعية المهينة للوهم العربي. وهذا يشترط أن تعطي هي نفسها القدوة بإعلانها أنها دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي، أي دولة تستمد هويتها من موطنها الأمازيغي الإفريقي. فهذه الدولة هي التي ورّطت المغاربة في هذه التبعية منذ استقدامها لفرنسا لحمايتها. وهي التي عليها أن تحرّرهم من هذه التبعية، استكمالا لاستقلال المغرب واسترداده لكامل سيادته.