سنة 2016 شارك الفيلم الإيطاليperfect strangers في مهرجان القاهرة السينمائي، وخرج بجائزة أفضل سيناريو، نشرت قائمة الجوائز في الصحف المصرية والعربية بشكل عادي، وذكر الفيلم مرات عديدة، وشاهده كثر، وظلّ الفيلم حدثا لا يهم الجمهور العربي، من منطلق أن ما يحدث في الغرب من شذوذ وانهيار أخلاقي وقلّة حياء لا يحدث عندنا.وحتما سيظلّ الفيلم في هذا الهامش، لو أن إحدى نسخه الـ17 قُدِّمت مُدبلَجة باللغة العربية، كما أتوقع أنه سيمرّ مرور الكرام على منصّة نتفليكس، لو أن دور منى زكي أدّته ممثلة لبنانية مثل دارين حمزة، أو ريتا حايك، أو ندى أبو فرحات، ليس لأنه يحق للبنانية ما لا يحق لغيرها، بل لأن الجمهور اللبناني يختلف عن أي جمهور عربي آخر. قد يقول البعض إن ردّة فعل الجمهور تجاه فؤاد يمين اللبناني كانت قاسية، وإذا تمعنّا في الأمر جيدا سنفهم سريعا أن لا أحد وجّه كلاما قاسيا ليمين كممثل، لكن ما حدث هو رفض وجود شخصية مثلية في الفيلم. للتذكير فالممثل عادل كرم سبق وأن قدّم مجموعة اسكتشات تلفزيونية أدى فيها دور مثلي الجنس بشكل كوميدي مع الممثل عباس شاهين، وحققت نجاحا كبيرا، دون أدنى انتقاد لا للدور ولا للمثلييْن. نحن هنا أمام مشكلة تلقٍ كبيرة إذن، ويجب الوقوف عندها بشكل جاد.عن ردود الأفعال القاسية والمتباينة تجاه الممثلين، تأخذ منى زكي القسط الأوفر منها، بعد أن تقدّم أحد المحامين ببلاغ للنائب العام، يتهم فيه الممثلة وصناع النسخة العربية من الفيلم والمعنونة بـ»أصحاب ولا أعز» بنشر الفسق والفجور والترويج للمثلية الجنسية. كما طالبت فئة كبيرة من ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، زوجها أحمد حلمي بالانفصال عنها.المشهد الذي أزعج الجماهير العربية «المحافظة» تبدو فيه منى زكي وهي تخلع لباسها الداخلي، مع أن المخرج وسام سميْرة حرص على عدم ظهور زكي بشكل كامل وهي تخلعه، إذ جاء المشهد استنتاجيا، وفق الحركات التي قامت بها. وهذا لا يعني شيئا للمتفرّج «الحذق» الذي تخيّل الممثلة وهي تؤدي باقي الدور دون ثيابها الداخلية. يا للهول! إنها ردّة فعل غريبة تثير اشمئزاز المتفرّج، الذي لا تهزه ملايين الصور يوميا لأفراد من وطنه المترامي الأطراف وهم حفاة عراة. لكن مشهدا كهذا يهزّه. لكن دعونا نطرح سؤالا مهما، هل السينما بالنسبة للجمهور العربي موضوع معرفي مرتبط بالعلوم الاجتماعية؟ أم وسيلة لتبييض سمعة؟ وهل يعرف هذا الجمهور الفرق بين التمثيل السينمائي وانعكاسات التشكيل الاجتماعي، من خلال فيلم أم لا؟ بتعبير آخر هل يدرك هذا المتلقي على بساطته، أن السينما تقوم بتكبير صورة التغييرات العميقة التي تحدث في المجتمع، وهي في الغالب مرئية وغير مرئية، أو لا تمارس في العلن، لإبراز آلياتها لا غير؟يندرج هذا الفيلم دون أدنى شك، ضمن ثيمات علم الاجتماع المرئي، وهو مرتبط ببروتوكولات البحث الإثنوغرافي، الذي يهتم بوصف الشعوب، وهو أحد علوم الإنسان المنصبة على دراسة المظاهر المادية للنشاط الإنساني، من عادات وتقاليد كالمأكل والمشرب والملبس، وفق تعريفه لغويا في قواميس العرب. ولنوضّح هنا أن مجال الخيال ليس إخفاء الواقع، بل تسليط الضوء بشكل موضوعي على الواقع الاجتماعي واختزاله، لكن لماذا ثارت ثائرة «المجتمع» من مشهد سينمائي قصير جدا لا يتجاوز الثلاثين ثانية؟ وهل كان مشهد مثل هذا سيؤثر فيه، لو قُدّم في سياق وثائقي؟ إن ما أرعبه في الحقيقة هو عمل السينما في إعادة تشكيل المجتمع وفق نظرية الانعكاس، كمن يضع مرآة أمامه ويرى انعكاس صورته عليها. بينما في الوثائقي يختلف الأمر، لأن الأشخاص فيه يعكسون أنفسهم، و»هم» وليس «نحن» في الغالب، وحين نتحدث عنهم بإمكاننا أن نصفهم بأقذر الأوصاف، وسيبقون ضمن إطارهم الشخصي البعيد عنّا.
حقيقة إن التوقف عند قطعة لباس في مشهد سينمائي يعيدنا إلى نظرية رولان بارت على أن كل ثوب «رمز» (نظام الموضة 1967) ورمزية خلع اللباس الداخلي في أريحية من طرف المرأة نفسها، له دلالات تتعلّق باستعادة سلطتها على جسدها، كوننا تعوّدنا في كثير من الأفلام على أن يقوم الرجل بخلع هذا الثوب، سواء في علاقة حميمية بقبول الطرفين، أو في مشهد اغتصاب، وكلاهما له دلالة على سلطة الذكر على الأنثى.من الواضح أيضا أن القراءات القليلة للفيلم، التي تناولته تقنيا وفنيا، وقيمت من خلاله أدوار الممثلين قليلة، ومن المؤسف أن تمرّ فرصة كهذه دون أن نرى مثلا الأداء الجيد للفنان جورج خبّاز في دور درامي خارج مسرحه الكوميدي، الذي عُرِف من خلاله محليا. خبّاز الذي يعدّ نجما لبنانيا له شعبية كبيرة لدى جمهور شاسع من كل الأعمار، تأخّر كثيرا ليُعرف على المستوى العربي، ولعلّ الشخصية التي أطلّ بها على جمهور عريض وجيش من شرطة المدينة الفاضلة، التي نعيش فيها، قريبة أكثر لواقع الطبيب المثقف، الذي صحّح مع ابنته خطأ يدرك جيدا عواقبه الوخيمة، إن لم يتصرف بتلك الحكمة لتوجيه ابنته إلى الطريق الصحيح. إن الفنّ الذي لا يصحح مسارات أخطائنا ويقترح مستقبلا أفضل لنا، بعيدا عن تكرار صورتنا القديمة البشعة بشكل مبتذل، يخرج تماما عن منطق الإبداع. من هذا المنطلق كانت رسالة الطبيب المثقف لابنته واضحة ومباشرة. سيميائيا كانت الدلالات قوية أيضا، حين يضعها في مواجهة نفسها، دون قيود ولا مراقبة ولا إرغام. كان من الممكن أن يكون هذا المشهد أقوى مشاهد الفيلم على الإطلاق، وهو واحد من المشاهد التي برز فيها جورج خبّاز، والتي كانت لها محمولات جمالية ابتكرها بأدائه المتميز.اختلف خبّاز في أدائه، فيما تشابهت أدوار الجميع مع ما قدّموه سابقا، سواء في مسلسلات تلفزيونية، أو في أفلام سينمائية. لقد تميز دوما بقدرته العجيبة على السيطرة على خشبة المسرح، وجعل جمهوره يعيش المشاعر كلها من النقيض إلى النقيض، يفعل ذلك بلمسة ساحر، فيضحكه مرة حتى الثمالة ويبكيه أخرى، يصفق ويرقص معه مرة، ويصغي له بصمت قاطعا أنفاسه في أخرى.. لكنّه في دور الطبيب وليد سركيس منحنا فرصة لقراءة حزن كثيف على ملامحه، وكثير من القلق. منح الدور ما يحتاجه من انفعال دون زيادة أو نقصان وكفى.هل قدّم الفيلم شيئا جديدا؟ لا أعتقد فكل ما تمّ طرحه فيه من قضايا طُرِح في عشرات الأفلام قبله، بل إنه طرح باحتشام مقارنة مع أفلام أخرى شملت مشاهد جنسية أدت بها إلى مقصلة الرقابة، وتم منع عرضها منعا باتا، من بينها فيلم «حمام الملاطيلي» لمخرجه صلاح أبو سيف، وهو الأشهر على الإطلاق في تناول المثلية الجنسية كمشكلة في المجتمع العربي، وفيلم «بيروت أوتيل» لدانيال عربيد بطولة دارين حمزة، وفيلم «طلب نجدة» لمارك أبي راشد، والقائمة طويلة لأفلام منعت بسبب مشاهد جنسية، أو مبالغة في تقديم بعض الشخصيات دون ثياب تماما.لا جديد إذن رغم كل هذا الضجيج، سوى أن الرقيب العربي لم يعد ممثلا في هيئة معينة، أو مؤسسة تابعة للدولة يمثلها عدد محدود من الأفراد، بل إنها اتسعت لتشمل السواد الأعظم من المجتمع، وأغلبه ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي، ويحاول أن تطال سلطته منصات عالمية لفرض قوانينه وشروطه.إن الخطورة تكمن هنا، في هذه الشرطة التي تطارد الفنان وتحاصره حتى في الفضاءات الافتراضية، مستعملة كل الأسلحة الشريرة للقضاء عليه، بدءا بالكلام البذيء إلى تحريض الهيئات القانونية ضده، ولعلّ الرّابح الوحيد في هذه الحرب غير متوازنة الأطراف، انتصار العنف مجدّدا وتراجع العقل العربي مئات الخطوات إلى الوراء.
شاعرة وإعلامية من البحرين