كلمة لابد منها .. قبل أن تقرأ (الصاعقة).. كانت هذه هي كلمة السر التي انهت واحدة من اكبر وأخطر عمليات رجال المخابرات المصرية, عيون مصر الساهرة . هي الكلمة التي شكلت السطر الأخير في قصة مذهلة, تتابعت فصولها على امتداد زمني طويل, وتضمنت مشاعر انسانية مركبة أو معقدة, أفشت في كل وقائعها وجوانبها, معاني متضاربة عن الخيانة.. والسقوط.. والوطنية.. والكفاءة المهنية العالية!! وقبل ان تتعاقب فصول هذه القصة على الورق, والتي نحكيها ونحن نحتفل بالعيد الفضي لنصر اكتوبر العظيم, ربما يلزم ان نشير إلى بعض ملامحها, واطار العمليات التي تمت فيه, فنحن أمام عملية أمنية بالغة التشابك, لم يتم خلالها ـ فقط ـ مراقبة أو متابعة الهدف أو (الجاسوس) , وإنما ثم استخدامه أيضا كقناة يتم ــ عبرها ـ تسريب المعلومات والبيانات المضللة إلى العدو حتى يتوه عن ساعة الصفر في حرب أكتوبر المجيدة, التي كانت آخر ما يفكر فيه, أو تخطر له على بال. ثم اننا أمام عملية دارت بعض وقائعها على أرض أجنبية, وبالذات في العاصمة البريطانية (لندن) , ومن ثم فإن حجم الانجاز المهني ـ إذا جاز التعبير ـ الذي حققه رجال المخابرات المصرية في المتابعة والمراقبة, ثم في انهاء العملية والقبض على الجاسوس ليلقى جزاءه الرادع العادل, يعد ـ من الناحية الفنية ـ اعجازا حقيقيا, واستخداما نموذجيا لكل الامكانيات والأدوات المتاحة, لتحقيق النتيجة القصوى, والانتصار على (الموساد) جهاز المخابرات الاسرائيلي في معركة أخرى, ضمن معارك حرب الجاسوسية والمعلومات. وأخيرا.. فإننا أمام عملية هي ـ في أبسط وصف لها ــ عمل من أعمال الحرب, لأنها ليست عملية جمع معلومات أو تجسس عادي, ولكن عملية كان لها مردود مباشر على عمليات الحرب وعلى التشويش الكامل, على المعلومات التي يستند إليها فكر الجيش الاسرائيلي في تشكيل أو اتخاذ قراره العملياتي المباشر على الأرض. هي واحدة من حكايات النصر.. نكشف عنها مع الاحتفالات بهذا النصر.. هي واحدة من أوراق كثيرة في ملفات المخابرات العامة, تشير ـ بكل الاعتزاز والفخر ــ إلى قدرات الرجال الذين راقبوا وتابعوا بعيون الذئاب وسمع الثعالب, حتى أوقعوا بواحد من أخطر الجواسيس قبيل حرب تحرير التراب الوطني من بين براثن العدو عنوة واقتدارا, وأبان معارك اكتوبر المجيدة التي صعدت بالكرامة العربية إلى أعنة الجبال الرواسي. وعندما تأكد رجال المخابرات المصرية من أنهم قد استخدموا هذا الجاسوس في تحقيق كل أهدافهم من العملية, وسربوا عبر القناة التي يمثلها كل ما يريدون تسريبه إلى اسرائيل, كانت ثمة كلمة واحدة تحمل إليهم التوجيه بانهاء العملية والقبض على الهدف لكي ينال قصاصه. الكلمة كانت .. (الصاعقة)! ولن نحكي ـ هنا ـ الفصل الأخير من هذه القصة, التي تعد واحدة من أكثر قصص الجاسوسية اثارة, ولكننا سنحكي فصولها من البداية, ونكاد نحبس أنفاسنا ونحن نتابع وثائقها بالغة التشويق فصلا بعد فصل, ومطاردة بعد مطاردة, ومراقبات, ومداورات, ومراوغات في الخفاء والعلن, داخل فنادق العاصمة البريطانية, وشوارعها وحدائقها, حيث شهدت ساعة بساعة, ويوما بيوم فصول هذه القصة, والتي نكشف عنها الستار لأول مرة, بعد خمسة وعشرين عاما من وقوعها, وفي اليوبيل الفضي لنصر أكتوبر العظيم. قصة بدأت بكلمة الخيانة.. وانهتها ـ كالصاعقة ـ كلمة الصاعقة.. تماما كما كانت ضربة الطيران الحاسمة بقيادة حسني مبارك, صاعقة حرب 73 التي عجلت بنهاية الأسطورة الاسرائيلية. بلاي بوي.. على الرغم من ان الجو كان ربيعا نموذجيا في لندن يوم 16 مايو 1972, وعلى الرغم من انه خلا من أية برودة, فإن رعدة سرت في جسد (هشام) , وهو يقف على عتبات كازينو (البلاي بوي) على ناصية كيرزون ستريت, وبارك لين, لم يكن يدري ـ كما قال بنفسه فيما بعد ما إذا كان هذا الاحساس وليد برودة (داخلية) أحس بها, أو شعور نشوة واثارة احتل عقله وسكن قلبه الممتلئ بخيالات وأطياف عن هذا المكان الذي كثيرا ما سمع عنه, وارتسمت في ذهنه صورة أسطورية له. ولكن ما الذي دفع هشام ـ الشاب المصري الأسمر ـ إلى عتبات هذا الكازينو الشهير التي كانت في الحقيقة عتبات طريق جديد وساحة مجهولة, يوشك ان يدلف إليها؟ كانت قصة طويلة عرف بدايتها ولكنه لم يعرف كيف ستكون النهاية! القصة تبدأ في يوم لم تطلع شمسه, ملبد السماء, قارس البرودة, من أيام شهر فبراير من العام نفسه, حين هبطت طائرة مصر للطيران في مطار هيثرو, ونزل على سلمها شاب مصري, متوسط الطول, وإلى جواره زوجته الشابة تحاول معاونته, ومعاونة طاقم المضيفين في انزال والده الجالس ـ بجسده النحيل المتهالك ـ على كرسي ذي عجلات. على سلم الطائرة كان رأس الشاب ــ كم قال هو أيضا بعد ذلك ـ مهموما بحالة أبيه المريض, ضابط القوات المسلحة على المعاش الذي انهكه السرطان فطار مع ابنه عله يجد شفاء ـ أو حتى تخفيفا لآلامه ـ في مستشفيات لندن تاركا زوجته أم هشام في القاهرة. بدأ هشام علي محجوب ـ وهذا هو اسمه كما هو مدون في جواز سفره ـ يرتدي معطفا أسودا طويلا, كان يضعه على يده, بمجرد خروجه من بوابة المطار الخارجية, بعد ان لفحه جو لندن القارس البرودة, بينما يديه اليسرى مشغولة بحقيقة يد. تاريخ ميلاده في جواز سفره يقول انه من مواليد 6 مارس عام 1941, يعني انه عندما هبط في مطار هيثرو لأول مرة كان عمره واحدا وثلاثين عاما, حيث استقل مع زوجته وأبيه تاكسيا من طابور التاكسيات الواقفة أمام بوابة الوصول, متوجها إلى الفندق الذي سينزل فيه مع أسرته في لندن. طوال الطريق كان ذهنه يموج بأفكار صاخبة وقد ثبت نظره على زجاج نافذة سيارة الأجرة الانجليزية التقليدية السوداء, فقد كان يتصور حين جاء إلى لندن للمرة الأولى ـ قبل ذلك بشهور ـ ليعمل ضابطا أول للعمليات الجوية في شركة مصر للطيران, مهمته رسم مسارات وارتفاعات الرحلات الجوية, ومتابعة تجهيز جداول نوبتجيات الطيارين والمضيفين والموظفين, انه قد بدأت طريقه بالفعل لتحقيق طموحه الكبير في ان يصبح شيئا, ولكنه ما كاد يضع قدميه على جادة الطريق, حتى فوجئ بالمرض القاتل ينقض على أبيه, والذي لم تكن ظروفه المادية تسمح بالتصدي لمصاريف العلاج الباهظة. ولقد استعان هشام ببعض أصدقائه من الأطباء المصريين في لندن لكي يقدموا له النصيحة بخصوص موضوع العلاج, وكان قد نجح في الحصول على تذكرتين مخفضتين من مصر للطيران لوالده وزوجته, ولكن مسألة الاقامة وما تتكلفه من نقود كان هو الموضوع الذي يشغل باله, ويقض مضجعه, ويجثم على قلبه. أفاق هشام من استرسالاته على هزة عنيفة سببها توقف التاكسي أمام بوابة الفندق (رويال لانكستر) بعدما عبر حديقة الهايدبارك إلى لانستر جيت في (بيز ووتر) , بعدها حاسب السائق وساعده بعض العاملين في الفندق في نقل أبيه وأمتعته إلى الداخل. *** فندق رويال لانكستر, كان هو الذي تنزل به مجموعات مصر للطيران, في العاصمة البريطانية ــ عادة ــ وكان هشام دائم التردد عليه للقاء زملائه طوال فترة وجوده وعمله ثم كان ينزل به أحيانا كلما كان يعود إلى لندن مرة أخرى قادما من القاهرة. وفي هذا الفندق تعرف هشام على مديره المصري رأفت الذي كان يعمل لمصلحة الموساد ومتابعا من المخابرات المصرية, ونشأت بينهما مبادئ صداقة, ولاحظ ان رأفت كان دائما ما يسعى إلى عقد صداقات مع أفراد طواقم مصر للطيران, تحت عنوان أنهم (أبناء بلدي) !! كان رأفت متزوجا من انجليزية يهودية الديانة, وحكى لهشام ــ مرة ــ عن ثقة مالك الفندق فيه, الأمر الذي جعله يضع معظم قرارات العمل ــ بالفعل ــ في يده, كما سمع هشام عن ان مالك الفندق الانجليزي من أصل يهودي. وضمن سلسلة اقترابات لهشام من رأفت, أخبره مرة بأنه يستطيع مساعدته عندما يكون لديه أي ضيوف يريد ان ينزلوا في الفندق, ويعطيهم أسعارا مخفضة, ويقدم لهم أي خدمات خاصة. وعندما نقل هشام والده وزوجته إلى غرفتيهما, عاد إلى صالة الاستقبال ليسأل عن رأفت, ولم يكن يدرك ان رأفت يجلس في ركن قصي من صالة الاستقبال, ويثبت عينيه عليه, منذ وصل إلى الفندق, هذه اللحظة, إذ كان على علم بكل تفاصيل مرض الأب, وضائقة هشام من خلال لقاءاتهما السابقة. أشارت موظفة الاستقبال إلى مكان رأفت, اندفع هشام إليه ليأخذه بالأحضان, ويجلس الاثنان على مقعدين في بهو الاستقبال, وحكى هشام لرأفت عن كل شيء, وقال له انه يبحث عن مورد رزق يصرف منه على رحلته مع أسرته في انجلترا, وعلاج أبيه. وعلى الفور كان رأفت يتحدث إلى موظفي الاستقبال لاجراء تخفيض كبير من مصاريف الاقامة بالفندق.. ثم يتوجه إلى هشام الذي كان غارقا في شعوره بالامتنان والعرفان ليقول له: (موضوع عملك يا هشام يحتاج إلى بعض التفاصيل ما رأيك ان نخرج من هنا لنجلس في مكان ظريف بعيدا عن جو الفندق والنزلاء والعمل) ؟ ووافق هشام وبدا غير قادر على التعبير عن شكره لرأفت, الذي أصبح المنقذ وحلال كل العقد. أما رأفت.. فقد كان يعرف ما يفعل ــ بالضبط ــ بل وبدت كل الوقائع التي تتابعت منذ هذه اللحظة, وكأنها تنفيذ حرفي لتوقعاته وتنبؤاته. وظيفة حيوية ذهب الاثنان بعد ان انتهى رأفت من وردية عمله في الفندق إلى بار في فندق (كمبرلاند) على بعد حوالي خمسمائة متر من رويال لانكستر, وجلس الصديقان جلسة حرص ــ رأفت الذي أصبح الآن يمتلك كل مفاتيح الموقف النفسية والعاطفية ــ على ان يجعلها مزيجا من المواساة القلبية لهشام, والتحرك العملي لمؤازرته. وفي الجلسة حرص رأفت على ان يستمع ـ مرة أخرى ـ من هشام إلى تفاصيل طبيعة عمله ومؤهلاته, بحجة أن ذلك سيساعده في العثور على عمل اضافي مناسب له. وراح هشام يحكي لرأفت أنه حصل على شهادة الثانوية العام عام 1958, ثم شهادة اللاسلكي عام 1959, وانه يعمل ضابط أول عمليات جوية, وكان رأفت يقاطعه من آن لآخر, ذاكرا عبارات من طراز: (انها وظيفة حيوية جدا) .. (لابد انهم تأكدوا من كفاءتهم قبل اختيارك) .. (هل يعني رسم مسارات وارتفاعات الرحلات الجوية أنك تتحكم , كذلك في المساحة التي يمكن لك وللطيار مراقبتها على الأرض؟! ولابد ان عليكم قيودا شديدة هذه الأيام فالبلد في حالة حرب, ما هو الجزاء الذي يمكن ان يقع على الطاقم لو خرجت الطائرة عن مسارها واقتربت من منطقة عسكرية؟ كان رأفت يسأل, ويسأل, وكان هشام يسترسل, ويسترسل, بينما كانت كؤوس النبيذ الفرنسي الشهير (يوردو) تدور بينهما كأسا بعد الأخرى, فتفك عقدة الألسنة أكثر وأكثر. وبينما كان هشام يعبث بحبات اللوز المملح الموضوعة في طبق من زجاج أمامهما على البار بادره رأفت قائلا: اعتقد ان مؤهلاتك وشطارتك تؤهلك لعمل مع أحد أصدقائي من رجال الأعمال المقيمين هنا في البلد. وهنا كان هشام قد بدأ يقتنع ان رأفت هو هدية السماء له, وسأله بلهفة: (متى ألقاه) ؟ وابتسم رأفت, بعد ان أدرك أن فريسته قد أصبحت طوع بنانه تماما, وأراد ان يشعر هشام بأن لا شيء يأتي سهلا, كما أراد ان يتركه نهبا للاحساس بخطر الافلاس مدة مناسبة, حتى يصبح جاهزا تماما للتعامل معه. وأجاب: هو غير موجود في لندن الآن, وسيعود بعد حوالي عشرة أسابيع, هو رجل أعمال انجليزي من أصل لبناني مسيحي, وأعماله متناثرة في عدد كبير من البلاد, وتقتضي منه الغياب عن المركز الرئيسي لمدد طويلة على هذا النحو. ثم أضاف بنبرة قصد ان تكون طبيعية, وفيها عدم اهتمام تجاه عنصر الوقت, الذي يعرف جيدا انه ضاغط على خلايا أعصاب هشام وذرات تفكيره: ( على أية حالة يمكنك ان تستغل الفترة في متابعة علاج أبيك, ولا تحمل هما بشأن مصاريف الفندق, فسأحاول ان أجري لك تخفيضا اضافيا آخر.. وياسيدي.. إذا احتجت شيئا فأنا موجودا!!) وانهى رأفت لعثمة هشام وارتباكه أمام الفخ الذي ينصبه له بعناية, بأن دفع الحساب, مع بقشيش كبير, بعد ان حرص على ان يخرج حافظته, وبها قدر كبير من (النقود) أمام هشام الذي رآها وثيقة اعتماد مادية لقدرات رأفت الكبيرة, وان فعله سوف يكون على قدر كلامه!! ووضع رأفت يده على كتف هشام وخرجا يتمشيان حتى (رويال لانكستر) . *** تعدد لقاءات هشام مع رأفت, حتى أخذت ايقاعا منتظما ويوميا, مرة على افطار ومرة على كأس, ومرة على فنجان قهوة, وفي كل مرة يبدي رأفت اهتماما مبالغا فيه بحالة والد هشام الصحية, حتى لم يعد رأفت بالنسبة لهشام مجرد منقذ أرسلته عناية السماء, ولكنه أصبح الشقيق الذي يقاسمه آلامه وقلقه وظروفه القاسية! مرة على افطار, ومرة على كأس, ومرة على فنجان قهوة, تعدد اللقاءات بين الشابين. رجل الأعمال اللبناني حين هل الربيع, كان هشام يدرك ان اللحظة التي طال انتظارها مع رجل الأعمال صديق رأفت وشيكة, وسأل رأفت عن موعد وصوله, وكان يطير فرحا حين أجابه, لقد وصل بالأمس, وانهما سيلتقيان في الثامنة مساء الغد. وفي الثامنة من يوم 16 مايو كان هشام يقف في بهو الفندق , حليق الوجه, مرتديا حلة زرقاء داكنة, ورباط عنق يتمازج فيه اللونان الرمادي والنبيتي, في انتظار صديقه رأفت لكي يذهبا معا للقاء رجل الأعمال.. ولما طال الوقت سأل موظفة الاستقبال, فأخبرته بأن رأفت ترك رسالة له, فتحها هشام ليقرأ السطر التالي: (آسف لعدم حضوري في الموعد, لدي عمل في بارك ستريت, وسوف أذهب بعده مباشرة لانتظارك في كازينو البلاي بوي حيث سنلتقي بصاحبنا.. معذرة رأفت) . كان اسم (البلاي بوي) يعني عشرات الصور والأخيلة المثيرة بالنسبة لشاب مثل هشام (31 عاما) وقادم من مجتمع كان حتى هذا الوقت منغلقا إلى حد كبير. كان في حد ذاته مجرد بداية سلسلة انبهارات قصدوا ان تسيطر على هشام وتفكيره. كانت البنات العاريات, وفيشات القمار, والمجلة التي تحمل نفس اسم الكازينو, هي المعاني التي استدعاها هشام إلى رأسه تلقائيا حين قرأ اسم البلاي بوي في الرسالة التي تركها له رأفت, والمؤكد ان اختيار ملهى البلاي بوي لأول لقاء بين هشام ورجل الأعمال, كان اختيارا مقصودا لابهاره والتأثير عليه. ركب هشام تاكسيا إلى بارك لين, ووصل إلى بوابة الكازينو, الذي يتكون من خمسة طوابق, الأرضي به بهو استقبال كبير, وبينهما الطوابق الأربعة المخصصة للعب القمار بأنواعه, وعندما لم يجد هشام صديقه, لم يستطع ان يمسك نفسه, ويواصل الانتظار, ودخل إلى ساحة الاستقبال, حيث أخبره العاملون بأن دخول هذا الكازينو لا يحتاج إلى بطاقة عضوية, ولكنه يحتاج ملء استمارة دخول في كل مرة يأتي فيها الشخص إليه, وبالطبع مرة أخرى فإن اختيار هذا الكازينو بالذات من قبل رأفت وصديقه رجل الأعمال لم يجيء من فراغ, بل كان مخططا له, لأن الكازينوهات الأخرى لها سجلات تقيد فيها عدد مرات المترددين عليها, وهذا مالا يريده رأفت! المهم ان هشام ملأ الاستمارة على عتبات باب نادي القمار الشهير, والتي كانت تبدو كعتبات طريق جديد وساحة مجهولة يوشك ان يدلف إليها. وفي الداخل, راح هشام يتجول بعينيه داخل صالات القمار والمطاعم المزدحمة التي تقدم أفخر أنواع الأطعمة والمشروبات والمناضد المتناثرة في الصلات ذات الأنوار الخافتة, وراح يتأمل ــ في نشوة فوارة ــ المضيفات اللاتي يرتدين ملابس الأرنب المشهورة ــ رمز البلاي بوي ــ , وأذان الأرانب تبدو من فوق رؤوسهن وقطعة الفراء المستديرة التي تمثل ذيل الأرنب تعلو الأرداف والسيقان العارية, إلا من جوارب على شكل شبكة موشاة من خيوط سوداء وذهبية. واتسعت حدقتا عينيه وهو يرى أثرياء المنطقة يخسرون أمامه في دور من أدوار الروليت ـ ووسط هذا العالم السحري الاسطوري ـ آلاف الجنيهات الاسترلينية, وهم يضحكون ويشربون, ولا تهتز رموشهم أو جفونهم. وفي صالة البلاك جاك, حيث تطير مئات من الجنيهات الاسترلينية وتتبخر في الهواء, فوجئ هشام بيد تربت على كتفه برفق, وتوقظه من استرسالاته وخيالاته, والتفت خلفه, ليجد صديقه رأفت الذي همس في أذنه: (آسف تأخرت لدقائق.. الرجل ينتظرنا في المطعم) . *** وهبط الرفيقان على السلم إلى أحد مطاعم الكازينو, وفي ركن بعيد, على احدى المناضد كان شخص في العقد الخامس من عمره يجلس في ضوء خافت, لم يظهر ملامحه بشكل كامل. تقدم رأفت إليه محييا, ومقدما هشام إليه, بعبارة دالة تقول كلماتها (تستطيع ان تعتمد عليه في كل شيء) , ثم وجه كلامه إلى هشام قائلا: (أقدم لك صديقا عزيزا.. ادوارد كوشير رجل أعمال انجليزي من أصل عربي لبناني) . ووسط التصافح والتمتمة بعبارات المجاملة التقليدية, كانت نظرات كوشير تكتسح هشام من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. جلس الثلاثة على المائدة حيث وافق كوشير ورأفت على الشراب الذي طلبه هشام دون تردد, في مجاملة مقصودة, وبينما راح الثلاثة يحتسون كؤوس الويسكي بلاك ليبل, لم يتوقف رأفت عن الثرثرة في مرح مفتعل ومحاولة لتذكير هشام ببعض النكات السياسية التي كانت مصر تعج بها في هذا الوقت, وتسخر من الرئيس السادات وعدم قدرته على الحرب, كما تسخر من الجيش المصري وهزيمته المروعة في 1967م!! كان هشام يشترك في الضحك من كل ما يحكيه رأفت, فقد كان على استعداد للمجاملة إلى آخر مدى, ولو بوطنه, أو برموز هذا الوطن. وكان رأفت ينظر من آن لآخر إلى كوشير ليريه ان الضحية وصلت إلى أقصى درجات الاستعداد للارتماء في أي حضن, والاستسلام لأي ضغط. ابتسامة لزجة وبعد ان تجرع رأفت ما تبقى من خمر في كأسه دفعة واحدة, استأذن في القيام, متعللا بأنه يريد أن يصرف ما معه من جنيهات في صالة القمار, وغمز بطرف عينه إلى كوشير الذي ابتسم ابتسامة لزجة لا مشاعر فيها!! كان ادوارد كوشير لطيفا وناعما جدا في حديثه إلى هشام الذي راح يعلق على بعض مفردات اللهجة العربية الشامية التي يتحدث بها كوشير. قال ادوارد انه يعمل قومسيونجيا, ووكيلا لعدة شركات, وهو يريد التعامل مع السوق المصرية, ولكن تنقصه معلومات كثيرة عن أحوال التجارة في مصر, وما إذا كان من الممكن استثمار أموال في مصر أم لا. وكان هشام يحاول رغم عدم خبرته في مسائل الاستثمار والاقتصاد ان يشترك في الحديث بأية كلمات يحاول من خلالها ان يثبت لكوشير انه (متحرك وشاطر) . وبينما كان الرجلان يحتسيان القهوة بعد العشاء, راح هشام يحاول الاستزادة عن تفاصيل العمل, وادوارد يحاوره ولا يعطيه اجابة كاملة تريحه, وما ان فرغا من احتساء القهوة, حتى طلب ادوارد من هشام ان يلقاه في اليوم التالي في الموعد نفسه ولكن في فندق سيلفريدج. ودهش هشام جدا, حين طلب منه ادوارد ألا يخبر رأفت بأي شيء عن موعد لقائهما المقبل, لأنه ـ على حد تعبيره ـ (رجل طماع) وسيحاول ان يحشر نفسه في هذا البيزنيس الجديد دون داع. وعلى الرغم من دهشة هشام إلا انه وافق, فقد بدأ ومنذ شهور رحلة الموافقة, يوافق على أي شيء, يوافق على كل شيء, وهو في هذه الليلة باع صديقه, أو ما يتصور انه صديقه, في طريقه لأن يبيع أشياء أخرى أعز وأثمن. *** اليوم 17 مايو 1972 الساعة: السابعة وخمس وأربعون دقيقة. المكان: فندق سيلفريدج الملتصق بالمتجر الشهير الذي يذهب إليه المتقدرون ـ من وجهة نظر هشام ـ في مصر للشراء والتسوق وعمر هذا الفندق ــ وقتها ـ سبعون عاما. جاء هشام مبكرا ربع ساعة, حتى يتجول داخل الفندق الشهير, وتمشى من عند الساعة الشهيرة التي تعلو مدخل المتجر الرئيسي في شارع اكسفورد, ثم انعطف يمينا ليدخل إلى ديوك استريت, الشارع العريق الذي تأسس عام 1728 وأشهر مبانيه ــ تاريخيا ــ ووتر هاوس وهو الآن الكنيسة الكندية. دخل هشام من باب الفندق الدوار ذي اللون البني الغامق, حيث كان يقف أمامه حارس يرتدي حلة خضراء غامقة وقبعة عالية من نفس اللون, صديرية حمراء, أطرافها خيوط من القصب, وفي وسط المدخل منضدة مستديرة من الماهوجني الانتك, تعلوها آنية زهور شينواه كبيرة تزدحم بعيدان باقة ضخمة من زهور الداليا البيضاء. إلى اليسار حامل خشبي بني قديم, رصت عليه الصحف البريطانية الشهيرة ومنضدة خشبية غامقة يقف خلفها موظفا الاستقبال, وبنتان للاستعلامات والمحاسبة, تعلوها ساعة عتيقة على يمينها ويسارها لوحتان زيتيتان عريقتان, احداهما للورد أبرستون ترجع إلى عام 1715, والأخرى لليدي أبرستون في عام 1760, وليس للشخصين أي ارتباط بفندق سيلفريدج ولكن تم اقتناؤهما لقيمتهما الأثرية, وكان تسكع هشام داخل الفندق قد أتاح له قدرا لا بأس به من الفرجة على مفرداته وأثاثه, وجوه المميز الفريد, حيث تتناثر على امتداد صالة الاستقبال بضعة مقاعد جلدية (زيتي غامق) وإلى جوارها مناضد انتيك وأباجورات شينواه, وإلى اليمين صعد هشام سلما كبيرا بدرابزين نحاسي, وجوانبه مشغولة بالفير فورجيه الأسود, وترصعه بادجات نحاسية كبيرة عليها حرف S الذي يرمز لاسم المحل. السلم أوصله إلى مدخل صغير تتوسطه نجفة أثرية عظيمة, وإلى اليمين مدخل (أوركاردتيراس) , وهو مطعم جريل يطل على أوركارد ستريت, فيه تناثرت مناضد مربعة ذات مفارش خضراء, تعطي احساسا كبيرا بالبهجة, وسط الجو المتزن الوقور الذي يوحي به اختيار الأثاث الستيل والانتيكة في بقية أرجاء الفندق. وعلى احدى هذه المناضد كان اللقاء الثاني بين هشام وادوارد. مصنع جرارات عندما صافح ادوارد ضحيته ثبت نظراته إلى عيني هشام, الذي تعلق به في نظرة رجاء طويلة, وأبدى ترحيبا مبالغا فيه. وعلى عشاء فاخر من الأسماك والقشريات البحرية, مصحوبا بزجاجة نبيذ فرنسي (شابليه) أبيض فاخر دار الحديث حول تفاصيل العمل, الذي كان هشام يتوق إليه. قال ادوارد لهشام: (أنا وكيل شركة بلجيكية للجرارات الزراعية, وهي تريد ان تقيم مصنعا في القاهرة, وقد تقدمت بطلب بهذا الخصوص بالفعل, ولم أحصل بعد على الرد وسوف تكون أنت وكيل هذه الشركة في القاهرة, وسوف نفتح لك مكتبا لادارة أعمالها ولكن في البداية نريد منك معلومات عن أسعار الأراضي في مصر, وكم سيتكلف شراء أرض لاقامة مصنع للجرارات. كان هشام يريد أي عمل والسلام, ومن ثم فقد أجاب على كل أسئلة ادوارد, بما يفيد انه يقدر على تلبية احتياجاته جميعا. أما ادوارد وطبقا لتحليلات الخبراء فقد كان يود اختيار قدرة هشام أولا على جمع معلومات عادية, وقدراته على تسهيل بعد الاجراءات في مصر, وذلك قبل ان يدخل معه في تفاصيل أكثر جدية, عن هذا العمل, الذي كان ما زال يبدو غامضا. انتهى اللقاء الثاني بعد ساعات ثلاث أمضياها في الأكل والأنخاب المرحة, والمحاولات المستعرة من هشام ان يثبت أنه على قدر الشغل , ويوفي بمتطلباته. وجاء اللقاء الثالث بعد ذلك في ليلة الثامن والعشرين من مايو في الفندق نفسه, إذا كان ادوارد نفسه مستمرا في تشويق هشام للعمل, ومن ثم للمال, حتى يضمن انهياره الكامل, وفي الوقت نفسه استغل ادوارد الفترة الزمنية الفاصلة بين اللقاءين لاختبار قدرة هشام على الكتمان, حيث ظل رأفت يلاحق هشام ويسأله ما إذا كان يرى ادوارد أو يتصل به, بينما هشام ينكر تماما, مرة ومرتين, وهو فائق أو وهو سكران, حتى تأكد ادوارد تماما من أن هشام ينفذ تعليماته بحذافيرها, حتى وهو لا يعلم طبيعة الوعاء الذي تصب فيه هذه التعليمات. *** الموعد التالي كان في مطعم فيلدجر في فندق سيلفريدج. وحين وصل هشام إلى الفندق كان متعجلا, عصبيا, يريد ان يحضر ادوارد, وأن يكلفه بعمل محدد, وان يعطيه, ولو مقدما من أجره عن هذا العمل. اخترق صالون الفندق , ولم ينتبه إلى كل التفاصيل من حوله, أو إلى الحركة التي كان الصالون يعج بها, ومنظر أكياس سيلفريدج التقليدية الصفراء وقد تركها رواد الفندق ونزلاؤه إلى جوار المقاعد, والفوتيهات المذهبة, ذات الألوان الزيتي الغامق النبيتي, والتي ألقيت عليها حشيات غامقة اللون برتقالية, وتيركواز, وكل منضدة تتوسط منظومة من المقاعد والأرائك, عليها فازة بيضاء صغيرة فيها زهرة قرنفل واحدة, وفي أركان الصالون نباتات ظل تتدلى من أوان حجرية غامقة. صعد هشام ـ في عجالة ـ عدة درجات سلم في نهاية هذا الصالون حتى كاد يسقط متعثرا من فرط اندفاعه, ودخل إلى مطعم فليدجر العتيق على اليسار, حيث تربض كراسيه الفخيمة التي يشبه كل منها عرشا ملكيا صغيرا, بينما غطى الجدران ورق حائط منقوش داكن, انجليزي تقليدي. وطوال العشاء الذي كره هشام اجراءاته الطويلة المتمهلة كان ادوارد يسرب إليه كلمة, ثم يتركه يحترق في فضول ولهف, ثم كلمة أخرى, وهكذا حتى ما كاد العشاء ان يقترب من نهايته حتى كان هشام قد وصل إلي حالة من اليأس الشديد, فإذا بادوارد يبادره برغبته في أن يؤجر للشركة مقرا في القاهرة, وان يمده بخطوط تليفونية. ثم أومأ: ( نحن مستعدون لتقديم رشاوى لتركيب هذه الخطوط التليفونية) . وبالطبع كان هشام يعرف صعوبة تركيب مثل هذه الخطوط ـ في ذلك الوقت ــ وسط الأزمة الخانقة التي شهدتها تليفونات مصر في السبعينات, ولكنه أبدى استعداده للانجاز ليظهر شطارته ,ويستعجل التوظيف. ولكن هل صحيح ان شركة بلجيكية تقدمت لاقامة مصنع للجرارات الزراعية في مصر؟ الجواب: كانت الشركات الوحيدة التي أقامت مصنعا للجرارات الزراعية في مصر في ذلك الوقت, هي شركة (ماجيروس) المجرية, في اطار خطط التصنيع في مصنع شركة النصر لصناعة السيارات, ولا شيء أكثر من ذلك. بالون اختيار الأمر كله ــ إذن ــ كان مجرد بالونة اختيار لصديقنا هشام محجوب في جمع المعلومات, حتى لو كان بسيطا في البداية, مثل معلومات أسعار الأراضي, أو اختبار قدرته على الحركة مثل رشوة أشخاص حكوميين لتركيب خطوط التليفون وسط ذروة أزمتها. ثم ان هشام بعد ان يمر في هذا الاختبار ويؤسس المكتب, وسوف يمتلك قاعدة للتحرك والاتصال في مصر تمكنه من جمع المعلومات حول أمور أخرى, غير تلك التي خطط ادوارد لها من خلال وظيفته في مصر للطيران!! وحين كان ادوارد ينهي هذا اللقاء ويعد هشام بموعد آخر, كان هشام يتوسل إليه في ضراعة حقيقية ان يكلفه بالعمل مباشرة وألا يجعله ينتظر أكثر من ذلك, وهنا ابتسم ادوارد, وأكد له أنه سيكلفه بالعمل في المرة القادمة, بعد ان يتأكد من كفاءته واخلاصه, وقد خطط لأن يجعل منه شيئا كبيرا بالفعل!! على أية حال فقد كان الموعد الرابع والأخير بعد يومين, بما لم يرهق هشام في الانتظار كثيرا, وعلى الرغم من ان الموضوع حتى هذه المرحلة لم يتجاوز الحدود التي تبدو طبيعية, فقد كان هشام يتلفت حوله أثناء حديث ادوارد الهامس إليه في صالون الفندق بشكل تلقائي, إذ كان يشعر ان العاملين بالفندق الذين يتحركون حوله يسترقون السمع, وكذلك النادلات اللاتي يرتدين جنولات سوداء وجاكيتات من اللون نفسه وبلوزات بيضاء وبابيون أسود, والبنات اللاتي يقمن بالتنظيف مرتديات أثوابا خضراء ومرايل بيضاء وهن منهمكات في ازالة كل ذرة تراب تكون قد علقت بأي شيء, والحمالون يرتدون حللا زيتية غامقة يزينها القصب, وتحتها قمصان بيضاء وروابط عنق سوداء. جميعا كان هشام ينظر إليهم باسترابة. لقد كان هناك من يراقبه فعلا, ولكن ليس هؤلاء. ففي ركن قصي من الصالون كان أحد شهود المخابرات المصرية يربض مستوعبا كان حركة وسكنة, متظاهرا بتقليب الشاي في فنجان من الطاقم الصيني التقليدي للفندق من نوع (دادسون) . في هذه الليلة كشف ادوارد عن جانب من أنيابه, عندما طلب من هشام ان يطير إلى القاهرة لكي يجمع المعلومات المطلوبة, ويعود بها إليه في لندن خلال شهرين. قال ادوارد لهشام: لقد عيناك بمرتب شهري قدره 600 دولار وإذا قدمت لنا المعلومات المطلوبة سوف نرفع مرتبك, ثم سلمه 600 دولار بايصال بدون تاريخ محدد وقعه هشام وأعطاه رقم تليفون للاتصال به عند عودته من القاهرة خلال شهرين. أصاغ هشام السمع لصوت وقع حذائه على أرضية الرصيف, وهو يأخذ طريقه إلى فندق رويال لانكستر, زفر زفرة ارتياح بعد ان أحس انه على وشك انطلاقة كبيرة, ولكنه لم يكن يدري لماذا أحس بهاجس الملاحقة, فراح يتلفت من فوق كتفه بين الحين والآخر, بينما نسمة ربيعية لندنية تعبث بشعره!
تابعوا أخبار العالم من البيان عبر غوغل نيوز
طباعةEmailفيسبوك تويتر لينكدين Pin InterestWhats App