استراتيجية الإقناع في القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة

  • زمن:Mar 28
  • مكتوبة : smartwearsonline
  • فئة:شرط

“السخرية دليل على الكرامة” (أمبيرطو إيكو)

لا يختلف اثنان على أن القصيدة الزجلية المغربية واقع جمالي لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه بالنسبة لكل من رام النظر في مورفولوجيا الشعرية المغربية وتحولاتها، أو رام الحفر في جينيالوجيا الكتابة الإبداعية بالمغرب عامة.

كما لا يخفى أن للكتابة الزجلية بالمغرب مدارسها، وأعلامها ونقادها المتخصصون من عميد الأدب المغربي عباس الجراري الذي فتح باب نقد التجربة الزجلية على مصراعيه من خلال أطروحته المعقودة للزجل المغربي، إلى رئيس بيت الشعر مراد القادري الذي تسلم مشعل النقد الزجلي-معية آخرين-وطور أدواته النقدية وفق أفق قرائي حداثي مغاير يليق بالألبسة التركيبية والدلالية والتداولية والرؤيوية التي تسربلت بها القصيدة الزجلية المغربية الحديثة.

وتجدر الإشارة إلى أن ما يثير اهتمامنا في هذه المقالة الموجزة، ليس تاريخ الكتابة الزجلية، وخصائصها، وأعلامها، أو بمعنى آخر كلياتها الجمالية، بل ملمح من ملامح تكوثراتها الجمالية، وسمناه بـ”استراتيجيات الإقناع في القصيدة الزجلية المغربية”، هذا الملمح الذي اخترنا أن نمثل له بنموذج نصي لأبرز شعراء القصيدة الزجلية الساخرة بالمغرب، وفارسها-بتعبير الناقد مراد القادري-الشاعر بوعزة الصنعاوي، الذي طارت شهرة قصائده الزجلية الساخرة في المهرجانات والنوادي الأدبية وفي كل الوسائط الرقمية.

ومن قصائد شاعرنا التي تزدوج فيها السخرية بالإقناع اخترنا قصيدة “رسالة مفتوحة…”، نوردها كاملة قبل بيان خططها الإقناعية الظاهرة والمطوية في بنيتها النصية:

“… سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير

ايلا انا كتبت بالضحك

را الضحك عادتي فالتعبير.

حيث ملي ضحكت لي لقصيدة

كرهت أنا لبكا

بغيت الفرح فكتابتي يزكا

ونخرج من ظلمة هاذ البير.

انا عارف ما اناش ندك.

حيث انا مسكين

ما قاريش قدك.

انت لكتبتي ونشرتي

نشرتي وتنشرتي

حتى صارت

قصايدك كارمة گديد.

قلنا لك الانشاد مقامنا

ولحمى فيه الحال يزيد.

حسبتي راسك عريس

وحنا فباب لقصيدة عبيد.

لكن نقولك بالهمس انت شاعر جاي م الامس

عليك الساحة تكرفت.

قصايدك خرفت.

ولغتك

من كثرت لكتابة شرفت.

وما بقى فيها طعم لديد.

اما كلامي

يبلغ لك سلامي

ويجيك كل مرة بلباس جديد.

ياااه

شبهتي شعرك بالشتا

را سماك عگرت

والسحابة فيدك سحات.

استراتيجية الإقناع في القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة

انا نعقل

شحال ضحكت امي

وعنقتني وفرحات.

ملي شفت فالصدر نهود

وقلت لحبيبتي

هادو جوج تفاحات.

فهم انت المجاز

والاستعارة والانزياحات.

ياااه

عيتينا بالحنين

والكتابة ع لقصب والربابة.

انا قلت لك السياسة

لعب لقيوش

بين لهيوش

ولأحزاب

تلعب معانا غميضة وحابة.

كتبت على الدياب لحرزو غابة

كتبت ع المنجل لحش صابة

عرفتك حرامي

ومحزم باربعين علي بابا.

هاز فالمحرك كلخة

وتتبورد

على خيول من الضبابة.

عفاك لما قرأ كيليطو

واش كتب فالادب والغرابة” (انتهى النص)

إن أول ما يلفت الناظر بعد قراءة هذا النص الزجلي الممتع، خاصيتان: خاصية شكلية، وخاصية تداولية.

الخاصية الشكلية: نقصد بها الصياغة الهندسية للدال التي انتهجها الشاعر بوعزة الصنعاوي في تشكيل جسد القصيدة، حيث نلمح اعتماده على تقنية التدرج النصي، تركيبيا وأسلوبيا، حيث استهلها بصيغة يتفمصل فيها الأمر بالنداء (سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير/ايلا انا كتبت بالضحك/را الضحك عادتي فالتعبير)، وقفاها مدلوليا بمشهدية تصويرية متنامية، ممتدة من : (حيث ملي ضحكت لي لقصيدة) إلى (فهم انت المجاز/والاستعارة والانزياحات)، وقفلها بتعال نصي ساخر (عفاك لما قرأ كيليطو/ واش كتب فالادب والغرابة) استدعى فيه أصواتا أخرى ليترك الأثر المعنوي للقفلة الشكلية مفتوحا على أكثر من تأويل.

ولا يخفى أن هذا التوليف النصي التدرجي الشكلي أملاه الحرص على محاكاة بنية الكتابة التراسلية الحجاجية التي طرفاها المخاطِب والمُخاطَب.

الخاصية التداولية: وتتجلى من خلال التكوثر المقصدي للنص حيث ازدوجت فيه مقصديتان متكاملتان: مقصدية السخرية، ومقصدية الإقناع والتغيير (تغيير رؤية/ موقف) فضلا عن مراعاة الاعتبار التواصلي الذي أفرز حوارية شعرية عالمة قوامها التصوير المشهدي المتنامي تناميا إيقاعيا تزدوج فيه بلاغة السخرية ببلاغة الإقناع، وبموجب البلاغتين أقام الشاعر بوعزة الصنعاوي خطابه السجالي مع خصم ينازعه في اختياراته الجمالية.

ونجمل الاستراتيجيات الإقناعية المطوية في بنية القصيدة الصنعاوية الزجلية الساخرة في استراتيجيتين موسعتين هما:

استراتيجية الإضمار: وتتجلى من خلال إضمار زجالنا لسجال قبلي مع شاعر الفصحى الذي رد عليه زجالنا عبر السخرية من نموذجه ومرجعيته الشعرية (لكن نقولك بالهمس/انت شاعر جاي م الامس/عليك الساحة تكرفت/قصايدك خرفت /ولغتك/من كثرت لكتابة شرفت /وما بقى فيها طعم لديد).

وتحيل على إضمارية خطاب سابق مجموعة من القرائن في طليعتها نقط الحذف التي صدرت بها أسطره الاستهلالية، ثم الجملة الطلبية التي تظهر بنيتها الأسلوبية تقديرا وتضمر بنيتها السياقية سخرية وقطيعة رؤيوية (… سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير) والجملة الشرطية (ايلا انا كتبت بالضحك/را الضحك عادتي فالتعبير)، ولا يخفى أن هذه الصيغة الشرطية خير دليل على إضمارية قول سابق تلفظ به المقول له، فهي هنا بمثابة جواب عن سؤال محذوف تقديره “لماذا كتب بهذه الصيغة الساخرة؟ أو لماذا كتبت الشعر بالعامية لا الفصحى؟”، وهلم صيغا استفهامية مضمرة، ردها الشاعر بوعزة باعتماد صيغة شرطية “را الضحك عادتي في التعبير”، باعتبارها أبلغ صيغة في الدارجة للتدليل على الأسئلة المضمرة.

استراتيجية الإظهار: وتتجلى من خلال التصوير المشهدي المتنامي الساخر الذي بسط/ عرض فيه زجالنا جميع الحجج الإقناعية الكفيلة بإفحام الخصم المخاطَب، بأساليب إقناعية مغلفة بسخرية ثلاثية الأبعاد: سخرية من ذات المقول له “الشاعر الكبير/ أنت شاعر جاي من الأمس”، وسخرية من قصيدته/ تجربته “قصايدك خرفت”، وسخرية من لغة الكتابة “ولغتك/ من كثرت لكتابة شرفت / وما بقى فيها طعم لديد”، ومن الآليات الإقناعية التي توسل بها الشاعر الزجال في قصيدته الساخرة، آلية النفي والإثبات “ما بقى فيها طعم لديد/ أما كلامي/ يجيك كل مرة في لبس جديد”، وآلية المقارنة “حسبتي راسك عريس/وحنا فباب لقصيدة عبيد”، وآلية المقابلة “بلاغة العامية/ بلاغة الفصحى”، وآلية القلب “شبهتي شعرك بالشتا/را سماك عگرت”، وآلية الاستدعاء من خلال استدعاء بعيد يتمثل في استدعاء قصة علي بابا والأربعين حراميا “عرفتك حرامي/ ومحزم باربعين علي بابا”، واستدعاء قريب يتمثل في استدعاء كيليطو “عفاك لما قرأ كيليطو/واش كتب فالادب والغرابة”.

وتجدر الإشارة إلى أن استدعاء أصوات تنتمي للثقافة التي ينتسب لها المخاطَب (شاعر الفصحى) قُصِدَ به من جهة أولى الانتقاص من تعصب الشاعر لخطابه الفصيح وإثبات جهله بالثقافة التي ينتسب إليها، ومن جهة أخرى إثبات انتصار الشاعر الزجال، واتساع مداركه وتنوع مقروءاته، باعتباره قارئا منفتحا على كل ما تقع عليه عينه، لا قارئا متعصبا يلغي حق الآخرين في التعبير.

ومن الآليات الأسلوبية الإقناعية نجد أيضا الشرط “ملي ضحكت لي لقصيدة/ كرهت أنا لبكا”، وكذا الأساليب الإنشائية، التي أدت فيها الأساليب الطلبية، من قبيل الأمر (فهم أنت المجاز) والاستفهام (واش كتب في الأدب؟)، والنداء (يا شاعر لفصحى لكبير)، والتمني (بغيت الفرح فكتابتي يزكا)، وظيفة الإقناع، والأساليب غير الإنشائية من قبيل المدح والذم (أنت شاعر كبير)، والتعجب (ياااه/عيتينا بالحنين/والكتابة ع لقصب والربابة)، والرجاء (عفاك لما قرأ) أدت وظيفة السخرية، من خلال ثورة الزجال الصنعاوي على الحقيقة اللغوية لهذه الأساليب في الأصل الوضعي، وقلب وظائفها، وتوسيعها بما يخدم مقاصد خطاب الرد الساخر الذي ينتصر له الشاعر الزجال بوعزة الصنعاوي في تجربته الزجلية.

وعلى الإجمال، فإن قصيدة “رسالة مفتوحة” للشاعر الزجال بوعزة الصنعاوي خير نموذج على حجاجية القصيدة الزجلية الساخرة، وامتلائها البنائي، إن أسلوبا أو تصويرا أو رؤيا، فضلا عن تحطيمها لكل المسلمات واليقينيات القولية، وسخريتها من اللغة المعيارية، وتحديها من خلال ابتكار استراتيجيات جديدة في الأداء القولي تزدوج فيها الدهشة باللذة، التي لا يسع المتلقي الحصيف إلا أن يقف أمامها مشدوها منبهرا.

*شاعر وناقد

عن الهوامش:

بما أن السخرية تتعدى على اللغة، اخترنا أن نتعدى على الهوامش ونتعداها، مادامت متون الزجل ونقده، ونظريات تحليل الخطاب في متناول الجميع، ولأننا نفترض قارئا واعيا بمقدوره تفكيك مقالنا واستكناه نظريات التحليل التي وجهت صاحبه، وعمق محصوله، أو كساد بضاعته.