جاءت هجرة الأطباء الجزائريين نحو مستشفيات حكومية فرنسية هذه المرة بطعم "أكثر مرارة وأشد ألماً"، مقارنة بسابقاتها من المرات التي شهدت فيها البلاد نزفاً طال كفاءاتها من الكوادر الطبية على مدار عقود.
"الأمر ليس بالهين"، يقول سليم بن خدة، البروفيسور في أمراض القلب بمستشفى مصطفى باشا بالجزائر العاصمة، "من حقنا أن نحتج ونتألم ونتوجع، الجزائر فقدت آلاف الأطباء"، إذ يرصد أن قائمة "الفائزين بالامتحان الفرنسي الذي جرى أخيراً، تحوي أسماء نعرفها وهم من زبدة الزبدة".
بحسرة، يستطرد بن خدة "عشرات المتخصصين في أمراض القلب من جملة 100 مترشح في هذا التخصص فقط منهم تلامذتنا الذين بذلنا النفس والنفيس لتكوينهم لمدة تفوق أربع سنوات، فأصبحوا خبراء في ميدانهم وذوي كفاءة عالية".
لا يتوقف البروفيسور عند هذا الحد، إذ يقول "صدقوني وأنا أعي ما أقول إنهم يستطيعون العمل في أرقى المستشفيات الأوروبية وهم مهيؤون جيداً لذلك، فالعشرات سبقوهم وهم الآن في المستشفيات الفرنسية والألمانية".
برأي سليم بن خدة فالأمر جلل يستحق انتفاضة المجتمع ونقاشاً واسعاً لأن من غادروا هم نخبة النخبة والأوائل في كل مراحلهم التعليمية من البكالوريا إلى التخصص". ويردف "إنها مصيبة وكارثة لمن له قلب وضمير".
خطة إصلاح
قبل الكشف عن هجرة الأطباء الجزائريين الذين نجحوا في امتحان المناظرة ومعادلة الشهادات الذي يعتبر البوابة الرئيسة للعمل في فرنسا، وشارك فيه آلاف الأطباء من نحو 24 دولة خارج الاتحاد الأوروبي وفاز فيه 2000 طبيب منهم 1200 جزائري، نظمت الجزائر مؤتمراً لبحث خطة لإصلاح النظام الصحي، حضره الرئيس عبدالمجيد تبون وب الحكومة ومديري الصحة للولايات والأطباء والنقابات المهنية والصيادلة.
من بين ما نصت عليه توصيات المؤتمر الصحي مراجعة القوانين الأساسية الخاصة بالأطقم الطبية وقانون الخدمة المدنية ونظام الحوافز والتعويضات، والزيادة في العلاوات المخصصة لشاغلي المناصب العليا على مستوى المؤسسات الصحية، إضافة إلى تجهيز وتوفير المعدات الصحية وتجهيزات السلامة الصحية وتمكين مستخدمي قطاع الصحة من الاستفادة من التقاعد المسبق بالنظر إلى مشقة العمل في المجال.
مشكلة الأجور وأسباب أخرى
وبينما يصر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون على التأكيد أن النظام الصحي في الجزائر "هو الأفضل في أفريقيا"، يعتقد متخصصون أن القطاع بحاجة إلى جلسات مصارحة وثورة حقيقية للنهوض به، حتى لا تطغى الرغبة على الواقعية في التحليلات، ويؤكدون أن هجرة الأطباء نحو وجهات مختلفة في مقدمها فرنسا، كانت لها عدة مقدمات يعرفها الجميع، فإضافة إلى أسباب أخرى تشكل الأجور أحد العوامل الرئيسة، وهو ما يؤكده رئيس نقابة الأساتذة وللباحثين الجامعيين الطبيين رشيد بلحاج في تصريحات أدلى بها للإذاعة الحكومية.
وإذا كان الأطباء الجزائريون الناجحون في المسابقة الفرنسية سيخضعون لتدريب تطبيقي في مستشفى مدته سنتان، يتقاضون فيها راتب المقيم الفرنسي، أي ما بين 2500 إلى 3500 يورو شهرياً، ليتضاعف بعد نهاية التدريب إلى راتب الطبيب الفرنسي نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول بلحاج إن "الأجور الحالية التي يتقاضها الأطباء لا تسمح لهم حتى بشراء منزل أو سيارة جديدة"، مستطرداً في السياق ذاته "ليس من العدل أن يتلقى بروفيسور يمارس المهنة منذ ما يزيد على 20 سنة بين 24 إلى 30 مليون سنتيم (من 200 إلى 240 دولار)".
وفي الواقع الذي يرصده بلحاج "فإن الأطباء العامين في المؤسسات الاستشفائية يتلقون أجوراً أقل من عمال النظافة أو السكرتارية في بعض المؤسسات".
ما يحدث، وفق الصحة الجزائرية، لا يمكن ربطه إلا بالأسباب المهنية التي هي عدة منها، إذ صرح وزير القطاع عبدالرحمن بن بوزيد، "أن هناك أسباباً شخصية وعائلية تدفع الأطباء للهجرة، إضافة إلى غياب ظروف العمل ورغبة البعض في العيش خارج البلاد"، لكنه يعود ليعترف في رده على مساءلة برلمانية أن "الجزائر كونت وتكون الأطباء كل سنة، وهم أطباء لديهم كفاءة عالية ومقبولون في الخارج لأنهم يجدون ظروفاً أفضل."
تبدو وزارة الصحة في حرج من جهة أخرى، كما يتضح من تصريحات بن بوزيد، الذي يلفت إلى أن "ما حدث دق ناقوس الخطر، وهناك لجنة شكلناها من عدة وزارات ونحن نعمل معا ونبحث عن الأسباب لنجد الحلول، ولكني أقول إن الحل ليس سهلاً، فهناك من يختار مواصلة دراسته في الخارج ثم يستقر هناك، وهؤلاء لا يمكنك أن تمنعهم".
كما تواجه السلطات الصحية مشكلة أخرى تكمن في رفض الجيل القديم من الأطباء الخروج للتقاعد على الرغم من بلوغهم السن المحددة لذلك، ما يصعب من حصول الطاقات الشابة المتخرجة على معاهد الطب والجامعات.
لكن بعد هجرة 1200 طبيب وجدت نفسها مجبرة على سد الفراغ بإعلانها الاستعداد لفتح باب التوظيف للأطباء الإخصائيين والطلبة المتخرجين من مراكز التكوين شبه الطبي. وقال وزير الصحة الجزائري، "إن التوظيف سيكون بحسب الطلبات والمعطيات الجديدة، من أجل خلق قفزة نوعية في قطاع الصحة".
جدير بالذكر أن قطاع الصحة في الجزائر حافظ على مستوى مرتفع في الموازنة السنوية لعام 2022، إذ يمثل ثالث أكبر موازنة في البلاد بعد قطاعي الدفاع والتربية، بمخصصات بلغت حدود 3.1 مليار دولار أميركي.
ولعل اللافت في المسألة أو ما يمكن استخلاصه من هجرة الأطباء الجزائريين، أنها طرحت هذه المرة بعض الحقائق التي تحيط بممارسة المهنة في الجزائر، إذ بينت أن الجيل الجديد لم يعد قادراً على مسايرة ضيق الآفاق بعد سنوات من الجهد والمعرفة، وأن النخب باتت أكثر قابلية لمغادرة البلد إذا وجدت الفرصة السانحة لذلك، ليكون الخاسر في النهاية ليس العقول المهاجرة الباحثة عن حقها في الإبداع والعطاء العلمي، بقدر الوطن الذي ينزف كفاءاته الصانعة للتميز في الخارج مقابل منظومة صحية هي بحاجة لمن يسعفها، باعترافات مسؤولين رسمين وأطباء في التخصص.