أكد محمد بشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن الهيئة تطمح، بمعيّة باقي الجهات المتدخلة، إلى الانتقال إلى حِقبة جديدة من مكافحة الفساد بالمغرب.
واعتبر الراشدي، في هذا الحوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن وضعية المغرب في مؤشر إدراك الفساد غير مُرضية، وأن المجهودات المبذولة لمكافحة هذه الآفة ليست في مستوى التطلعات.
ما تفسيركم لضعف النتائج التي حققها المغرب في مجال مكافحة الفساد؟
لقد تطرقنا في التقرير السنوي برسم 2020 إلى هذه المسألة، كما أبرزنا المجهودات التي بذلها المغرب منذ عقدين، وذكّرنا بمجموعة من المبادرات والبرامج التي وُضعت وتم تنفيذها، ولو جزئيا، ومنها البرنامج الحكومي 2005 ثم البرنامج الثاني 2010 – 2011، ثم الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي تمتد من 2015 إلى 2025.
هذه الإستراتيجية تتميز بكونها تتوفر على الأسس التي تجعل منها إستراتيجية متكاملة، بدءا من التشخيص وتحديد العوامل المؤثرة في انتشار الفساد؛ كما أن إعدادها تميز ب واسعة من طرف القطاع الخاص والمجتمع المدني والقطاعات الحكومية.
ويمكن اعتبار ما تم القيام به تراكما إيجابيا، لكن وضعية مكافحة الفساد تبقى في مستوى متدن، سواء من حيث التنقيط أو من حيث الوضعية الترتيبية مقارنة مع بلدان أخرى، إذ إن المغرب خلال العقدين الأخيرين تقدم فقط بثلاث نقط على مائة، ومن حيث الترتيب بقي في وضعية غير مرضية.
هذه الوضعية دفعت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها منذ تعيين رئيسها أواخر سنة 2018 إلى الانكباب على تقييم موضوعي للإستراتيجية المعتمدة لمحاربة الفساد في المغرب، لنفهم أسباب هذه المفارقة التي تجعل نتائج المجهودات المبذولة دون المستوى.
التقرير السنوي الذي أصدرناها أعطى توجهات لإعادة هيكلة الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وتدقيق مضامينها، وتحديد الأولويات التي ستجعل الإجراءات والإصلاحات التي سيقوم بها المغرب ذاتَ تأثير وتعطي انطلاقة دينامية شاملة؛ كما تقدمنا بتوصيات لحوْكمة إدارة هذه الإستراتيجية من أجل تحقيق أهدافها.
وأود أن أؤكد هنا أنه إذا لم تكن الحكامة مضبوطة ولم تكن هناك التقائية وانسجام لا يمكن الوصول إلى النتائج المتوخاة، لاسيما أن آفة الفساد مسألة معقدة، والمفسدون يستغلون جميع الوسائل، ومنها التكنولوجيا، ليطوِّروا آليات عملهم ويجعلونه أكثر تعقيدا، وهو ما يحتّم أن تكون لدى جبهة مكافحة الفساد قدرة على الإلمام والاستباقية، وهذا لن يتحقق بدون الالتقائية بين جميع الآليات والبرامج الموضوع لمحاربة الفساد، والتكامل في عمل جميع المتدخلين، لجعل الفساد يسير في منحنى تنازلي وبكيفية مستدامة.
هناك من يقول إن سبب ضعف مكافحة الفساد راجع إلى غياب إرادة حقيقية. ما تعليقكم على هذا الرأي؟
هذا نقاش موجود في الساحة منذ سنين، والجواب الموضوعي عن الأسئلة المطروحة بهذا الشأن ينبغي أن يتم عن طريق وضع خطط إستراتيجية متكاملة، وأن تكون هناك أولويات واضحة، ولديها آثار ملموسة على حياة المواطنين وعلى الفاعلين الاقتصاديين والمدنيين.
إذا لم نستطع الوصول إلى تغيير الواقع فإن هذه التساؤلات ستظل مطروحة، لذلك فإن إرادة محاربة الفساد يجب أن تُترجَم عبر برامج وعبر التأثير على وضعية المواطنين ليحسوا بأن هناك تغييرا، وهذا ما سيجعلهم ينخرطون في جبهة مكافحة الفساد ومقاومته.
لماذا لم تمكّن السياسات المتّبعة حاليا من تحقيق هذا التأثير؟
بكيفية موجزة، سأسرد بعض الأسباب التي تجعلنا لا نتقدم على النحو المطلوب في مكافحة الفساد؛ السبب الأول هو أن المقاربة المتبعة هي مقاربة قطاعية أكثر ما هي مقاربة شاملة، وبالتالي ليس هناك تكامل كبير بين مختلف المتدخلين.
الفساد مسألة معقدة لا يمكن معالجتها بإجراءات متفرقة لا تخضع لمقاربة شمولية ومتكاملة ومدمجة.
والسبب الثاني يتعلق بتحديد الأولويات، فخصوصية الفساد أن له أسبابا وتمظهرات متعددة، وبالتالي تنبغي مقاومته على عدة مستويات، سواء على مستوى التحسيس والتعبئة أو على مستوى الوقاية لمعرفة بؤر الفساد التي تجعل الآفة تنمو وتنتشر، وكذلك على مستوى عدم الإفلات من العقاب.
إذا أردنا أن ننجح في هذا المسعى علينا أولا أن نقوم بتحديد الأولويات لنعرف ما هي الأهداف التي ينبغي أن نحققها على المدى القريب، وكذا المديَيْن المتوسط والبعيد.
هذه الأولويات يجب أن تكون فيها التقائية، أي أن يكون هناك اتفاق حولها بين مختلف المتدخلين والمؤسسات، والعمل على أجرأتها بكيفية جادة وبجرأة.
ومن الناحية الدستورية المشرّع وضع إطارا، وهو الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة ومحاربتها، التي لها اختصاصات منها الإشراف والتنسيق والتتبع، وهذا من شأنه ضمان الالتقائية في عمل المتدخلين، ونضمن كذلك المرور إلى حقبة جديدة لمحاربة الفساد، تقوم على إستراتيجية منسقة ينخرط فيها الجميع وتجعل المسؤوليات تمارَس بكيفية مترابطة ومتكاملة.
ما هو تصوّركم لمحاربة الإثراء غير المشروع؟
خصوصية الإثراء غير المشروع تكمن، أولا، في تحديد ما هي جريمة الإثراء غير المشروع، لكي تكون واضحة ومؤطّرة، سواء على مستوى التحديد والتشخيص أو على مستوى المتابعة والعقاب. هذه الجوانب ينبغي أن تكون متكاملة ومترابطة، وأن تُوضع في إطار محدد، لكي تواكب التطورات التي يمكن أن تقع، ومن أجل ضمان فعالية إجراءات المكافحة.
نحن اقترحنا وضع قانون خاص يلمّ كل هذه الجوانب ويعطي الفعالية اللازمة لإجراءات محاربة الإثراء غير المشروع، وأكدنا كذلك أن هذا الإطار التشريعي الخاص يجب أن يكون مرتبطا بالتصريح الإجباري بالممتلكات، كأساس لإثبات الإثراء غير المشروع.
هل يقتضي هذا أيضا تغيير الإطار القانوني للمجلس الأعلى للحسابات؟
بالضبط. نحن اعتبرنا هذا الموضوع ذا أولوية، وقد قدمنا بشأنه تقريرا موازيا إلى جانب التقرير السنوي لعام 2020، كما وقفنا على الإكراهات الكبرى التي يواجهها المجلس الأعلى للحسابات، لاسيما من حيث كمّ الإيداعات مقارنة مع الإمكانيات التي يمكن أن يسخّرها في عملية المراقبة.
الإطار القانوني الحالي للمجلس الأعلى للحسابات يجعل من الصعب أن يقوم بالدور المطلوب منه، وقد قدمنا توصيات واضحة تشمل الجانب التشريعي والمؤسساتي والجانب التنظيمي والعملي، وأكدنا على ضرورة وضع نظام معلوماتي متقدم ومدمَج، ولديه القدرة على تحليل المعطيات بكيفية شاملة وأوتوماتيكية، من أجل تحديد الحالات التي يمكن أن تكون فيها شبهات.
هناك من يقول إن الرقم الأخضر الذي وُضع للتبليغ عن الرشوة يُسقط فقط “المرتشين الصغار”؟
هذا غير صحيح. الرقم الأخضر الذي أحدثته رئاسة النيابة العامة لا يستهدف فقط رشوةَ بضع مئات من الدراهم، بل هناك ملفات من مستوى آخر.
خصوصية هذا الخط أنه معني بحالات الرشوة التي يمكن أن تُضبط في حالة تلبس، وهذه مسألة إيجابية، وقد خلق تقدما وإن كان غير كافٍ.
الملفات الكبرى يمكن أن تكون أكثر تعقيدا، وربما لا يكون فيها تلبس، وبالتالي فإن مقاربة معالجتها تكون مختلفة، إذ تتطلب تحديد الحالة، ومباشرةَ البحث والتدقيق فيها، كما تتطلب تعاون سلطات متعددة.
هل تعتقدون أن لدى الدولة القدرة على مواجهة “الفاسدين الكبار”؟
لا يمكن الحديث عن مسألة وجود الإرادة من عدمها، ما هو مهم أن هناك عملا على البحث في ملفات الفساد، ولكي تتراجع هذه الممارسات يجب أن يكون هناك ردع، ووقاية، وتجفيف بؤر الفساد، أي وضع حد للأمور التي تسمح بانتشار الفساد، وأن تكون الشفافية والنزاهة مُمأسسة.
هذه المقاربة يجب تطويرها وهيكلتها ووضع آليات تنفيذها، وهذا ما نتوخاه من المرحلة الجديدة، من أجل الحد من هذه الممارسات.
ما سبب عدم دخول قانون الهيئة الوطنية للنزاهة حيّز التنفيذ رغم نشره في الجريدة الرسمية؟
أرجّح أن يكون السبب مرتبطا بتجديد تشكيلة المؤسستين التنفيذية والتشريعية بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.
حسب المعلومات التي توصلنا بها فإن مسار التعيينات تمت مباشرته من جديد.
هل تعتقدون أن القانون الجديد سيخوّل تجويد عمل الهيئة الوطنية للنزاهة؟
هذه مسألة بديهية، ولهذا تجنّدنا من أجل الإقناع والتفاعل مع جميع السلطات والمؤسسات والقطاعات المعنية.
كان هناك عمل كبير لكي نصل إلى الصيغة النهائية التي تحافظ على النظرة الشمولية لمكافحة الفساد التي تقدمت بها هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها منذ سنة 2019، لكي يكون لدينا إطار يجعل الهيئة قادرة على المساهمة بكيفية فعالة في الوقاية ومكافحة الفساد.
القانون الجديد يتيح للهيئة تقديم التوجهات الإستراتيجية لسياسات الدولية في مجال الوقاية ومكافحة الفساد، وصلاحية الإشراف والتنسيق وضمان تتبع السياسات والإجراءات المرتبطة بمجال تدخلها، وصلاحيات المكافحة بالقيام بالأبحاث والتحريات في ملفات الفساد، التي تأتي عن طريق الشكايات والتبليغات، أو المعلومات التي تصل إليها، ويمكن أن تتصدى لها تلقائيا.
طبعا هذه الصلاحيات الجديدة لن تمكّن الهيئة من تحقيق تقدم في مجال مكافحة الفساد بمفردها.
ولكن لكي نصل إلى نتيجة مُرضية يجب أن يكون هناك تكامل مؤسساتي، أي إن هناك مسؤوليات متعددة يجب أن تفعّل بكيفية قوية وبكيفية تضمن الالتقائية والتكامل، ونتمنى الوصول إلى تعبئة جميع القدرات، سواء في القطاع العام أو الخاص والمجتمع المدني، لنتمكن من توحيد عمل الجميع.
نحن نتوخى المرور إلى حِقبة جديدة لمكافحة الفساد يكون فيها التكامل المؤسساتي مسألة جوهرية.
هل المؤسسات المعنية والسلطات، لاسيَما السلطة القضائية، مُرحِّبة بالتعاون معكم؟
القانون 46.19 تم إعداده بعد نقاش مستفيض ومشترك بين جميع السلطات، بما فيها السلطة القضائية (رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية). وكانت الخلاصات النهائية متوافقا عليها من طرف الجميع قبل إحالتها على البرلمان، حيث تمت المصادقة عليها بالإجماع بعد إدخال تعديلات عليها من طرف السيدات والسادة البرلمانيين، وهذا سيجعل الإطار القانوني الجديد يدخل التنفيذ بكيفية سلسة.
هل لدى الهيئة من الموارد المالية والبشرية ما يخولها القيام باختصاصاتها الجديدة؟
هذا من بين التحديات المطروحة. نحن اشتغلنا على ضبط الأمور التي من شأنها الإسهام في التنزيل السريع لمقتضيات القانون 46.19، سواء النصوص المرجعية أو النصوص المنظمة لعمل جهاز البحث والتحري.
وهناك اتصالات مع مؤسسات من أجل استقطاب مجموعة من الكفاءات التي ستشكّل نواة مواجهة تحديات المرحلة الجديدة.
ومن ناحية الموارد المادية لا أعتقد أننا سنواجه مشكلا، لأن السلطة التنفيذية تبذل مجهودات لتوفير الإمكانيات اللازمة. ومن ناحية الموارد البشرية، سنحاول، كما أشرت سلفا، استقطاب خبرات أساسية، ولدينا برامج للتكوين، سواء الداخلي أو الخارجي، في إطار الاتفاقات التي ستسمح لنا بتكوين الأطر لاستيعاب التجارب الدولية الأكثر تقدما في مجال مكافحة الفساد.