وخلافاً لاعتقاد كان شائعاً من انعدام أي أثر للحشيش في الحضارة المصرية، فقد أكد الطبيب وعالم المصريات البريطاني جون فرانسيس نون (1925-1996) على أنه كان مستخدماً بشكل واسع في المسائل الطبية من خلال تحليل مجموعة أوراق بردية إبيرس التي يعود تاريخها إلى عام 1550 قبل الميلاد. وتعتبر هذه البردية واحدة من أقدم النصوص الطبية المعروفة في التاريخ ويبلغ طولها أكثر من مترين وتحتوي 877 فقرة في وصف أمراض مختلفة في فروع الطب المتنوعة مثل طب العيون والجهاز الهضمي وعلوم الأمراض وأمراض النساء وغيرها. وكان نون قد تعاون مع علماء مصريات ومختصين ترجموا البردية واكتشفوا توسعها الكبير في العلاج بالأعشاب مثل الزعفران والصبار وأوراق الخروع وزهرة اللوتس والزنبق والراتنج والبخور، ولكن أيضاً وبشكل خاص الأفيون المستخرج من الحشيش لأن كلمة "shemshemet" الهيروغليفية المذكورة في البردية لم تكن تعني شيئاً آخر سوى "القنّب".
الدلائل المادية على ورود الحشيش في تركيب العقاقير الطبية المصرية كانت متوفرة كذلك وعلى درجة من المصداقية لا تشوبها شائبة: فقد اكتشفت بقايا من نبات القنّب في داخل قبر الفرعون أخناتون الذي يعود إلى حوالي العام 1350 قبل الميلاد وآثار لمسحوق القنّب في قبر الفرعون رمسيس الثاني الذي مات عام 1224 قبل الميلاد. وبحسب الطبيب ريتشارد فينر في كتابه "التعامل مع الألم: دليل عملي للأطباء"، فقد شكّل الحشيش على الدوام عنصراً أساسياً في الترسانة الصيدلانية المصرية القديمة حتى نهاية الحقبة الفرعونية وكان يتم تطبيق المعالجة به بجميع الوسائل التي يمكن تخيلها بوضعه في الفم أو الشرج أو الفرج وكذلك بدهنه مباشرة على الجلد أو العيون أو حتى بحرقه وتبخير المنزل به.
ومما ورد في البردية في مجال معالجة أمراض العيون الفقرة التالية التي نقلها فاينر في كتابه وتقول "علاج للعيون: كرفس؛ قنب. تهرس وتترك بين عشية وضحاها. ثم تغسل عينا المريض بها في وقت مبكر من الصباح". وبحسب فاينر فإن استخدام الحشيش بهذه الطريقة لا يختلف عن استخدامه الحديث في معالجة الماء الزرقاء على العيون. في مكان آخر تتناول البردية طريقة الاستفادة من المخدر المزروع في تخفيف آلام الولادة بالقول بوصفة قنب مفروك بالعسل يوضع مباشرة في مهبل المرأة، كما تتعرض في مكان ثالث إلى علاج للأظافر بتضميدها بقطعة من القماش المغمس في مخلوط من القنب الصمغي. من جهته، يذكر المؤرخ وعالم المصريات البلجيكي فرانز جونكيري (1903-1956) في كتابه "البردية الطبيّة" نوعاً آخر من المخدر غير القنّب لا يزال غير معروف يصفه بالـ"المادة السائلة، ذات قوات مذاب ومسال" كانت يستخدم بكثرة في وصفات معالجة التهابات الشرج التي تضمنت كذلك الملح وعصير الخروب والبيرة الحلوة والعسل والتمر ومسحوق السمسم وغيرها.
رغم أن الكتاب صدر عام 1947، فإن الكثير من تفاصيل هذه البردية الثمينة لا يزال غير معروفاً أو لم يتم فك طلاسمه حتى اليوم، وكذلك فقد ورد في ملف أعده متحف اللوفر الفرنسي عام 2011 عن "فن الطب المصري" إن دراسة هذه الوثيقة الاستثنائية لا تزال في بدايتها وأن النتائج المعروضة في الملف ستكون عرضة للتغير المستمر بالتوازي مع تقدم البحث العلمي. ويضيف المتحف أن "المنطق العام لنصوص البردية لا يزال غير دقيق في هذه المرحلة"، ورغم ذلك فهي تكرس أجزاء كبيرة لوصف "الأورام" وتوضيح أعراضها من حمى وألم وغيرها، وكذلك فقد اعتنت البردية بدراسة البثرات والدمامل والخراجات، لكن الملف يلاحظ أن "المساهمة الرئيسية لهذه البردية هي تقديم توصيف تفصيلي لحالات طبية متعلقة بهذه الأمراض" قدمت إسهامات مفيدة للغاية للطب الحديث.
والاستهلاك بقصد التكيّف والمتعة؟
كان ذلك موجوداً أيضاً، مع أن الاستخدام الرئيس بقي طبياً. النساء المصريات كن يتعاطين القنب لتخفيف الحزن وتجاوز الحالات النفسية السلبية، ووجد علماء الآثار كذلك أدلة على أن الماريجوانا كانت تستهلك خلال الاحتفالات والطقوس الدينية. أكثر من ذلك، كانت الآلهة المصرية نفسها، وخاصة "سيشات" و"باستيت"، تصور وهي تتعاطى الحشيش أيضاً مما يدل على مكانة هامة احتلتها هذه النبتة في ثقافة شعب مصر القديم. "سيشات" بالتحديد وبالإضافة إلى كونها (أو ربما بسبب من ذلك) آلهة الحكمة وربّة الكتاب وترعى ما كان يسمى "بيت الحياة" أو "بيت الكتب" وهو نوع من المكتبة ومدارس التفلسف، كانت كذلك بمعنى من المعاني إلهة الحشيش. والصورة التي وجدت محفورة لها على أحد الجدران وعلى رأسها نبتة أو نجمة ذات سبعة وريقات تشبه تماماً أوراق الماريجوانا دليل قوي على ذلك.
وكان كريس بينيت الاختصاصي في النباتات الطبية قد ربط في كتاب لطيف عن استخدامات الحشيش بين هذه الصورة وبين واحد من نصوص التوابيت المصرية القديمة الذي يقول "ساشات تفتح باب الجنة لك" واستنتج أن ذلك يعني استخداماً للحشيش في الحصول على النشوة وإصابة الإدراك بالماورائيات والاقتراب من الآلهة وإرضاءها. ويضيف بينيت إن العطور الخاصة بالفرعون والتي كان المصريون يطلقون عليها اسم "kyphi"، في تشابه غريب مع الاستخدام الحديث للحشيش بمعنى "تكيّف وكيف"، كانت تصنع من القنّب أيضاً (ويضاف إليها حب الهيل والزنجبيل والعسل وغيرها) وتستخدم في الاسترخاء وتحرق في الاحتفالات الدينية.
أخيراً، كان القنب مفيداً في صناعة وإنتاج الحبال وأشرعة السفن وغيرها من المواد. وقد أظهرت الأبحاث أن العمال السابقين كانوا يستخدمون ألياف القنب في عمليات تكسير الحجارة الكبيرة قبل نقلها إلى مواقع البناء، وذلك بإدخال الألياف في ثقوب الصخور ثم غمسها في المياه وترك الألياف تنمو حتى تقوم لوحدها بتقسيم وتكسير الحجارة.
لا نعرف بالضبط ماذا كان يدخن هؤلاء العمال حتى تمكنوا من الإتيان بهذه الفكرة العبقرية... لكن الأكيد أنه كان من نوعية عالية جداً.
الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم
اشتركابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق مونت كارلو الدولية