تحاول الصحافية الأميركية هادلي غامبل التي تعمل في أبوظبي لصالح قناة "سي أن بي سي" تقديم فلسفة جديدة في الإعلام هذه الأيام، وتنجح في إدخال مؤثرات غير مسبوقة من خلال الحوارات التي تجريها وشخصية المحاور ذاتها التي قطعت أشواطاً طويلة منذ قواعد هيئة الإذاعة البريطانية التي وصفت بالحياد ذات يوم، والتي سادت في العالم، إلى تحولاتها العديدة عبر الإعلام الموجه والمسيطر عليه من قبل الحكومات ثم المالكين.
تحضر غامبل بعد حوارها الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الأيام الماضية في منتدى أسبوع الطاقة الروسي بموسكو، وقبلها من خلال حوارات مختلفة ليس أقلها أهمية حوارها مع بابا الفاتيكان أو مع رئيس المخابرات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل أو حتى حوارها الشهير مع الوزير اللبناني جبران باسيل والذي تحوّل إلى فضيحة للأخير دون أن يدري لمجرّد أن التعابير التي ارتسمت على وجه غامبل كانت تقود الحوار دون أيّ تغيير غير مألوف في الأسئلة.
نعود قليلاً إلى الوراء. إلى حياد الـ"بي بي سي" المتوهّم. دعك من نظرية المؤامرة. فهناك ما هو أبسط. تمكن العودة إلى حوار أجري مع المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد قبل عقود، من يستمع إلى هذا الحوار لا يشعر أن هذه الإذاعة بريطانية ولا غربية ولا من يحزنون. فالمذيع الفلسطيني يتناول القضية الفلسطينية بطريقة تجعلك تنسى ارتباط بريطانيا بوعد بلفور وتأسيس إسرائيل وكل تلك الأمور. وكل هذا يتم بثه عبر أثير هيئة الإذاعة البريطانية مع أجراس "بيغ بن". فأين هو الحياد؟ سنرى ذلك بعد سنوات في تغطيات عديدة لجميع الوكالات بدا فيها الانحياز واضحاً لهذا الطرف أو ذاك في مختلف النزاعات.
الحياد الإعلامي مجرّد مسطرة خرافية، والموضوعية تحدّ صعب، ما دام المنفّذ هو الآلة البشرية التي ستميل حتماً حسب أهوائها. مع غامبل يُحسم الأمر، ويصبح الحوار لعبة بيد فتاة تحاول إرضاء مزاجها وجمهورها بخفة دم، وعلى حسابها على تويتر تركب الخيول السوداء ومتابعوها يصنعون لها صورتها كأيقونة تشبه الموناليزا وفق ملامح غامبل لا ملامح بطلة دافنشي الشهيرة.
من يصنع من الآن؟ الجمهور وأدواته المتطورة أم الإعلامي وحضوره؟ المعادلة الجديدة أكثر إثارة، والمستهدف فيها غير معروف في الواقع. أما الحقيقة وهي الغاية الأزلية للصحافي فتستفيد من كل الأطراف وتقدّم بوسائل أكثر ذكاء من ذي قبل.
بوتين لم يتمالك نفسه أمام مؤثرات غامبل، دون أن يتخلى عن ذلك الجانب الماكر اللاذع من شخصيته فقال “أمامي امرأة جميلة تكرّر السؤال وكأنها لم تسمع ما قلت، سوف أكرّر الجواب مرة أخرى“. لكن تلك المرأة الشاردة أخذت ما تريد من بوتين دون شك.