بعد ردود الفعل الكثيرة التي خلفها كتابه “إسلام الأمازيغ”، الذي قُدم في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قبل أسبوعين، بتقديمه معطيات تفيد بكون الفتح الإسلامي لبلاد المغرب كان غزوا عسكريا، وأن العرب مارسوا العنصرية ضد الأمازيغ، أوضح مؤلف الكتاب، محمد المهدي علوش، أنّ كتابه “ليس موجَّها ضد الإسلام كدين ولا ضد العرب كجنس بشري، إنما القصد منه إظهار الحقيقة وفضح أعمال بعض من يسمّوْن بالفاتحين، الذين قاموا بتصرفات لا علاقة لها برسالة الإسلام الحقيقية”.
وأبدى علوش، في حواره مع جريدة هسبريس الإلكترونية، تمسكه بكون العرب، وتحديدا الحكّام الأمويين، “مارسوا العنصرية ضد الأمازيغ، وأنهم كانوا ينظرون إليهم نظرة ازدراء واحتقار، ولم يكن يعنيهم من الأمازيغ إسلامهم أكثر مما كانت تهمهم أموالهم ونساؤهم”.
وهذا نص الحوار:
في كلمتك بمناسبة تقديم كتابك “إسلام الأمازيغ” بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، قلت بأن ما سُمّي بالفتح الإسلامي هو في الحقيقة غزو عسكري استهدف إذلال الأمازيغ وتحقيق مكاسب مادية صرفة لا علاقة لها برسالة الإسلام النبيلة، كيف ذلك؟
غزو أو فتح، الأمر سيان، فهذه مجرد كلمات للتعبير عن أحداث ووقائع؛ والوقائع التاريخية تقول إن العرب عند اقتحامهم لبلاد الأمازيغ تصرفوا مع الأهالي بطريقة لا تليق برسالة الإسلام ومبادئه وأهدافه. وقد توقعت مثل هذا النوع من ردود الفعل على استعمال كلمة “غزو”، فعمدت إلى بيان معناها واستعمالاتها في توطئة الكتاب وذلك رفعا لكل لبس.
في مَعاجم اللغة العربية ومنها “لسان العرب” لابن منظور، شُرحتْ كلمة “فتْح” على أنها مصدر لفعل فتَح وتعني الاستيلاء على بلد عن طريق الحرب: فتَح البلاد، دخلَها بعد أن غلب على أهلها وأخضعها لسلطته. الفتح الإسلامي يعني “دخول الإسلام إلى البلدان التي انتشر فيها بعد حروب”؛ أما الغزو فهو مصدر لفعل غزا، وغزا الشيءَ غزوا أراده وطلبه حسب لسان العرب.
الغزو إذن هو القصد أو السير إلى قتال العدو وانتهابه (ونهبه)؛ والغزوة هي المرة الواحدة من الغزو. هذا ما جاء في كتاب ابن منظور. ومما سبق نفهم أن الفتح يعني النصر وهو لاحِق عن الغزو، فلا فتح إلا بعد غزو ولا نصر إلا بعد حرب أو استسلام بدون حرب؛ فالغزو لا يعتبر فتحا إلا إذا كُلل بالنصر، ويبقى لكل من الغزو والفتح معناه المختلف عن الآخر.
أودّ أن أشير في هذا الباب إلى أن الرواة والمؤرخين العرب استعملوا لفظة الفتح عند الاستيلاء على مدينة أو قرية، واستعملوا لفظة الغزو في صيغة فعل ماض مثل غزا وأغزى غزوا وغزوة. ويعج التاريخ الإسلامي بالغزوات مثل غزوة بدر وغزوة الخندق وغزوة أحد وغيرها، حيث لا يجد المسلمون أي حرج في تسميتها، بل يفتخرون بها لما كان لها من دور مؤسس في بدايات الإسلام بجزيرة العرب.
وردا على بعض المواقف المتسرعة من موضوع كتاب “إسلام الأمازيغ”، أريد أن يكون واضحا في أذهان الجميع أن كتابي ليس موجَّها ضد الإسلام كدين ولا ضد العرب كجنس بشري، إنما القصد منه إظهار الحقيقة وفضح أعمال بعض من يسمّوْن بالفاتحين الذين قاموا بتصرفات لا علاقة لها برسالة الإسلام الحقيقية.
لم تَرد في الكتاب عبارة واحدة تمس بالدين الإسلامي الذي هو عقيدة جميع المغاربة؛ بل العكس هو الصحيح، ففي الكتاب تبرئة للإسلام من أفعال أشخاص ركبوا على الدين لتحقيق أغراض مادية صرفة. أما الإسلام فلم ينتشر في المغرب في الحقيقة إلا مع الأدارسة واستمر على عهد المرابطين ثم الموحدين الذين كانوا آخر من قضوا على إمارة بورغواطة الخارجة عن الإسلام.
قلت أيضا إن ما أسميته غزوا كان يهدف إلى إذلال الأمازيغ وتحقيق مكاسب مادية. هل لك أن توضح كلامك؟
فيما يتعلق بمسألة إذلال الأمازيغ وامتهان كرامتهم، فقد سجل لنا الرواة أفعالا تتنافى تماما مع روح الإسلام ومبادئه السمحة. صحيح أن منطق الحروب في ذلك الوقت كان يقتضي قتل الأعداء ومصادرةَ ممتلكاتهم وسبي نسائهم، لكن ما فعله عمرو بن العاص وعقبة بن نافع مثلا في أمازيغ لواتة ببرقة (شرق ليبيا) لم يكن له أي مبرر.
قبائل لواتة كانت تعيش تحت نفوذ حاكم مصر البيزنطي في ذلك الوقت، وقد وجدها المسلمون في حالة من الضعف والانقسام لا تحكمها أية سلطة بسبب تفكك الدولة البيزنطية وانشغالها في صراعاتها الداخلية، فلم يكن لديها حكومة ولا جيش يقف في وجه المسلمين، فلم يقاوموا العرب واستسلموا من الوهلة الأولى. وقد اعتبرهم المسلمون مسيحيين من أهل الكتاب مثل أقباط مصر ففرضوا علهم أداء الجزية، لكنهم لم يقدروا على أدائها. ولما بلغ الخبر إلى عمرو بن العاص، فاتح مصر، كتب عليهم أن يبيعوا أبناءهم وبناتهم فيما عليهم من الجزية وإلا أمر بقتلهم. هذا ما رواه ابن عبد الحكم في القرن التاسع الميلادي، وهو أول من أرخ لفتح مصر والمغرب. وقد حصل هذا سنة 642م/21ه.
أما ما فعله عقبة بن نافع سنة 670م/50ه بشيوخ هذه القبائل في ودان وفزان بصحراء ليبيا فكان أقسى وأفظع، إذ قام بجذع أذن أحدهم وبتر أصبع آخر، وإهانة ثالث بإجباره على قطع مسافة طويلة مشيا على قدميه حتى أخد يبصق الدم. ولما سألوه لماذا فعل بهم ذلك وقد جاؤوه مطيعين مستسلمين قال لكل واحد منهم: “أدبا لك إذا ذكرته لم تحارب العرب”. ثم فرض على كل واحد منهم ثلاثمائة عبد وستين عبدا.
لم أجد في هذه الأفعال والأقوال ما يربطها بالإسلام ولا بالجهاد الذي كان له شروطه ومقاصده التي حددها فقهاء الإسلام بدقة. وقد أورد هذا الكلام كل من ابن عبد الحكم والبلاذرى والبكري وغيرهم من الرواة المسلمين. ولا ننسى أيضا ما فعله هذا القائد نفسه مع الأمير أكسيل المعروف في المصادر العربية بكسيلة حيث ألحق به إهانة قاسية كانت السبب في خروج أكسيل من الإسلام بعد ذلك وقتَل عقبة عند رجوعه من المغرب الأقصى.
أما عن تحقيق المكاسب المادية فأدلي بواقعة واحدة من عشرات الوقائع التي تدل كلها على تهافت العرب الفاتحين على الغنائم والسبايا بدون أي اهتمام بالغاية التي جاؤوا من أجلها ألا وهي دعوة الأمازيغ إلى الدخول في الإسلام. لما انتصر عبد الله بن أبي سرح على البيزنطيين في أول معركة معهم في سبيطلة جنوب تونس سنة 647م/25ه، فمات من مات وفر من فر من جيش الروم، بعث القائد العربي سرايا وفرقا من الجنود في مختلف الاتجاهات لأخذ الغنائم وجمع الأموال. ولما رأى أهل إفريقية ذلك المشهد طلبوا من العرب أن يأخذوا ما شاؤوا من الأموال وينصرفوا عن بلادهم، فقبلوا المال ولم يذكر الرواة أنهم قالوا كلمة واحدة عن الإسلام.
وقد أورد البلاذري روايتين عن نفس الواقعة: الأولى رُويت عن عبد الله ابن الزبير نفسه يُقر فيها باتفاق “عظماء إفريقية” على دفع ثلاثمائة قنطار من ذهب لقاء الرحيل عن البلاد، والرواية الثانية عن ابن كعب جاء فيها “أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح صالَح َ بَطْريق إفريقية على ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار (2.500.000)”.
أما عن السبايا فإن أعدادهن تقدر بمئات الآلاف حسب الرواة، وأستحيي أن أخوض فيها في هذا اللقاء، فهي معروضة بجميع التفاصيل في الكتاب. والمهم هنا هو أن خلفاء بني أمية كانوا يلحون في طلب السبايا الأمازيغيات، ولم يهتموا، حسب الروايات، بوضع الإسلام ومدى انتشاره بين الأمازيغ، مما يعني أن هدفهم الأساسي كان شيئا آخر غير نشر الإسلام. وإذا علمنا سلوك بعض خلفاء بني أمية أدركنا أن الإسلام لم يكن من الأسبقيات في جدول اهتماماتهم.
تحدثت عن مقاومة الأمازيغ للجيوش العربية (الإسلامية) لمدة تفوق ستين سنة، بينما يقول بعض المؤرخين إن المغاربة لم يخوضوا معارك ضد المسلمين. متى كانت هذه المقاومة وأين وكيف؟
صحيح أنّ المغاربة لم يقاوموا المسلمين كثيرا حسب العديد من الرواة، وصحيح أيضا أن المقاومة كانت طويلة ومستميتة. كيف ذلك؟ إن كتابي يتحدث عن الأمازيغ كلهم من غرب الإسكندرية إلى المحيط الأطلسي، ولم يقتصر على أمازيغ المغرب الأقصى. وقد تصدى الأمازيغ لمقاومة الجيوش العربية بعد تفكك الوجود البيزنطي بشمال أفريقيا إثر موقعة سبيطلة سنة 647م/25ه. وكان أول قائد تزعم هذه المقاومة هو الأمير أكسيل (كسيلة) الذي كان ملكا على قبائل أوربة وصنهاجة. وقصته مع عقبة بن نافع معروفة في كتب التاريخ.
وقد بدأت المقاومة الأمازيغية المنظمة مع أكسيل بمقتل عقبة سنة 683م/63ه. وبعد مقتل أكسيل تصدت امرأة أمازيغية من قبيلة جراوة الزناتية لمقاومة الجيوش العربية وانتصرت على حسان بن النعمان في عدة معارك قبل أن تتراجع وتلقى حتفها على يد هذا الأخير بفضل التعزيزات التي جاءت من الشرق. وقد دامت هذه المقاومة أكثر من ستين سنة.
وهذه المقاومة العسكرية كانت توازيها مقاومة إيديولوجية تمثلت في رفض الأمازيغ للإسلام لأنهم أصلا لم يتعرفوا عليه بسبب انشغال الفاتحين بجمع الأموال وسبي النساء. وفي ذلك قال ابن خلدون إن “البربر” ارتدوا عن الإسلام 12 مرة. لكنهم لما اقتنعوا فعلا بالإسلام قاموا بطرد العرب سنة 740م، لكنهم احتفظوا بالإسلام في صيغته الخارجية الثورية ضدا على حكام بني أمية السنيين. ومع ذلك ظلت منطقة تامسنا بالسهول الساحلية في أقصى غرب المغرب على دين برغواطة الخارجين عن الإسلام إلى أن قضى عليهم الموحدون في القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد خمسة قرون من دخول الجيوش الإسلامية إلى المغرب.
وماذا عن الاستثناء المغربي الذي يقول به بعض المؤرخين المغاربة؟
ما يسمى بالاستثناء المغربي القائل بأن المغاربة لم يقاوموا العرب، مما اعتبره بعض المؤرخين ترحيبا بالإسلام من غير قتال، هذا الكلام يستوجب التوضيح.
أولا: القول بعدم خوض عقبة بن نافع أية معركة في المغرب الأقصى ليس صحيحا، ولا إجماع عليه عند الرواة. فقد ذكر ابن خلدون أن عقبة بن نافع تعرض لمقاومة شرسة على يد قبائل المصامدة التي حاصرته بجبل درن (الأطلس الكبير)، وكاد يندحر لولا قبائل زناتة الأمازيغية التي هبت لفك الحصار عنه وإنقاذه من الهلاك (ابن خلدون، كتاب العبر، ج6، ص. 142)، كما أن ابن قتيبة والبكري حدثانا عن معاركَ طاحنة جرت بين العرب والأمازيغ فوق أراضي المغرب الأقصى غرب ملوية بمكان يدعى سقومة.
في هذه المعارك، التي انتصر فيها العرب على قبيلة أوربة العزلاء، طلب موسى بن نصير أبناء عقبة عياض وعثمان وعبيدة وقال لهم “اشتفوا من قتلة أبيكم عقبة”، فقتل منهم عياض ست مائة رجل من خيارهم وكبارهم قبل أن يأمره موسى بالتوقف. وكان عقبة قد قتله الأمير أكسيل بتاهودة بالجزائر سنة 683م/63ه أي قبل حملة موسى بن نصير بنحو 20 سنة.
هكذا كان يتصرف جيش الأمويين وقادتهم، كانوا يعتبرون “البربر” جنسا واحدا فينتقمون من أهل المغرب بسبب أفعال ارتكبها غيرهم ببلاد بعيدة ومنذ مدة طويلة. وهذه قمة العنصرية التي تعاقب الناس بسبب انتمائهم العرقي وليس بسبب أفعال ارتكبوها.
ثانيا: حتى لو سايرنا مقولة الاستثناء المغربي القائل بعدم مقاومة الأمازيغ للجيوش العربية، فإنه يجب التذكير بالوضع السياسي والأمني في المغرب آنذاك: المغرب الأقصى لم يكن فيه نظام سياسي ولا كيان منظم قادر على تعبئة القبائل للوقوف في وجه الغزاة أيا كانوا، فقد كان عبارة عن قبائل مستقلة بعضها عن بعض تعيش على طريقة الأسلاف منذ انسحب الرومان في القرن الثالث الميلادي.
وللتذكير فإنه ما عدا مدينة سبتة لم يخضع المغرب الأقصى لا للحكم البيزنطي ولا للوندال. ولما قدِم العرب وجدوا المغرب خاليا من أية سلطة تحكم البلاد. كل ما هنالك قبائل متفرقة متناحرة بينها في كثير من الأحيان، ولم تكن موحدة ولا قادرة على تشكيل جيش في حجم الجيوش العربية التي كانت تضم عشرات الآلاف من الجنود المدَرَّبين المتمرسين بفنون الحرب والقتال. هكذا وجد العرب الطريق مفتوحا أمامهم وفتحوا البلاد دون مقاومة حقيقية.
جاء في كتابك أن العرب كانوا عنصريين في معاملتهم للأمازيغ، وأنهم تصرفوا معهم حتى بعد إسلامهم كما لو كانوا غير مسلمين؟
هذا صحيح. لكن مع التأكيد على أني لم أقصد كل العرب بل تحدثت عن الحكام الأمويين وسياستهم التي كانت تنظر إلى الأمازيغ نظرة ازدراء واحتقار، ولم يكن يعنيهم من الأمازيغ إسلامهم أكثر مما كانت تهمهم أموالهم ونساؤهم. ولست أنا الذي قلت هذا، فالوقائع التي نقلها إلينا الرواة تؤكد هذه الظاهرة مما لا يدع مجالا لأي شك في حدوثها. وأكتفي هنا بمثال واحد نقله إلينا الطبري في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” عن معاملة الحكام الأمويين للأمازيغ.
فقد روى الطبري أن وفدا من وجهاء الأمازيغ سافروا إلى دمشق لرفع شكواهم إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ضد ولاته في المغرب جراء ما كانوا يعانونه من ظلم وذل ومهانة. وقد قاد هذا الوفد زعيم أمازيغي يدعى ميسرة المطغري.
يقول الطبري:” فَخَرَجَ مَيْسَرَةُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ إِنْسَانًا حَتَّى يَقْدُمَ عَلَى هِشَامٍ، فَطَلَبُوا الإِذْنَ، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ، فَأَتَوُا الأَبْرَشَ، فَقَالُوا: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَمِيرَنَا يَغْزُو بِنَا وَبِجُنْدِهِ، فَإِذَا أَصَابَ أَنَفَلَهُمْ دُونَنَا وَقَالَ: هُمْ أَحَقُّ بِهِ، فَقُلْنَا: هُوَ أَخْلَصُ لِجِهَادِنَا، لا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا إِنْ كَانَ لَنَا، فَهُمْ مِنْهُ فِي حِلٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا لَمْ نُرِدْهُ. وَقَالُوا: إِذَا حَاصَرْنَا مَدِينَةً قَالَ: تَقَدَّمُوا وَأَخَّرَ جُنْدَهُ، فَقُلْنَا لبعضنا: تَقَدَّمُوا، فَإِنَّهُ ازْدِيَادٌ فِي الْجِهَادِ والمثوبة. وَمِثْلُكُمْ من كَفَى إِخْوَانَهُ، فَوَقَيْنَاهُمْ بِأَنْفُسِنَا وَكَفَيْنَاهُمْ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ عَمِدُوا إِلَى مَاشِيَتِنَا، فَجَعَلُوا يَبْقُرُونَهَا عَلَى السِّخَالِ يَطْلُبُونَ الْفِرَاءَ الْأَبِيضَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقْتُلُونَ أَلْفَ شَاةٍ فِي جِلْدٍ، فَاحْتَمَلْنَا ذَلِكَ، وَخَلَّيْنَاهُمْ وما يريدون وقُلْنَا: مَا أَيْسَرَ هَذَا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! ثُمَّ إِنَّهُمْ سَامُونَا أَنْ يَأْخُذُوا كُلَّ جَمِيلَةٍ مِنْ بَنَاتِنَا وتخميس زكاتنا (25 في المائة بدل 2،5 في المئة، مضاعف عشر مرات) فَقُلْنَا: لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَعْلَمَ: أَعَنْ رَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ أَمْ لا؟
قَالَ الأبرش: أفعل إن شاء الله. فلما ملوا الانتظار ولم يأذن لهم هشام، كَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ، وَرَفَعُوهَا إِلَى الْوُزَرَاءِ، وَقَالُوا: هَذِهِ أَسْمَاؤُنَا وَأَنْسَابُنَا، فَإِنْ سَأَلَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنَّا فَأَخْبِرُوهُ، ثُمَّ كَانَ وجههم إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ”. (الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج4، ص. 254،255).
وهذه الممارسات العنصرية المهينة هي التي دفعت الأمازيغ إلى إعلان ثورة عارمة ضد ولاة بني أمية سنة 740م بقيادة ميسرة المطغري أي 30 سنة فقط بعد استقرار الحكم الأموي الإسلامي بالمغرب. وقد وقعت عدة معارك انتصر فيها الأمازيغ على جيوش بني أمية التي هرب عناصرها من المغرب الأقصى والأوسط في اتجاه الأندلس والقيروان حيث تحصنوا، واستطاعوا الصمود في وجه الجيوش الأمازيغية التي تفرقت كلمتها بعد ذلك.
وقد عرفت هذه الثورة في كتب التاريخ بثورة الخوارج حيث تخلى الأمازيغ عن المذهب السني الذي كان معتمدا لدى بني أمية اعتقادا منهم بأن مذهب الخوارج أكثر عدلا ورحمة ووفاء لتعاليم الإسلام الحق. وسوف يعود المغاربة إلى الإسلام السني على مذهب الإمام مالك في القرن الحادي عشر الميلادي مع الدولة المرابطية.
الطابع العنصري للغزو أثاره عدد من المؤرخين في الشرق وفي الغرب، وحتى لا يقال إن الغربيين أعداء الإسلام يكرهون المسلمين، فقد أوردتُ في كتابي شهادات صادرة عن مؤرخين كبار من المسلمين مثل محمد الفاسي وحسين مؤنس المصري وعبد العزيز الثعالبي التونسي وعبد الله العروي. وأكتفي هنا بشهادة هذين الأخيرين: فقد قال الثعالبي في كتابه “تاريخ شمال أفريقيا من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الأغلبية” عن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الذي كان في الحكم أيام الثورة “الخارجية”: “وكان من أشد الخلفاء الأمويين تصلبا في أمر العنصرية وحاكمية العرب…”.
وقال عبد الله العروي في كتابه “الموجز في تاريخ المغرب”: “لا ننسى أن الأمويين جعلوا من الأنفة والحمية العربية عماد حكمهم. كانت السلطة أيام عمر أيضا بين أيدي أقلية، لكن تلك كانت أقلية المستجيبين الأولين لدعوة النبي. أما النخبة المسيطرة على الدولة الأموية، فإنها كانت مؤسسة على العنصرية العربية والنعرة الجاهلية.”.
وهذا كله يؤكد ما قلته عن عدم مراعاة الحكام الأمويين وولاتهم لتعاليم الإسلام التي تساوي بين جميع الأجناس مصداقا للحديث الشريف “لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى”، كما أنهم فرضوا على الأمازيغ أداء الخراج بنسبة الخُمس من إنتاجهم، وهذا أيضا يتنافى مع مساواة المسلمين جميعا في أداء واجباتهم لبيت المال التي كانت تتلخص في الزكوات. فقد كان الأمويون يبررون تخميس الأمازيغ بكونهم لم يدخلوا الإسلام عن طواعية وإنما أجبروا على ذلك كرها. وهذا الكلام يتناقض مع ادعاء بعض المؤرخين المغاربة أن الأمازيغ استقبلوا الإسلام بأذرع مفتوحة ولم يقاوموا العرب أبدا.
هل من كلمة أخيرة؟
كلمتي الأخيرة قلتها في الكتاب، وأود أن أقتطف منها العبارات الآتية:
لا أريد أن يُفهم هذا العمل على أنه تحيز للجنس الأمازيغي ضد العرب لأنه يستحيل أصلا في الوقت الراهن التمييز بين الأجناس التي تتعايش فوق هذه الأرض منذ عدة قرون. فالامتزاج الذي وقع بين سكان المغرب من مختلف الأجناس، والتلاقح الذي حصل في التقاليد والأعراف والعادات والانصهار الناشئ عن التعايش والمعاشرة والمصاهرة لم تترك مجالا لأي ادعاء بصفاء العرق أو بخصوصية الثقافة.
قد نلاحظ هنا وهناك فوارق في بعض العادات والتقاليد، لكنها طبيعية وعادية بين القبائل وحتى بين المداشر من جنس واحد ومن أصل واحد”.
إن الاختلاف الذي نلاحظه في اللسان ما هو إلا دليل آخر على تمسك المغاربة بثقافتهم وخصوصيتهم، لكن هذا لا يعني أبدا أن الناطق باللسان الأمازيغي ينتمي إلى جنس الأمازيغ والمتكلم بالدارجة المغربية ينتمي إلى الجنس العربي. فقد يكون العكس تماما هو الصحيح، والذي لديه أدنى شك لِيجرّب مخاطبة أفراد من قبائل صنهاجة (إقليم تاونات) أو دكالة (إقليم الجديدة) أو هوارة (عمالة إنزكان، إقليم تارودانت) أو لواتة (إقليم صفرو) أو وربة (إقليم تازة) بلغة أجدادهم الأمازيغية، أو يحاول إقناعهم بأصولهم الحقيقية. فقد أضاعوا لغتهم الأمازيغية الأصلية واتخذوا اللسان العربي العامي لغة التخاطب بينهم ظانين أنهم من أصول عربية.
كذلك الشأن بالنسبة للهجة العامية المغربية التي تشتمل على عدد كبير من المفردات والتعابير إلى جانب الكثير من التراكيب والعبارات والصور التي نقلها الأمازيغ المستعربون إلى العامية المغربية، فجاءت في صورة مستعصية على الفهم بالنسبة لعرب المشرق رغم احتوائها على مفردات جلها عربية في معجمها الأصلي.
ومن الناحية العلمية أثبتت الدراسات الجينية أن الجنس الأمازيغي هو السائد في شمال أفريقيا بشكل مطلق ومختلف تماما عن التكوين الجيني لسكان الجزيرة العربية. ليكن إذن واضحا أن قصدي هو تسليط الأضواء من زوايا أخرى على تاريخ بلادنا حتى نعرف من نحن وإلى أين نحن ذاهبون؛ من نكون وماذا نريد أن نكون.
ومن جهة أخرى لا أخفي اعتزازي بالهوية الأمازيغية التي يجب أن تحظى باعتراف الجميع، وخاصة تلك الجهات التي تناهض الأمازيغ وتطعن في مطالبهم الهوياتية بدعوى زعزعة تماسك الأمة وتهديد وحدة البلاد. هذا باطل لا يدافع عنه إلا أصحاب الإيديولوجيات الأحادية والتوجهات الشمولية المُقصية للخصوصيات الثقافية التي تعتبر من صميم الحريات والحقوق الديمقراطية المعترف بها في جميع بلدان العالم.